فرية عبادة القبور بين تزييف العقيدة واستباحة الدماء وتدمير الإرث الإنساني


بقلم : محمد نجيب نبهان
كاتب وناقد و باحث تاريخي

تُعد فرية “عبادة القبور” واحدة من أخطر الافتراءات التي تم ترويجها في العصر الحديث، والتي ابتدعها ابن تيمية وأعاد إحياؤها محمد بن عبد الوهاب. هذه الفرية، التي قامت على تهم باطلة وشبهات مغلوطة، كانت ولا تزال أداة لتشويه مفاهيم التوحيد، واختلاق مبررات للإرهاب، بالإضافة إلى تدمير الإرث الثقافي والديني الذي يحمل جزءًا من هوية المجتمعات الإسلامية. في هذا المقال، سيتم تناول هذه الفرية من زوايا شرعية وفلسفية وتاريخية، مع الإشارة إلى تأثيراتها العميقة على الفكر والعقيدة الإسلامية، وأثرها المدمر على المجتمعات.

النشأة التاريخية لهذه الفرية

الفرية التي تزعم أن زيارة القبور والتوسل بالصالحين يعد عبادة للأموات ظهرت أولًا في فكر ابن تيمية، الذي كان له تأثير كبير في توجيه الفكر الحشوي المتطرف في القرون التالية. وفي كتابه “الفتاوى الكبرى”، أدلى بتصريحات كان لها دور كبير في تحريف بعض المفاهيم الدينية المتعلقة بالتوسل وزيارة القبور. ابن تيمية، الذي تأثر بفكر المعتزلة وبعض التيارات الفكرية المتطرفة، لم يكن يقتصر في نقده على الممارسات المذهبية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بتكفير أصحاب تلك الممارسات وتصنيفهم كـ”مشركين”. لكنه لم يكن معترفًا بحقيقة أن هذه الممارسات ليست عبادة للأموات، بل هي صورة من صور التوسل والتبرك، التي كانت تمارس بشكل مشروع في تاريخ الأمة الإسلامية.

ثم جاء محمد بن عبد الوهاب ليُحيي هذه الفرية ويوظفها كأداة لتفريق الأمة الإسلامية وتبرير أعمال العنف ضد المخالفين له. في عقيدته الوهابية، استخدم ابن عبد الوهاب نفس المصطلحات التي استخدمها ابن تيمية، بل ووسعها ليشمل المسلمين الذين يزورون القبور أو يطلبون الشفاعة من الصالحين، مؤكدًا أنهم بذلك يشتغلون “بالشرك” ويستحقون القتل.

مغالطة رجل القش وتأصيل الفرية

تتخذ فرية “عبادة القبور” شكل مغالطة منطقية تعرف بمغالطة رجل القش، حيث يتم تصوير القبور والأضرحة على أنها تمثل عبادة للأموات في حين أن الحقيقة عكس ذلك تمامًا. فعندما يزور المسلم قبرًا ويطلب من الله أن يتقبل دعاءه بوساطة الصالحين، لا يكون قد عبد القبر أو صاحبه، بل هو بمثابة التوسل والطلب من الله تعالى استجابة الدعاء عبر شفاعة المؤمنين الأتقياء.

الآيات القرآنية والسنة النبوية التي تحث على زيارة القبور هي دعوة للتذكر والتأمل في الآخرة، كما في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: “زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة”. وإذا كانت الزيارة تهدف إلى التذكر والإتعاظ، فهي ليست عبادة للشخص المدفون. فالعبادة في الإسلام لها شروط محددة، ولا يمكن أن تلتبس مع ممارسات لا تهدف إلا إلى التقرب إلى الله بطلب الدعاء من الصالحين.

التدمير المعرفي والإرث الثقافي

أحد أخطر الآثار المترتبة على هذه الفرية هو تدمير الإرث الثقافي والديني للمجتمعات الإسلامية. إذ استخدم التكفيريون هذه الفرية كذريعة لتدمير المعالم التاريخية والدينية التي تمثل ذاكرة الأمة وهويتها الحضارية.

