أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ
30 أكتوبر، 2025
أخبار العالم الإسلامى

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
الآية الكريمة التي تتلى على مرّ الزمان جاءت لتكشف طبعًا بشريًا قاسياً: نقض العهود والتلون عند تبدل المصالح. وإذا ما تأملنا المشهد الراهن في منطقتنا، فإن ما نراه من ممارسات الكيان الصهيوني يعيدنا إلى نفس الحقيقة القرآنية التي وصفها الله بدقة متناهية، فهم قوم لا يعرفون للعهود حرمة ولا للمواثيق قيمة، يتلاعبون بها كما يتلاعبون بدماء الأبرياء، وكأنهم لم يسمعوا يوماً معنى الوفاء ولا يدركون قدسية الميثاق.
منذ القدم، والتاريخ شاهد على أن اليهود لم يحفظوا عهداً قط، لا مع أنبيائهم ولا مع أقوامهم، نقضوا العهود مع نبي الله موسى عليه السلام، ثم خانوا نبي الله محمد ﷺ في المدينة، رغم المواثيق التي عقدوها معه، فكانت خيانتهم سبباً في طردهم من المدينة بعد أن غدروا وتآمروا على المسلمين مع أعدائهم. واليوم يعيد الصهاينة المشهد ذاته، بنفس الفكر والعقيدة، ولكن بوسائل عصرية أكثر دهاءً وخداعاً.
كم مرة وعدوا بسلامٍ ثم انقلبوا إلى حربٍ وعدوان؟
كم اتفاقية وُقّعت معهم ثم صارت حبراً على ورق؟
كامب ديفيد، أوسلو، مدريد، والهدن المتكررة في غزة، كلها شواهد على كذبهم ونقضهم للمواثيق. كلما أُعلنت هدنة، أعدّوا عدواناً جديداً، وكلما تحدثوا عن “السلام”، أطلقوا صواريخهم على الأطفال وهدموا البيوت فوق رؤوس ساكنيها.
يقيمون الدنيا عاليها سافلها إذا قُتل عددٌ محدود من جنودهم أو مستوطنيهم على يد المقاومة الفلسطينية، وقد رأينا كيف ضجّ العالم وضُخّمت الأخبار حين قُتل ثلاثة عشر صهيونياً بيد أبطال حماس، بينما تجاهلوا عمداً أكثر من عشرة آلاف مفقود تحت الأنقاض في غزة، ينتظرون من ينتشل أجسادهم أو يسمع أنينهم. مشهد إنساني مفزع يقابله صمتٌ دولي مخزٍ وتواطؤ غربيّ مفضوح.
الأبواق الغربية التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان صارت تروّج لكل ما يفعله الصهاينة مهما بلغ من القبح والمهانة، فتبرر جرائمهم، وتصفّق لهم على كل عملٍ مهينٍ ضد الإنسانية، وتُغلفه بشعاراتٍ زائفة عن الدفاع عن النفس. أما حين يُقتل طفل فلسطيني، أو تُباد عائلةٌ بأكملها، فالصمت هو سيد الموقف، وكأن دم العربي أرخص من غيره، وكأن الإنسانية تُقاس بجنسية القتيل لا بآدميته.
إن خستهم لا تعرف حدوداً، وندالتهم فاقت كل تصور، ومكرهم صار سمةً راسخة في تاريخهم. يتحدثون عن السلام وهم يزرعون الحرب، يرفعون راية الحرية وهم يسجنون الأطفال، يتحدثون عن الدفاع عن النفس وهم يقتلون العُزّل في بيوتهم، ويتحدثون عن الأخلاق وهم أول من داس عليها. لقد جعلوا من الكذب منهجاً ومن المكر ديانة، يلبسون ثوب الضحية ليخفوا وجه الجلاد.
ومع كل هذا التزوير والتزييف، يبقى الضمير الإنساني شاهداً على جرائمهم، وتبقى الحقيقة راسخة لا يمحوها ضجيج الإعلام الغربي المأجور. فمهما زيّفوا الصور، ومهما خدعوا العالم بدموعٍ مصطنعة، ستبقى دماء الأبرياء في غزة شاهدة على خيانتهم، وستبقى الآية الكريمة تصفهم أدق وصف: أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ.
إنهم لا يعرفون معنى الوفاء، لأنهم لم يتربّوا إلا على الغدر، ولا يدركون قيمة العهد، لأنهم لم يؤمنوا يوماً بالسلام. سيأتي اليوم الذي ينهار فيه مكرهم، وتنكشف فيه أكاذيبهم، فالله تعالى لا يظلم أحداً، ويمهل لكنه لا يهمل، وسيرى العالم كيف أن من باع ضميره وغدر بعهده، سيذوق من نفس الكأس التي سقاها لغيره. وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون.