الفَهْمُ… لُغَةُ النُّورِ لِمَنْ صَفَا قَلْبُهُ لِلَّهِ
25 أكتوبر، 2025
منبر الدعاة

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حسين حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
تمهيد:
في زمنٍ كَثُرَتْ فيه المعلومةُ وقلَّ الفَهمُ، وتزاحمت العقول بالمعارفِ بينما خلتِ القلوبُ من البصيرة، أصبحنا في حاجةٍ إلى وقفةٍ نتأمل فيها معنى “الفَهْم” بوصفه لغةَ النورِ بين العبد وربه، لا مجردَ إدراكٍ ذهنيٍّ للأحكام والنصوص.
ليس كلُّ من سَمِعَ فَهِم، ولا كلُّ من قرأ أدرك، فالفهمُ سرٌّ ربانيٌّ، ونورٌ يُقذَف في القلوبِ قبل أن يُسكبَ في العقول.
وما كان الفهمُ يومًا كثرةَ الحفظِ أو غزارةَ الاطلاع، بل هو صفاءُ القلبِ من كدر الهوى، وطهارةُ النيةِ من شائبةِ الرياء، حتى يتلقّى العبدُ عن ربِّه إشراقَ المعاني بصفاءِ الروح ونقاءِ السريرة.
الفهم.. عطيةٌ لا تُكتسب
الفهمُ ليس نتاجَ الذكاءِ وحده، ولا ثمرةَ الحفظِ أو التكرار، بل هو نورٌ يقذفه اللهُ في القلبِ، فيُبصر به العبدُ ما خفيَ على غيره.
قال تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: 79]
وهذه الآية العظيمة تُقرر أن الفهمَ تفضُّلٌ إلهيٌّ خاصّ، فقد كان داود وسليمان عليهما السلام نبيين كريمين، ومع ذلك خصَّ الله سليمان بالفهم، لِيُعلِمنا أن الفهم رزقٌ يختصُّ به الله من يشاء من عباده.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “العلم ما نفع، وليس العلم ما حُفِظ”،
وفي هذا إشارةٌ إلى أن جوهرَ العلم هو الفهمُ العميقُ لمراد الله، لا مجردُ الحفظِ والتكرار.
الفهم.. نور البصيرة لا ضوء البصر
قد يُضيء البصرُ ما حول الإنسان، لكن البصيرة تُضيء ما في داخله.
وما أكثر من يقرأ النصوص بعينٍ باردة، فيحفظ الألفاظ ويغيب عن المعاني!
قال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “ليس العلمُ بكثرةِ الرواية، ولكن العلمَ نورٌ يقذفه الله في القلب”.
ولذلك ترى قلبَ العابد الصادق يفهم من آيةٍ واحدةٍ ما لا يبلغه المتبحرُ في ألف كتاب، لأن القلبَ الطاهرَ مرآةٌ صافيةٌ تنعكس عليها أنوارُ الوحي.
الفهمُ يمنحُ الإنسانَ طمأنينةً في قلبه، وسكينةً في فكره، وعدلاً في حكمه.
فهو الذي يجعله يرى في البلاء منحة، وفي المنع عطاء، وفي التأخير لطفًا، وفي كل قدرٍ حكمةً لا تُدركها الأبصارُ ولكن تُبصرها القلوبُ المضيئةُ بنورِ الفهم.
قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: 269]
والحكمةُ كما قال المفسرون هي الفهمُ عن الله، والتوفيقُ لإدراك مرادِه في أمره ونهيه.
صفاءُ القلب طريقُ الفهم
من أراد الفهمَ عن الله، فليبدأ بتطهيرِ قلبه.
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 77-79]
فكما لا تمسُّ يدُ المُحدِث المصحفَ إلا بعد الطهارة، كذلك لا تمسُّ أنوارُ الفهمِ قلبًا ملوّثًا بالحسد أو الكِبر أو الرياء.
والصفاءُ هو شرطُ الإلهام، والنقاءُ هو مفتاحُ النور.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي، فأرشدني إلى تركِ المعاصي، وقال: اعلم بأن العلمَ نورٌ، ونورُ الله لا يُهدَى لعاصي.”
فالفهمُ علمٌ ونورٌ معًا، ولا يَسكنُ النورُ في قلبٍ مظلمٍ بالذنوب.
الفهم.. ميزان الحكمة ومفتاح الرشد
الفهمُ هو ميزانُ العدل في الفتوى، وروحُ الحكمة في الحكم، ومفتاحُ الرشد في السلوك.
وبه يرى المؤمن في كل قدرٍ حكمة، وفي كل بلاءٍ منحة، وفي كل تأخيرٍ لطفًا خفيًّا.
قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: 269]
والحكمة هنا كما قال المفسرون هي الفهم عن الله، لأن من فهم عن الله مراده، سار على بصيرة، ولم تزل قدمُه في طريق الحق.
الفهم في سنة النبي ﷺ
قال النبي ﷺ: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» (متفق عليه).
والتفقه هنا أعمُّ من معرفة الأحكام؛ فهو الفهمُ العميقُ لمعاني الشريعة ومقاصدها.
وقال ﷺ أيضًا: «رُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه» (رواه الترمذي).
إشارةٌ إلى أن الفهم ليس في اللسان الذي يروي، بل في القلب الذي يُدرك.
علامة الرضا الإلهي
من فُتح له باب الفهم، فقد رُزق علامةَ رضا الله عليه، لأن الله لا يُلهمُ الفهم إلا لمن أحبَّه واصطفاه.
قال بعض السلف: “إذا أحبَّ الله عبدًا فتح له بابَ الفهم في دينه، وأغلق عنه بابَ الجدال في الناس.”
فالفهم بابُ القرب، وسُلَّم الوصول، وسبيل السعادة في الدنيا والآخرة.
دعاء ختام
فاللهم ارزقنا فهماً عنك يُقرّبنا منك،
ونوراً منك يُضيء لنا دربنا إليك،
حتى إذا أظلمت الدروب، كان في قلوبنا نورُ الفهم دليلاً إليك.
اللهم آمين يا رب العالمين 🌿