دولة التلاوة خدمة القرآن الكريم وترسيخ الهوية
19 ديسمبر، 2025
أخبار العالم الإسلامى

أ.د/ مها محمد عبد القادر أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر
تمثل دولة التلاوة ترجمة عملية لتعظيم شعائر الله، فالعناية بتلاوة القرآن الكريم عبادة قائمة على العلم، والانضباط، والخشوع، وتحقيق المقاصد، فالتلاوة في الإسلام أداء تعبدي يقوم على تصحيح المخارج، وضبط الأحكام، وتدبر المعاني، واستحضار عظمة الكلام الإلهي، ومن ثم فإن بناء دولة ترعى التلاوة هو في حقيقته بناء لمنظومة قيمية تحمي القرآن من التحريف الأدائي، والتوظيف الدعائي، والابتذال الفني، وتعيده إلى مقامه كمصدر هداية وتهذيب وبناء للوجدان.
وتقوم دولة التلاوة على مبدأ الجمع بين الإتقان والخشية، فالإسلام دعا إلى تحسين الصوت بالقرآن دون إخراجه عن حد الوقار، كما رسّخ مبدأ التلقي بالسند، وحفظ الأداء من الانحراف، وهو ما يجعل التلاوة مسؤولية شرعية قبل أن تكون موهبة، ومن هذا المنطلق، تصبح رعاية الدولة والمؤسسات للتلاوة ضربًا من السياسة الشرعية في صيانة الدين، وحفظ أحد أعظم مظاهر حضوره في المجتمع، وبناء نموذج إسلامي وسطي يقدم القرآن للناس بلسان عربي مبين، وصوت صادق، وروح خاشعة، بعيدًا عن الغلو أو الاستعراض، وهكذا تتجاوز دولة التلاوة كونها مشروعًا ثقافيًا أو إعلاميًا، لتصبح تعبيرًا عن وعي إسلامي حضاري يدرك أن حفظ القرآن يكون بصوته، وأدائه، ومقامه في القلوب والعقول.
وتحتل مصر مكانة فريدة في تاريخ القرآن الكريم، فهي بلدًا احتضن الإسلام مبكرًا، ونجحت عبر قرون طويلة في بناء منظومة حضارية متكاملة لخدمة كتاب الله، قوامها العلم، والصوت، والمؤسسة، والوجدان الشعبي، وجاء وصيف مصر بـدولة التلاوة ليعكس حقيقة تاريخية وثقافية ودينية، تكونت عبر تضافر الجهود بين الأزهر الشريف، ووزارة الأوقاف، والمؤسسات التعليمية، والإعلام، وصولًا إلى المبادرات المعاصرة مثل مسابقة دولة التلاوة والشراكات الإعلامية.
ونشأت علاقة المصريين بالقرآن الكريم منذ اللحظة الأولى لدخول الإسلام إلى مصر علاقةً تتجاوز إطار التعبد الفردي إلى أفق أشمل من التدين الحضاري؛ حيث صار القرآن حضورًا حيًا في بنية الحياة اليومية، يتردد صداه في المساجد والبيوت والكتاتيب، وفي الأفراح والمآتم، وفي الحقول والأسواق، وفي لحظات العمل والراحة، وبهذا التغلغل تشكل عبر القرون وجدان جمعي مصري تشبع بالقرآن، كمصدر طمأنينة، وميزان قيم، ومكونًا أصيلًا من مكونات الهوية، ومن ثم يعكس هذا التداخل بين القرآن والحياة فهمًا عمليًا لقوله تعالى ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾، حيث أصبح القرآن روحًا تسري في المجتمع، وتهذب الذوق، وتنمي القدرة على التمييز بين التلاوة المتقنة الخاشعة، والتلاوة المتكلفة التي تخلو من الصدق، وهو ما مهد لظهور مدرسة مصرية أصيلة في فن التلاوة، قائمة على الفطرة السليمة وحسن التلقي وتعظيم كلام الله.