في سوريا والعراق، على سبيل المثال، تعرضت الأضرحة القديمة للأنبياء والصالحين للتدمير على أيدي التكفيريين، الذين رأوا فيها “شركًا” يجب استئصاله. من بين هذه المعالم التي تم تدميرها قبر الصحابي الجليل سيدنا حجر بن عدي في سوريا و قبر العارف بالله سيدنا محمد النبهان، وقبر الشيخ أحمد الرفاعي في العراق، وغيرها من الأماكن التي كانت تعتبر رموزًا دينية وثقافية. إن تدمير هذه الأضرحة لم يكن مجرد اعتداء على معالم تاريخية، بل كان اعتداءً على ذاكرة الأمة الإسلامية نفسها.

توظيف الفرية في مبررات الإرهاب

الفرية في حد ذاتها كانت إحدى الأيديولوجيات التي استخدمها الإرهابيون لتبرير أعمالهم الوحشية ضد المسلمين الأبرياء. فكما استخدم ابن عبد الوهاب هذه الافتراءات لخلق حالة من التكفير داخل المجتمع الإسلامي، نجد أن هذه الفرية قد تم توظيفها بعد ذلك على يد الجماعات التكفيرية كداعش والنصرة وغيرهم، لتبرير قتل كل من يختلف معهم في الفكر والممارسة. فهذه الجماعات ترى في زيارة القبور عبادة للأموات وتكفيرًا للمسلمين الذين يمارسون هذه الطقوس، مما يبرر لهم استباحة دماء هؤلاء.

علاوة على ذلك، لقد تم استخدام هذه الفرية أيضًا لتبرير تدمير المساجد التاريخية والأضرحة، وهو ما يشير إلى أن هذه الحروب ليست مجرد صراعات فكرية، بل هي صراعات إرهابية تستهدف تفكيك الهوية الدينية والإنسانية للمجتمعات.

النظريات الفلسفية وعلاقتها بهذه الفرية

من زاوية فلسفية، تتعلق هذه الفرية بمفهوم الآخر في الفكر السياسي والفلسفي. فكما في العديد من الثقافات، يتم خلق “الآخر” كوسيلة لتبرير الهيمنة أو العنف ضده. في الفكر التكفيري، يُصوَّر كل من يختلف مع هذه الرؤية كـ”مشرك” يجب استئصاله.

هذا المنطق يعكس أفكارًا شبيهة بنظريات الهيمنة والتفوق، حيث يتم تقسيم العالم إلى “نحن” (أتباع العقيدة الصحيحة) و”هم” (المشركون الذين يستحقون القتل). هذه النظريات تعكس انتهاكًا للقيم الإنسانية الأساسية التي تنبذ العنف والتدمير، وتدعو إلى التفاهم والاحترام المتبادل بين البشر.

إعادة النظر في التأصيل الشرعي لهذه الفرية

من الناحية الشرعية، من المهم التذكير بأن التوسل بالصالحين وطلب الدعاء منهم ليس محرمًا في الإسلام، بل هو أحد السُبل المشروعة للتقرب إلى الله.

فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان قد توسل بنفسه و بالأنبياء إلى الله تعالى في كثير من المواقف، و أيضًا حادثة الصحابي عمر بن الخطاب الذي توسل إلى الله بجاه العباس بن عبد المطلب حينما أجدب الناس.

إن التفريق بين التوسل المشروط بالاعتقاد بأن الله هو وحده النافع والضار، وبين عبادة الأموات التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، هو أمر ضروري لفهم هذا الموضوع من زاوية شرعية صحيحة.

ختامًا إن فرية “عبادة القبور” هي أداة فكرية خطيرة تم ترويجها لتفريق الأمة الإسلامية وزرع الفتنة بين صفوفها، إضافة إلى تدمير تاريخها الثقافي والديني. من المهم أن نعمل على تصحيح المفاهيم التي تم تحريفها عبر العصور، وأن نواجه هذه الأفكار التكفيرية بعقلانية ووعي شرعي وفلسفي. إن الحل يكمن في العودة إلى جوهر الإسلام، الذي يدعو إلى التسامح والاحترام المتبادل بين المسلمين، والتأكيد على أهمية الحفاظ على التراث الثقافي والديني كجزء من هوية الأمة الحضارية.