المروءة عند العارفين: عبادة القلوب قبل عبادة الجوارح

بقلم أ . د / عبدالغنى الغريب
أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر

#قال الإمام فخر الدين الرازى فى كتابه:”مفاتيح الغيب” قيل للسرى السقطى: كيف يجب الإتيان بالطاعة؟ قال: أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر الله عن قولى مرة واحدة: الحمد لله، فقيل: كيف ذلك؟ قال: وقع الحريق فى بغداد، واحترقت الدكاكين، فأخبرونى أن دكانى لم يحترق، فقلت: الحمد لله، وكان معناه أنى فرحت ببقاء دكانى حال احتراق دكاكين الناس، وكان حق الدين والمروءة ألا أفرح بذلك، فأنا فى الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولى: الحمد لله.

أنموذج جليل لرجل عارف بالله، أثمرت عبادته مروءة وإنسانية، وما طابت نفسه بنجاة أمواله وممتلكاته الخاصة، فى الوقت الذى تهلك فيه ممتلكات الناس من حوله، وبلغ من أدبه الرفيع أن يستغفر الله تعالى ثلاثين سنة من تلك المرة التى غفل فيها لوهلة عن مقتضى المروءة، ثم أفاق سريعا على شدة الشعور بالناس، إنه الإنسان النبيل، الناصع القلب، الذى يتعبد إلى الله تعالى صدقا وتقربا، عن معرفة وحضور وخشية، فيمتلئ باطنه بالمروءة

وروى ابن الجوزي في كتابه: «المنتظم» قال:كان إبراهيم النخعي أعور العين، وكان تلميذه: سليمان بن مهران أعمشا ، وفي يوم سارا في إحدى طرقات الكوفة يريدان المسجد، وبينما هما يسيران إذ قال إبراهيم النخعي: يا سليمان، هل لك أن تأخذ طريقا وآخذ أنا طريقا آخر؟ فإني أخشى إن رآنا سفهاء الناس أن يقولوا: أعور يقود أعمشا، فيغتابون ويأثمون، فقال له الأعمش: يا أبا عمران: وما عليك أن نؤجر ويأثمون؟

يا لنبل الأوائل وإحساسهم بالآخرين.

سري السقطي يستغفر الله من حمده إياه أن سلمت دكانه من الحريق، فقد رأى أنه لم يتوجع لوجعهم، وأنه بحمده هذا قد أتى أنانية لا يجب أن يأتيها مسلم ، فحمد الله على نجاة دكانه، ولا شيء في هذا بالطبع، ولكنه من فرط نبله، لام نفسه ثلاثين عاما عليها.

وهذا النخعي لا يحفل بدينه فقط، وإنما يحفل بدين الناس أيضا، فهو لا يريد أن يرافق الأعمش خوف أن يأثم بعض السفهاء إذا اغتابوهما.

لقد بلغ به النبل مبلغا أن يفارق تلميذه خوفا على سيئة تكتب في صحيفة مسلم.

اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يارب العالمين.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا