سلسلة : مقالات في الفقه الإسلامي المعاصر
بقلم الأستاذ : مهدى صالحى
إن غياب الوعي الحضاري داخل الخصوصية الإسلامية في العصر الراهن ناجم عن الجمود المعرفي والتمسّك بموروث فقهي منصرم له سياقاته الزمنية والمكانية على غير السياق الحضاري الآن؛ومن هنا تتجلّى ثنائية الثبات والتغير فهي مسألة فكرية إسلامية تثير دوافع التقصّي والنقد لذلك الموروث الفقهي والفكري حتى يتحقّق مطلب التجديد المأمول لمسايرة التغيرات الطارئة التي تفرزها عصر الحداثة اليوم بالرغم من أنّ سنّة التغير حقيقة فطرية كونية ومن مبادئ العقل،والحداثة مفهوم مقترن بكلّ منحى تجديدي تطوّري بالقطع مع منزع التقليد والتبعية.
ثم إن التجديد في الفكر الإسلامي والتشريعي على وجه الخصوص هو تلك التقنية العقلية التي تمزج بين الثوابت الدينية العقدية والتشريعية وبين مقتضيات الحداثة اليوم التي بات فيها الوعي الإسلامي يعاني من تقهقر بدافع تأزّم الخطاب الإسلامي العاجز عن تجاوز تلك النزعة الراديكالية الضيّقة وعدم تفتّحه على ثقافة الواقع ومنطق عولمة الاتّصال،ولذلك فالتفتّح على المستجدّات المعرفية والسوسيوثقافية في هذا الواقع لضرورة حتمية لصناعة حداثة إسلامية تنخرط بشكل إيجابي فعّال مع تلك المستجدّات بالاستناد إلى الثوابت الإسلامية .
وإنّ هذا المطلب التجديدي الحداثي يكون بتفعيل ذلك الإعلان النبوي الداعي إلى إقامة تفاعلية بين النصّ الثابت والعصر المتطور من خلال حثّه على الاجتهاد المقاصدي عند تعذّر الدليل القاطع على حلول لما استجدّ من قضايا قائلا:”الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله”.
وهنا اطمئنان نبوي على عدم عجز العقل الإسلامي عن مجابهة مايعترضهم من تحدّيات مغايرة للسياقات السوسيوثقافية أثناء نزول الوحي الذي أحدث قطيعة بين الموروث الجاهلي التقليدي وبين مقاصد الوحي الوظيفية وهي إنضاج الوعي الإنساني ليكون مستخلَفًا وفق منهج الله البيّن ،وبناء على هذه المقاربة يمثّل تنزيل الوحي حداثة إسلامية ذات طابع عالمي خاصيتها الاستمرارية لانبناءه على ذلك التلازم بين فقه المقاصد والمصالح والنزعة الصوفية لأن هذا التلازم كفيل بتقديم رؤية حضارية ينهل منها العقل الإسلامي ماينفعه في سلوكياته التعبّدية ومعاملاته الدنيوية مع وعيه الكلّي بأن الاتجاه الظاهري الحرفي في التفاعل مع النصوص هو اجتثاث لمقاصده المبثوثة في الأوامر والنواهي والدائرة حول المصلحة .وبذلك فإن التشريع يقوم على أحكام مقترنة بجلب تلك المصلحة ويترك آليات تطبيقها للاجتهاد في ضوء عصر الحداثة وعدم مراعاة هذا الأصل الفقهي هو جهل بروح الإسلام ويجعل مقاصده منفصلة عن هذا التطور الحداثي.
في حين أن النزعة الصوفية الذوقية المتناسقة مع الرؤية المقاصدية تشكّل حداثة إسلامية تحدّ من ظاهرة الغلوّ والتطرف الديني بما أن فقه المقاصد يقوم على تغليب الجانب الباطني أكثر من الظاهري وهذا يمثل قاسما مشتركا مع المنهج الصوفي بمختلف مدارسه الذي وضع أسسا معيارية مفادها سلامة القصد المتوجّه لله والتخلّق بأخلاقه مع الله ومع الإنسانية جمعاء رغم الاختلاف ممّا يؤسس لوعي حضاري إسلامي متفاعل مع رهانات التقدّم الحداثي ملتزما بالكلّيات التشريعية القطعية ومقاصدها لأن الفضاء الحضاري الإنساني العالمي يحتكم إلى تلك المنظومة القيمية التي تتّسم بصبغتها الكونية الثابتة وهذه القيم الكونية هي جوهر منهج التصوف ومن أسسه احترام إنسانية الإنسان بصرف النظر عن دينه وجنسه البشري ذلك لأن الإنسانية كافة عباد الله في الوجود مصداقا لقوله ﷺ :للّه أرحم بعباده من رحمة الأمّ بولدها.”