
بقلم : د. محمد جمال أبو سنينة
مدير المركز القانوني لفض النزاعات
الخبير بمجمع الفقه الإسلامي بكندا
قاضي محكمة الاستئناف الشرعية سابقا
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على معلم البشرية الخير، وبعد:
إن للأسرة أهمية بالغة، لذلك وضع الإسلام المبادئ والقواعد التي تؤسس عليها هذه الأسرة، والتي تكفل لأفرادها حياة فاضلة تقوم على معاني المودة والرحمة والسكن والوئام والسلام، قال الله تعالى: ( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). وظلت الأسرة المسلمة قروناً طويلة متمسكةً بقيم السلام والطمأنينة والترابط والتراحم والتعاطف والتآلف والتكافل، والإحسان والإيثار والمحبة والكلمة الطيبة وصلة الرحم، فكان لها دور فاعل في قوة الأمة ونهضتها.
وفي زمن العولمة وهبوب رياح التغريب، التي ترمي إلى غسل العقول والقضاء على الشخصية، تأثرت الأسرة كثيرا، فتضعضعت بعد أن كانت متماسكة، وتفككت بعد أن كانت نواة قوية، فظهرت مشكلة التفكك الأسري، وباتت الأسرة رهينة تذبذب وحيرة بين قيم الإسلام وبين القيم الوافدة التي تنأى بهذه الأسرة عن هويتها وأصالتها.
ويعتبر التفكك الأسري من أخطر المشكلات التي تواجه المجتمع، حيث أدى إلى قائمة طويلة من الآثار الضارة بدءاً بتزايد انحراف الأبناء مروراً بمشكلة تعاطي الخمور والمخدرات، وشيوع سلوك السرقة لدى صغار السن، وتكاثر الأمراض النفسية الناتجة عن تهدم الأسرة في الآباء والأمهات والأبناء والبنات، وغير ذلك كثير من المشكلات التي يصعب حصرها.
من أجل ايقاف السلوك العنيف بين الزوجين ومحاولة العودة بالأسرة إلى مسارها الطبيعي لتؤدي وظيفتها الطبيعية بهدوء وسلام وطمأنينة في فلا بد من ترسيخ وتطبيق الخطوات التربوية التالية:
الايمان الكامل بقدرة التربية على تشكيل شخصية الإنسان كي يكون سويا تهفو نفسه للرفق والتعايش وتأسيس أسرة قوامها الاحترام المتبادل. قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (إنما العِلْمُ بالتّعلُّمِ، وإِنَّما الحِلْم بالتَّحلُّم، ومَنْ يتحرَّ الخيْرَ يُعْطَهُ، وَمنْ يَتَّقِ الشَّر يُوَقَّهُ).
عدم تبرير العنف ولا بد من الاقرار بأنه سلوك سيئ لا يليق بأحد الزوجين اللجوء إليه ولا حتى التفكير فيه.
التأمل بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم واستلهام هديه الحضاري الرفيع الذي اختطه لأمته إذ جعل الرحمة والرفق والتغافر والصفح سياجا آمنا لحفظ كيان الأسرة. قال تعالى: ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
فتح باب الحوار المتوازن بين الزوجين ورفض التسلط والاستبداد لأي طرف فالإنسان يغريه الشيطان وتطغيه الأهواء فيتجاوز الحدود ولا يأمن على نفسه من الزلل. وعليه فإن النصيحة والتذكير والحوار دعائم تثبيت موازين العدل في الكيان الأسري.
لا بد للزوجين في ساعات المودة والصفاء من الاتفاق على مجموعة قواعد وأساليب لمعالجة الخلافات بينهما. على أن تتصف هذه القواعد بالوضوح والحسم والعدالة والإنصاف. إذ ليس من الحكمة أبدا اتخاذ قرارات مصيرية ساعة الغضب والضيق الشديد فتأجيل الأحكام في مثل هذه الظروف أسلم وأحكم.
الابتعاد عن ذكر المساوئ وعدم التقليل من شأن أو عقل أو عمل أو مكانة أحد الزوجين لأن ذلك يقود لأضرار جسيمة، ولذا يجب الابتعاد عن ذلك بصورة نهائية.
الاحتكام لأهل الفضل والحكمة من الأهل والمتخصصين يكون حتميا إذا فشلت جميع المحاولات في وقف العنف، عملا بقوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا).
التهديد والوعيد واستخدام الأبناء ذريعة لممارسة الضغوط والرضوخ من أسوأ صور العنف والقبول به كواقع أشد خطرا.
تأمل الخبرات المماثلة التي نجحت في التخلص من داء العنف الأسري والتأسي بخطواتها والاسترشاد بطرائقها.
التأكيد المستمر على أن العاقل يبحث عن الحلول الحكيمة ولا يستلم للإذلال أبدا.
ابعاد الطفل عن مشاهدة مشاجرات الأبوين.
ترسيخ مفهوم أن الضرر لا يُزال بمثله. والاساءة لا تقابل بمثلها، ويجب على كل واحد من الزوجين أن يصفح عن زلات الآخر ويتناساها ولا يذكر بها.
المدخل التربوي لوقف العنف إزاء الأطفال
ومن لزوم تحقيق قيم الطمأنينة والسكينة والسلام في الأسرة فلا بد لنا من التعرض للتوجيهات التربوية السليمة التي تقلص العنف في الأسرة والصغار بشكل خاص، فمن الابتلاءات الشديدة للإنسان أن يتجاوز حدوده فيعتدي بالضرب أو الإهانة ويجرح مشاعر أحبابه. إن من المؤسف بل من الخطر أن نشاهد عقوبات قاسية ضد فلذة كبده تجاوزت كل الحدود، ولعل الندم يسيطر بعد ذلك حيث لا ينفع الندم، مما يؤدي إلى الانهيار والتشرذم والضياع، وأبين فيما يلي بعضا من أساسيات التربية الإسلامية التي تحتوي على علاجات جوهرية من شأن تقليص العنف الأسري منها:
التوقف الفوري عن لوم الآخرين والاقرار بأن الأخطاء لدى الآخرين وتقصيرهم ليس مبررا للنزوع نحو الغلظة.
الإيمان بأن الخير والرفق والحلم والأناة عادة تترسخ بالممارسة وتثمر بالمعاهدة والاستمرار.
علينا كآباء التقرب إلى الأبناء عبر مشاركتهم بعض أنشطتهم، قد يكون الأمر صعبا في البداية ولكنه مع الاعتياد والمحاولة المنتظمة تتحول إلى عادة ايجابية.
تأسيس علاقة تفاعلية بين الزوجين، تتيح للطرفين حرية كاملة للتعبير عن الرأي، ومراجعة ونقد الممارسات التأديبية التي تمارس لتهذيب الأبناء في جو من التفاهم وحسن الظن والكلمة الطيبة البناءة الهادفة. حيث يمكن التأديب بلا عقاب بدني متعسف ومن دون توجيه العبارات القاسية المهينة، فإن فضاء التربية أوسع، ولهذا فإن اكتساب مهارات جديدة قوامها الضبط والحزم والوسطية والحكمة من الضرورات التربوية المهمة.
إن الالمام بمبادئ التربية من أساسيات تربية الأطفال، وهي وقاية من المشكلات وتنمية للمهارات وعلاج لكثير من العلل الاجتماعية من مثل العدوان الأسري.
وعليه فإن تبصير الأبناء بحقوقهم وتدريبهم على حماية أنفسهم بحكمة، وإعطائهم الثقة بأنفسهم من الوسائل الحكيمة التي يستطيع الأبوان تدريب الأبناء عليها، وفي ذلك حفظ للجميع من طغيان أو غضب أحد أفراد الأسرة، وهذا يؤدي إلى نبذ التسلط بكافة صورة عند كل أفراد الأسرة.
