حقُّ الوالدَينِ فريضَةٌ
15 ديسمبر، 2025
الحقوق فى الإسلام

بقلم الدكتور: إسلام عوض
مدير تحرير بجريدة الأهرام المصرية
يُعدُّ حقُّ الوالدَينِ مِن أقدسِ الحقوقِ وأعظمِها في الشريعةِ الإسلاميّةِ، وهوَ حقٌّ ذو منزلةٍ فريدَةٍ لم يُجعلْ بعدَ حقِّ اللهِ تعالى حقٌّ يوازيهِ في الأهميّةِ والوجوبِ، وتقديمُ حقِ الوالدينِ ليسَ مجرَّدَ توجيهٍ أخلاقيٍّ، بلْ هوَ قاعدةٌ إيمانيّةٌ راسخَةٌ، حيثُ قرنَ الخالقُ سبحانَهُ وتعالى عبادتَهُ وتوحيدَهُ بالإحسانِ إلى الوالدَينِ، كما جاءَ في قولِهِ تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). إنَّ هذهِ الآيةَ تضعُ العلاقةَ بالوالدَينِ في قلبِ العقيدَةِ، وتؤكّدُ أنَّ الإحسانَ إليهما هوَ جوهرٌ لا ينفصلُ عنِ الإقرارِ بوحدانيّةِ اللهِ.
الوالدانِ هما السببُ المباشرُ لوجودِنا، وهما منبعُ الرعايةِ والتضحيَةِ. فقدْ بذلا جهدًا لا يُقدَّرُ بثمنٍ؛ سهرتِ الأمُّ وتعبَ الأبُ، ووفّرا المالَ والجهدَ لضمانِ حياةٍ كريمَةٍ لأبنائِهِمْا. لذا، فإنَّ الإحسانَ المطلوبَ هنا يتجاوزُ مجرَّدَ المعاملةِ الطيّبَةِ؛ إنَّهُ التزامٌ بتقديمِ كلِّ ما يسرُّهما ويريحُ بالَهُما، بدءًا مِن طاعتِهما في غيرِ معصيَةٍ، ووصولًا إلى الرعايةِ الكاملَةِ والاحتواءِ في أوقاتِ الضعفِ والعجْزِ.
وقدْ خصَّ القرآنُ الكريمُ مرحلةَ الكبَرِ بالتحذيرِ الشديدِ، وهيَ المرحلةُ التي قدْ تزدادُ فيها احتياجاتُ الوالدَينِ وتتغيّرُ أحوالُهُما، وتكونُ الحاجةُ للرحمةِ والصبرِ مضاعفَةً. يقولُ اللهُ تعالى في تتمةِ الآيةِ الكريمَةِ: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا).
ويحملُ التعبيرُ القرآنيُّ البليغُ بكلمةِ (عِندَكَ) دلالةً عميقَةً، فهيَ لا تشيرُ إلى مجرَّدِ المكانِ والعيشِ المشتركِ تحتَ سقفٍ واحدٍ فقطْ، بلْ تشملُ أيضًا معنى الرعايةِ والوصايةِ والتكفُّلِ. إنَّها تشيرُ إلى أنَّ الوالدَينِ وصلا إلى مرحلةِ الضعفِ وهما في كنفِكَ وتحتَ مسئوليّتِكَ ورعايتِكَ، وأصبحا مسئولَينِ مِنكَ في حاجتِهِما، بعدَ أنْ كنتَ أنتَ مسئولًا مِنهُما في صغَرِكَ، وهذا المدلولُ يضاعفُ مِن حجمِ التكليفِ ويستوجبُ مِنكَ أقصى درجاتِ التحمُّلِ والصَّبْرِ.
ويُلاحظُ في هذا التوجيهِ الإلهيِّ أنَّ الكلمةَ الواحِدَةَ التي تعبّرُ عنِ الضجرِ أوِ التبرُّمِ، وهيَ “أُفٌّ”، مُنعتْ منعًا باتًّا، وهذا يؤكّدُ أنَّ أيَّ سلوكٍ أوْ لفظٍ يحملُ في طيّاتِهِ إزعاجًا أوْ تقليلًا مِن شأنِهِما هوَ خروجٌ عنْ مقتضياتِ البِرِّ.
