وجهُك مرآةُ قلبِك

بقلم الدكتور : إسلام عوض مدير تحرير بجريدة الأهرام المصرية 

في فجر الخليقة، عاش أبونا آدم وأمنا حواء، في جنة غناء، حيث النعيم المقيم، والطمأنينة الكاملة؛ فلم يحرمهما الرحمن من شيء في الجنة، إلا من شجرة واحدة، وكانت تلك الشجرة اختبارًا لإرادتهما وطاعتهما. 

ولكن هل يتركهما الشيطان ليتمتعا بالجنة التي طُرِدَ منها شر طردة؟! ولم يضيّع إبليس الفرصة فوسوس لهما بالأكل من تلك الشجرة المحرمة، ووعدهما بالخلد ومُلك لا يبلى. 

واستسلما لتلك الوساوس، وبمجرد أن ذاقا من ثمر الشجرة، تبدلت الحال وانكشفت الأستار، وذهب عنهما النور الذي كان يستر عورتيهما، ولم يعد هناك ستر يواريهما، فبدت لهما عوراتهما، وأخذا يجمعان من ورق الجنة ليسترا ما انكشف منهما. 

وكانت تلك هي اللحظة الأولى التي تجلت فيها آثار المعصية على الإنسان، لم تكن مجرد مخالفة لأمر إلهي، بل كانت فضحًا للجسد والروح، ودرسًا أبديًا لآدم وذريته بأن المعصية لا تخفي قبحها، بل تُظهره.

إنَّ رحلة الإنسان في هذه الحياة هي سعي دائم بين طاعة تسري في روحه فتقرّبه من الله، ومعصية فتبعده عنه، وكما أنَّ لكل عمل ثوابًا أو عقابًا في الآخرة، فإن للطاعة والعصيان آثارًا فوريةً تظهر على الإنسان في دنياه، لا سيما في روحه ومظهره العام، حتى قال أهل العلم إنَّ الطاعة نورٌ يضيء القلب ويظهر في الوجه، والمعصية ظلمةٌ تخيّم على القلب، وتظهر أيضًا في الوجه، أعاذنا الله وإياكم من تلك الظلمة.

الطاعة في جوهرها ليست مجرد أداء للعبادات الظاهرة، بل هي سلوك قلبي متكامل ينعكس على كل جوانب حياة المؤمن، ويمنحه بركةً شاملةً ظاهرةً وباطنةً. 

وإنَّ أولى علامات الطاعة التي يلمسها المرء هي ضياءٌ في الوجه ونورٌ في البدن؛ فالطاعة تُكسب الوجه هيبةً وجمالًا معنويًا يجاوز الحُسنَ المادي، فيبدو الطائع مشرقًا بنور الإيمان، وهو ضياءٌ خفيٌّ لا يدركه إلا أهل البصيرة.

وعلى مستوى القلب والروح، تمنح الطاعة نورًا وسعةً في الصدر، حيث تمحو وحشة الذنوب، وتجعل القلب مطمئنًا منشرحًا، فتُزيل عنه الهموم والغموم، وتُذهب عنه الظلمة والضيق الروحي. 

ولا يقتصر هذا الأثر على الباطن؛ فالطاعة سببٌ رئيسي في سعة الرزق وبركة الوقت، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، كما أنها تمنح العبد الهمة وقوةً في البدن، فيُصبح أكثر نشاطًا وقدرة على التحمل والعمل، على عكس الخمول الذي تجلبه المعصية.

ويجزي الله الطائع محبَّةً في قلوب الخلق، فإذا أحبَّ الله العبد، ألقى محبتَه في قلوب الصالحين والناس، فيجد قبولًا وتوددًا ممن حوله، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾، أي يغرس الله لهؤلاء المؤمنين محبةً وقبولًا في قلوب عباده المؤمنين والصالحين في الأرض، فيجدون القبول والتودد من حولهم دون سبب مادي أو شخصي ظاهر، وهذا يورث العبد العز والرفعة، فالمؤمن معتزٌّ بالله وحده.

والمعصية ليست مجرد مخالفة لأمر الله تعالى؛ بل هي جرحٌ عميق للقلب والروح، وذمٌّ يظهر على صاحبه في الدنيا قبل الآخرة. 

ولعل أوضح دليل قرآني على فضح المعصية لصاحبها بخلاف ما حدث لأبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام، كما ذكرنا، هو قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، وقوله تعالى أيضًا: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾.

وقد لخَّص الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما آثار المعصية القاسية بقوله المأثور: “وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمة في القلب ووهنًا في البدن ونقصًا في الرزق وبُغْضَةً في قلوب الخلق”.

وكما أن للطاعة علامات، فإن للمعصية أيضًا علامات، وأولاها سواد في الوجه، وهو ليس سوادًا حسيًا دائمًا، بل هو حَجْبٌ لذلك النور الإيماني الذي يضيء وجوه الطائعين؛ فترى وجه العاصي، وإن كان جميلًا في صورته، ولكن تكسوه علامات الاضطراب، أو الكآبة، أو قلة الإشراق والبركة. 

كما أنَّ المعصية تورث العبد الذلَّ والمهانة النفسيَّة، فيشعر بالانكسار أمام خالقه، وينعكس هذا على هيئته وسلوكه؛ فيُرى عليه قِلَّة البهاء وفقدان الهيبة.

أما القلب فهو أشد الأعضاء تأثرًا، وتتجلى آثار المعصية فيه في الظلمة والوحشة. فالمعصية تجعل القلب مظلمًا، ويصعب عليه التمييز بين الحق والباطل، ويشعرُ بضيقٍ شديدٍ. 

كما يشعر العاصي بوحشةٍ عظيمةٍ بينه وبين خالقه أولًا، ثم بينه وبين الصالحين والناس، وقد يجد نفورًا وبُغضًا من قلوب الخلق له، والأشد من ذلك، أنها سببٌ في نقص الرزق أو محق بركته، لقول النبي “صلى الله عليه وسلم”: “وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه”. فالمال قد يكون كثيرًا، ولكنه خاليًا من البركة والتوفيق والسعادة.

إنَّ علامات الطاعة والمعصية تُظهر سُنَّة إلهية ثابتة في معاملة العباد: أنَّ الجزاء يبدأ في الدنيا قبل الآخرة؛ فالطاعة حصن ونور يرافقان المؤمن، والمعصية جرح وظلمة تتبعان العاصي، والأمر كله سِرّيٌ وقدري، ولكنه حقيقة ثابتة تؤكد أهمية المبادرة إلى التوبة والاستغفار، لإزالة سواد الذنب واستعادة ضياء القلب والوجه.