ويعد الأزهر الشريف، حجر الزاوية الشرعي والحضاري في بناء دولة التلاوة المصرية، كمؤسسة نهضت بواجب حفظ الدين عبر العلم، فمنذ أكثر من ألف عام، اضطلع الأزهر بمهمة صيانة علوم القرآن والقراءات، وتنظيم تعليمها وفق مناهج علمية دقيقة، تجمع بين الرواية والدراية، وبين صحة السند وجمال الأداء وقد شكل الأزهر، امتدادًا لمدرسة الصحابة والتابعين في التلقي، حيث لا تؤخذ التلاوة إلا بالمشافهة، ولا يعتد بالأداء إلا إذا استند إلى علم وضبط وأمانة، كما إن استقباله لطلاب العلم من مختلف أقطار العالم الإسلامي جاء تعبيرا عن أداءً لرسالة أممية، عاد بها هؤلاء الطلاب إلى أوطانهم سفراء لمنهج مصري وسطي، يترجم الإسلام في صورته الرحيمة المتوازنة، ويقدم القرآن بلسان عربي مبين، وصوت خاشع، وفهم مقاصدي، وقد تبلورت الهوية القرائية المصرية كنتاجًا إسلاميًا مؤسسيًا، وهوية تحمي من الانحراف الفكري أو التوظيف الأيديولوجي، فظل الصوت القرآني المصري بتكوينه الأزهري ترجمة عملية لفهم إسلامي واعي مسؤول يعلي من شأن القرآن بوصفه كتاب الله هداية للعالمين.
وتمثل وزارة الأوقاف المصرية أحد الأعمدة التنظيمية الرئيسة في دعم دولة التلاوة المعاصرة، انطلاقًا من فهم إسلامي يعتبر العناية بالقرآن الكريم جزءًا أصيلًا من مسؤولية ولاية الأمر في رعاية الدين وحفظ شعائره فاتجهت جهودها خلال السنوات الأخيرة إلى بناء منظومة شاملة لرعاية المقرئين وحفظة القرآن، شملت تحديث آليات الإجازة، وتوسيع برامج التدريب، ووضع معايير علمية دقيقة لاختيار الأصوات المؤهلة، بما يحقق مقصدي الإتقان والتعظيم اللذين أكدت عليهما السنة النبوية في قوله ﷺ) الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة)، كما حرصت الوزارة على دمج التعليم القرآني في صميم العمل الدعوي، ليصبح الإمام المصري حاملًا لأمانة التلاوة الصحيحة، ولقدسية النص في صوته وأدائه ولغته وسلوكه، بما يعكس الصورة الكاملة للإمام في التصور الإسلامي عالمًا، قدوة، ومبلغًا أمينًا.
وتعد مسابقة دولة التلاوة نقطة تحول في إحياء المدرسة المصرية الأصيلة في التلاوة، من خلال رؤية إسلامية تعتبر اكتشاف المواهب القرآنية ورعايتها نوعًا من إحياء السنن وحفظ الشعائر، فالمسابقة تهتم بالصوت الجميل وتسعى إلى صقل المواهب وفق مناهج علمية تجمع بين إتقان أحكام التجويد، وسلامة المخارج، وضبط المقامات دون خروج عن روح التلاوة أو تحولها إلى أداء غنائي، وبهذا الفهم، نجحت المسابقة في وصل التراث العظيم للمقرئين الكبار بطموحات جيل جديد من الشباب، يطمح إلى حمل لواء التلاوة في عصر الإعلام الرقمي، مع الحفاظ على أصول المدرسة المصرية التي جعلت الخشوع مقدمًا على الإبهار.
وقد أفرز هذا التراكم المؤسسي تكاملًا واعيًا بين أدوار الأزهر الشريف، ووزارة الأوقاف، ومسابقة دولة التلاوة، والجهات الإعلامية المعنية، منظومة وطنية لصوت القرآن وهي منظومة تقوم، في جوهرها الإسلامي، على ثلاثة مرتكزات متكاملة المرجعية العلمية التي يضمنها الأزهر الشريف كحارس المنهج وضابط العلم، والتنظيم الدعوي والمؤسسي الذي تضطلع به وزارة الأوقاف بوصفها راعية الفضاء الديني العام، والصناعة الإعلامية الحديثة التي تنقل التلاوة إلى الناس بلغة العصر دون إخلال بالضوابط الشرعية، وبهذا التكامل، ترجم مقاصد الشريعة في الجمع بين الأصالة والتجديد، ويعاد تشكيل صورة مصر القرآنية كدولة للتلاوة المنضبطة.
وتستند مسابقة دولة التلاوة في فلسفتها إلى منظور إسلامي راسخ، يدرك أن العناية بالقرآن الكريم، قيام بحق من حقوق الوحي، وأداء لواجب شرعي جماعي يدخل في باب تعظيم كلام الله وصيانته أداء وتلقيًا ونقلًا، فالإسلام وإن تكفل الله فيه بحفظ القرآن نصًا، فقد حمل الأمة شرف المشاركة في هذا الحفظ عبر الإتقان في التلاوة، والتلقي بالسند، ونقل الأداء جيلاً بعد جيل، كما قال تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، ومن ثم، فإن رعاية الدولة المصرية للتلاوة، ودعمها المؤسسي والإعلامي، يعد ضربًا من القيام بالأمانة، وترجمة عملية لمعنى الاستخلاف في خدمة القرآن، بما يجعل دولة التلاوة مشروعًا دينيًا وحضاريًا يتكامل فيه الواجب الشرعي مع الدور الوطني، ويخاطب الداخل والخارج بلغة الوقار والجمال والرسوخ.
ومن الضروري تنبي استراتيجية وطنية للتلاوة تندرج ضمن مقاصد الشريعة في حفظ الدين، وحضوره الحي في القلوب والأسماع، فالتلاوة الصحيحة الموزونة، الخاشعة، تفتح أبواب التدبر، وتعيد وصل المسلم بالقرآن بوصفه هدايةً ومنهج حياة، أن توحيد الجهود المؤسسية، وإنشاء قواعد بيانات للمقرئين والحفاظ، هو تحقيق لمبدأ التنظيم والإحكام الذي حض عليه الإسلام، وجعل الإتقان فيه عبادة، بالإضافة للتوسع في الأكاديميات المتخصصة، مما يعد استجابة إسلامية واعية لأمر النبي ﷺ (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، بحيث يتحقق التعليم الحق بالجمع بين العلم الشرعي، وحسن الأداء، وسلامة المنهج، فدولة التلاوة، بهذا الفهم، تعيد الاعتبار لمفهوم العالم القارئ، الذي يجمع بين صحة التلقي، وجمال الصوت، وصدق المقصد.
وتمثل دولة التلاوة في بعدها الدولي، رسالة مصر الإسلامية الوسطية، التي لطالما قدمت القرآن للعالم بلسان عربي مبين، وصوت متزن، وفهم مقاصدي رحيم، فبعثات التلاوة والمنصات الرقمية أدوات انتشار وأدوات تصحيح صورة، ومواجهة للتأويلات المنحرفة، وتأكيد أن القرآن كتاب هداية وسلام، كما أن الاستثمار الإعلامي في المحتوى القرآني، حين يضبط بالمنظور الإسلامي، يعيد للتلاوة مكانتها بوصفها عبادة تؤدى بجمال وبإحساس مما يرسخ الذوق القرآني الصحيح، خاصة لدى الأجيال الجديدة التي تتشكل وعيها عبر الصورة والصوت.
إن دولة التلاوة امتداد لسلسلة نورانية بدأت منذ نزول الوحي، مرورًا بمدارس القراء الكبار، وانتهاء بجيل جديد يحمل الأمانة، وهي تعبير عن فهم واعي لمعنى أن تكون الدولة راعية للدين وخادمة للقرآن، فدولة التلاوة تجل حضاري لمعنى الاستخلاف في أسمى صوره؛ حيث يتلاقى الرسالة والعلم مع الخشية، وستبقى مصر أمينة على القرآن صوتًا وأداءً ومنهجًا، وقلب العالم الإسلامي النابض، ودار التلاوة الأولى، التي يسمع فيها كلام الله كما أنزل هداية، وسكينة، ونورًا يفيض على البشرية جمعاء.