تابع عوارض الأهلية عند الأصوليين (14)
15 ديسمبر، 2025
العلم والعلماء

بقلم فضيلة الشيخ : أبو بكر الجندى
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
عارض الإكراه من العوارض المكتسبة، وهو ليس من فعل الإنسان بنفسه، ولكن من فعل الغير به.
والإكراه هو: حمل الإنسان على أمر ما لا يريده طبعاً أو شرعاً.
شروط تحقيق الإكراه:
ـ أن يكون المكرِه متمكناً من إيقاع ما هدد به، وإلا كان تهديده لغواً لا يُعتد به.
ـ أن يكون المكرَه خائفاً من هذا التهديد.
ـ أن يكون ما هدد به يُلحق ضرراً بالنفس، كإتلاف النفس أو الحبس أو الضرب.
ـ أما التهديد بإتلاف المال فإذا كان المال كثيراً فإنه يتحقق به الإكراه عند الشافعية، والحنابلة، والجعفرية، وبعض فقهاء المذهب الحنفي.
أنواع الإكراه:
أولاً: الإكراه الملجئ، وهو الذي يكون بإتلاف النفس أو عضو منها؛ لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس تبعاً لها، وسمي بذلك لأنه يُلجأ الفاعل ويَضطره إلى مباشرة الفعل خوفاً من فوات النفس أو العضو، وحكمه: أن الرضا فيه يكون معدوماً؛ لأن الرضا هو الرغبة في الشيء والارتياح له، وهذا لا يكون مع الإكراه, والاختيار فيه يكون فاسداً لا معدوماً؛ لأنه يختار ما هو أهون عليه وأيسر.
ثانياً: الإكراه غير الملجئ أو الناقص، ويكون بما لا يتلف النفس أو عضو منها، كالضرب أو الحبس، وحكمه: يُعدم الرضا، ولا يُفسد الاختيار لعدم الاضطرار إلى مباشرة ما أُكْرِه عليه؛ لتمكنه من الصبر على ما هُدد به بخلاف الأول، فلو أتى بالفعل المُكرَه عليه، تحمل هو وحده مسؤولية فعله كاملة، وترتب عليه أثره كاملاً.
هل ينافي الإكراه الأهلية؟
والإكراه بنوعيه لا ينافي الأهليتين، فهما يثبتان بالحياة والعقل والبلوغ، والإكراه لا يسقط الخطاب عن المكرَه.
والإكراه على الأقوال نوعان:
1 ـ إقرارات، ولا يعتبر الإكراه فيها؛ لأن الإقرار يكون عن صدق، وبالإكراه يترجح جانب الكذب، فلا يُعتبر به.
2 ـ تصرفات كالنكاح والطلاق والبيع، والقول الراجح وهو قول الجمهور، أن أي تصرف قولي من المكرَه لا يقع، ولو وقعت عُدَّت باطلاً، واستدلوا بقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}[النحل: 106]، فإن سقط الكفر سقط ما دونه، وحديث: “إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”، وحديث: “لا طلاق في إغلاق”، ومن الدليل العقلي: أن التصرف لا يقع إلا بقصد، ولا قصد للمكره كالمجنون والصبي، فيكون تصرفه لغواً بمنزلة كلام المجنون والنائم.
أما الحنفية فقد فرقوا بين ما يحتمل الفسخ ولا يبطل بالهزل كالنكاح والطلاق، فقالوا تقع صحيحة نافذة، ولا أثر للإكراه فيها، وبين الإنشاءات التي لا تحتمل الفسخ، ولا تصح مع الهزل كالبيع، فإن أثر الإكراه فيها الفساد.
الإكراه على الأفعال نوعان:
1 ـ الإكراه غير الملجئ، إذا أتى المكره بالفعل تحمل هو وحده مسؤولية فعله كاملة، وترتب عليه أثره كاملاً.
2 ـ الإكراه الملجئ، فالأفعال بالنسبة إليه ثلاثة أقسام:
أ. أفعال أباحها الشارع عند الضرورة، كشرب الخمر فيباح للمكره، وإذا امتنع أثم؛ لأن الله تعالى أباحها له، وتناول المباح دفعاً للهلاك عن النفس واجب، فلا يجوز تركه.
ب ـ أفعال يرخص فيها عند الضرورة كإتيان أفعال الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، فإذا فعله فلا إثم عليه، وإن امتنع حتى لحقه أذى كان مأجوراً، ومنه أيضاً إتلاف مال الغير إلا أن الضمان يكون على الحامل له لا على الفاعل.
ج ـ لا يحل للمكرَه أن يقدم عليه بأي حال من الأحوال كقتل النفس، فإن نفس الغير معصومة كنفسه، ولا يجوز للإنسان أن يدفع الضرر عن نفسه بإضرار غيره، فإن فعله كان إثماً، والقصاص يكون على الفاعل عند الشافعية؛ لأن القاتل فعل ما لا يحل له بالإكراه فيثبت الحكم في حقه، ويُقتل الحامل أيضاً لكونه قاتلاً بالنسب، قاتلاً بالسبب.
الإكراه على الزنا: الجمهور على أن الزنا مثل القتل؛ لأن الزنا لا يمكن أن ينسب إلى الحامل؛ إذ لا يمكن أن يزني بآلة غيره، إلا أن الحنفية قالوا بسقوط العقوبة عن الزاني للشبهة، والشافعية قالوا بإقامة الحد عليه بناءً على أصلهم، وهو أن المكرَه (الفاعل) أتى بما لا يحل فعله في الإكراه، فيثبت الحكم في حقه، ولا يمكن إثباته في حق الحامل.
ملخص من كتاب الوجيز في أصول الفقه د/ عبد الكريم زيدان