أمّا القولُ الكريمُ فهو اللّينُ والتواضعُ وخفضُ الجناحِ والتقديرُ الذي يليقُ بفضلِهِمْا وتضحيتِهِمْا؛ والإحسانُ إليهما يتسبَّبُ في أنْ يُهيِّئَ اللهُ تعالى للإنسانِ مِن أبنائِهِ مَن يعاملُهُ بالمِثْلِ؛ حيثُ يقولُ اللهُ تعالىَ: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
ولمْ يقفِ التأكيدُ على هذا الحقِّ عندَ النصِّ القرآنيِّ، بلْ عزّزتْهُ السُّنَّةُ النبويّةُ بأسلوبٍ عمليٍّ بليغٍ؛ فعندما سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنْ أفضلِ الأعمالِ، أجابَ: “الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا”، قيلَ: ثمَّ أيٌّ؟ قالَ: “بِرُّ الْوَالِدَيْنِ”، قيلَ: ثمَّ أيٌّ؟ قالَ: “الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”. هذا الترتيبُ النبويُّ يضعُ “بِرَّ الْوَالِدَيْنِ” في مرتبةٍ متقدِّمَةٍ جدًّا، مباشرةً بعدَ الركنِ الأعظمِ وهوَ الصلاةُ، ومقدِّمًا إيَّاهُ على ذروةِ سنامِ الإسلامِ وهوَ الجهادُ، ممّا يدلُّ على مكانةِ هذا الحقِّ في ميزانِ الأعمالِ الصالحَةِ.
ومِن لفتاتِ الحكمةِ النبويّةِ، التوصيَةُ الخاصَّةُ بِبِرِّ الأمِّ، اعترافًا بفضلِها وجهدِها المضاعفِ في التربيَةِ والولادَةِ. فقدْ جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يسألُهُ عنْ أحقِّ الناسِ بحسنِ الصُّحبَةِ، فقالَ لهُ ثلاثَ مرّاتٍ: “أُمُّكَ”، ثمَّ قالَ في الرابعَةِ: “أَبُوكَ”.
هذهِ الوصيَّةُ ليستْ مجرَّدَ تفضيلٍ عاطفيٍّ، بلْ هيَ منهجُ حياةٍ يذكِّرُنا بأنَّ بابَ الخيرِ لا يُغلَقُ ما دامَ أحدُ الوالدَينِ حيًّا. إنَّ العنايةَ بهما، وتفقُّدَهُما، وتحقيقَ احتياجاتِهِما قبلَ أن يسألا هوَ الجوهرُ الحقيقيُّ للبِرِّ.
إنَّ جزاءَ الإحسانِ إلى الوالدَينِ عظيمٌ في الدنيا والآخرَةِ. ففي الدنيا، هوَ سرُّ التوفيقِ والبركَةِ وطولِ العمرِ المقرونِ بالصلاحِ، وهوَ أيضًا سببٌ رئيسيٌّ لاستجابَةِ الدعاءِ.
أمّا في الآخرَةِ، فإنَّهُ طريقٌ ممهَّدٌ إلى الفوزِ بالجنَّةِ ونيلِ رضَا الرحمَنِ. لذلكَ، يجبُ على كلِّ مسلمٍ ومسلمَةٍ اغتنامَ فرصةِ وجودِهِما، واعتبارَ البِرِّ فريضَةً ومغنمًا.
أمّا مَن فقدَهُما، فإنَّ بابَ البِرِّ لا يغلَقُ؛ بلْ يمتدُّ ليشملَ الإكثارَ مِنَ الدعاءِ لهما بالرحمَةِ والمغفِرَةِ، ووصلَ مَن كانا يحبّانِ مِنَ الأهلِ والأصدِقاءِ، فإنَّ هذا مِن أعظمِ البِرِّ المستمرِّ بعدَ الممَاتِ.
وختامًا أهمِسُ في أذنِ كلِّ ابْنٍ وكلِّ ابنَةٍ وأقولُ لهما: بِرُّوا آبَاءَكُمْ يَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ؛ فالجزاءُ مِن جنسِ العمَلِ، و”كَمَا تَدِينُ تُدَانُ”؛ فبرُّ الوالدَينِ مِن أعظمِ القُربَاتِ، والإحسانُ إليهما يتسبَّبُ في أنْ يُهيِّئَ اللهُ تعالى للإنسانِ مِن أبنائِهِ مَن يعاملُهُ بالمِثْلِ؛ ويقولُ اللهُ تعالى في ذلكَ: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) صدقَ اللهُ العظيمُ.