فنّ التغافل… حين يسمو القلب فوق الجراح


بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حمودة الأزهرى الشافعي

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف

التغافل… حكمة النبلاء وعبادة العظماء

★تمهيد

في عالمٍ تموج فيه النفوس بالأنانية، وتتنازع فيه القلوب على الانتصار للذات، يبرز خُلقٌ ربانيٌّ رفيعٌ لا يتقنه إلا الكبار…

إنه فنّ التغافل؛ ذلك السلوك النبيل الذي يسمو بالإنسان فوق الجراح، ويهذّب مشاعره، فيرى الزلّة بعين الرحمة لا بعين الانتقام.

فهو ليس ضعفًا كما يظنه البعض، بل قوةُ العقل ورقيُّ القلب وتمامُ الأدب.

التغافل ليس غفلةً ولا تنازلاً، بل هو فنّ الحكمة، ورفعة الوعي، وسُمُوّ في الأخلاق.

هو أن تملك القدرة على الرد، ثم تختار الصمت، وأن تُدرك الخطأ ثم تعفو عنه حبًّا للسلام، وإيثارًا للأجر.

يا صديقي العزيز، اعلم أن التغافل ليس ضعفًا ولا عجزًا ولا تنازلًا، بل هو فنّ الحكمة، ورفعة الوعي، وسُمُوّ في الأخلاق.

هو أن تملك القدرة على الرد، ثم تختار الصمت، وأن ترى الزلّة بعين الرحمة لا بعين الانتقام، فتصفح حين يُثيرك الغضب، وتُحسن حين يسيء الآخرون.

قال الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾(سورة الأعراف: 199)

آيةٌ جمعت منهج الحياة في كلماتٍ ثلاث: خُذ بالعفو، واصنع المعروف، وأعرض عن الجاهل.

فالتغافل عبادةُ العظماء الذين سكنوا منازل الحِلم، وارتقوا إلى مقامات الصفح.

وقال سبحانه: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة آل عمران: 134)

فكظم الغيظ هو بداية التغافل، والعفو تمامه، والإحسان ذروته.

هي درجاتٌ ثلاث لا يبلغها إلا من زكّى نفسه وهذّب قلبه، وسار في طريق الأنبياء والصالحين.

ثم انظر إلى قوله تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾
(سورة النور: 22)
فمن عفا عن الناس غفر الله له، ومن ستر زلاتهم ستره الله، ومن تغافل عن أخطائهم نال رحمة الله ومغفرته.

نماذج راقية من الأنبياء في التغافل

ومن أروع الشواهد على فنّ التغافل ما قصّه الله تعالى عن نبيّه يوسف عليه السلام، إذ قال: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾ (سورة يوسف: 77)

فلم يُظهر ما في نفسه من علمٍ بما قاله إخوته، بل آثر الصمت والحِلم، فكان ذلك تغافلًا كريمًا نابعًا من حكمة نبيٍّ يعرف متى يتكلم ومتى يسكت، ومتى يُظهر ومتى يُعرض.


وقد أثنى الله تعالى على هذا الخلق نفسه عند سيّد الخلق ﷺ، فقال في شأن حادثةٍ وقعت في بيته الشريف:

﴿عَرَفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)(سورة التحريم: 3)

أي عَلِم بعض ما كان من حديث نسائه، لكنه تغافل عن بعضه تكرّمًا وحِلمًا، فلم يُواجه باللوم، بل ستر وتجاوز، فكان في ذلك قمة النبل والرحمة، وكمال العقل والصفاء.

فانظر كيف اجتمع في أنبياء الله
خُلق الحِلم والتغافل، وكيف جعله الله زينةً لأنبيائه، وعلامةً على رقيّ نفوسهم وتمام رجولتهم.

الفَطِن المتغافل

#قال الحكماء: “تسعة أعشار المروءة في التغافل.”
#وسُئل أحدهم: من أذكى الناس؟ فقال: “الفَطِن المتغافل.”
#فما جمع أحد بين الذكاء والعقل والكرم كما جمعها من عرف ثم عفا، وأدرك ثم تغافل؛ لأن التغافل دليلُ عظمةِ النفس، وقوةِ الضبط، وسموّ القلب.

تغافل النبي ﷺ… مدرسة الأخلاق العليا

لقد جسّد النبي ﷺ هذا الخلق العظيم في حياته كلها، فكان أرحم الناس قلبًا وأوسعهم صدرًا، وقال عليه الصلاة والسلام:
«من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنفِذَه، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يُخيِّره من الحور العين ما شاء».
(رواه أبو داود والترمذي)

وفي الحديث الآخر:«ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا».(رواه مسلم)
فكلما تغافلتَ عن الإساءة، رفعك الله قدرًا، وزادك في العزّ كرامةً ورفعةً.

من وحي الواقع

إن التغافل ليس تجاهلًا للحقيقة، بل فَهمٌ أعمق لها، حيث تُقدِّم الرحمة على المحاسبة، والمودة على الخصام.

هو خلق الأنبياء، وزينة الصالحين، وبلسم النفوس المرهَقة بعيوب البشر.

فتغافل لتزهر المحبة، وسامح لتثمر المودّة، واغضّ الطرف عن الهفوات لتُكتَب لك السكينة والأجر.

فالعمر أقصر من أن نُبدّده في تتبّع الزلات، والقلوب أنقى حين تُسامح، والله يحب من عباده من يعفو ويصفح ويُحسن الظن.


دعاء ختام المقال

فاللهم لا تجعل في قلوبنا غِلًّا ولا ضيقًا، واهدنا إلى خُلق الحِلم، وجمال الصبر، وتمام العفو.
واجعلنا من الذين يعفون عمّن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويغفرون لوجهك الكريم.
برحمتك يا أرحم الراحمين.