إن الإنسان مهما بلغ من حسن الأخلاق يحتاج للضبط الاجتماعي إلى جانب الرادع الذاتي والضمير الحي المرتبط بتقوى المولى سبحانه.
لهذا فإن افتقاد أولياء الأمور لمهارات حل المشكلات يضعهم في مواجهات وصدامات أسرية، كان يمكن تجنبها وعلاجها بنهج مغاير. فتأهيل الآباء تربويا واجتماعيا وقانونيا واعلاميا من الخطوات العملية لدحر العنف الأسري.
وقبل كل ما ذكر فإن المحافظة على الفرائض كالصلاة والصيام خير وسيلة لتقوية الإرادة وتهذيب السلوك. فالفرائض بمثابة تدريبات عميقة ويومية ودائمة وشاملة لإعادة شخصية الإنسان وحملها على اعتياد مكارم الأخلاق. قال المولى سبحانه: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ). قال بعض أهل العلم: ” إن المحافظة على الصلاة تنهى صاحبها عن الوقوع في المعاصي والمنكرات; وذلك لأن المقيم لها, المتمم لأركانها وشروطها, يستنير قلبه, ويزداد إيمانه, وتقوى رغبته في الخير, وتقل أو تنعدم رغبته في الشر, ولَذكر الله في الصلاة وغيرها أعظم وأكبر وأفضل من كل شيء. والله يعلم ما تصنعون مِن خيرٍ وشر, فيجازيكم على ذلك أكمل الجزاء وأوفاه”.
العناية بانتقاء الألفاظ فالكلام الفاحش يقود لفعل مماثل فانتقاء القول الجميل أوضح مسلك للارتقاء بوجدان الإنسان وتحسين معيشته.
لا بد من تقوية النسيج الأسري عبر التواصل القلبي المتواصل والمتوازن وتقوية النسيج الاجتماعي واعادة الهيبة للأبوين، والأجداد والأعمام والأخوال، بحيث يصبح بعضهم مؤهلا للتدخل في حال الضرورة لوقف الاسفاف بحكمة، ومنع الانحراف برفق وأناة. المساعي التربوية العلاجية النابعة من اجتهادات أفراد الأسرة هي أقرب سبل الصواب لتقليص المشكلات ومنع الاعتداءات فأهل مكة أدرى بشعابها.
إن مشكلة العنف الأسري مشكلة واسعة الانتشار بلا شك، إلا أنه يصعب معرفة حجم هذه المشكلة لما يحوطها من السرية، هذا لا يمنع من الإيمان بأن التربية الرشيدة، قادرة بعون الله تعالى على معالجة المشكلات التي تعتري الإنسانية وتزيل ترسباتها الناتجة عنها، عبر تنمية الإرادة وتحرير الفكر من التصورات السلبية ومحو الثقافة العدوانية.
إن التزكية المتزنة هي السبيل الأقوم نحو تقويم الأوضاع المنحرفة، وعلاج الأمراض الاجتماعية المستعصية، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَ)، فالموفق من يسر الله سبيله لينمي نفسه دائما بعمل الخير ليمتنع عن ايقاع الضرر والأذى بالناس، خاصة أقرب الناس إليه، وعائلته على وجه الخصوص. فقابلية الإنسان للطغيان تزداد كلما قل الاعتناء بالزاد الإيماني وكلما تم تعطيل العقل عبر اتخاذ مواقف غير عقلانية مشحونة بالعاطفة المدمرة.
إن المطلع على حجم وهول أضرار العنف الأسري، ينتابه شعور مخيف أمام محاولات الإصلاح، لكن الأمل في إصلاح الأمور عبر التربية الواعية الهادئة، والتجارب البشرية، من الدعائم التي تعين على الصمود أمام التحديات، والتقدم قدما نحو العلاج بمزيد من الوسائل العملية لتصويب الأوضاع الأسرية المضطربة.
مجلة روح الاسلام فيض المعارف