خطورة الجمود الفكري وأثر التشدد في تعطيل نهضة الأمة
13 أكتوبر، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
تمهيد:
إن الإسلام دين الوسطية والاعتدال، جاء رحمةً للعالمين، يدعو إلى الفكر المستنير، ويحثّ على التفكر والتدبر، ويرفض الغلو والتعصب والانغلاق. قال الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]
فالأمة الوسط هي التي تسير على منهج التوازن، لا إفراط فيها ولا تفريط، تجمع بين النصوص والعقل، وبين الدين والحياة.
غير أن بعض التيارات التي تُسمّى “سلفية متشددة” خرجت عن هذا التوازن، فجمّدت الفكر، وأغلقت باب الاجتهاد، وأقامت أسوارًا بين الناس وبين تراث علمائهم الأجلاء من الأشاعرة والماتريدية، حتى عطّلت طاقة الأمة الفكرية والروحية، وورّثت الجهل بدل العلم، والخصام بدل الفهم.
الإسلام دين عقل وفكر لا جمود وتلقين
إن من أعظم نعم الله على الإنسان نعمة العقل، وقد كرّم الله الإنسان به، فقال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 24]
والنبي ﷺ دعا إلى استعمال العقل في فهم الدين فقال: «إنما الأعمال بالنيات» (متفق عليه)
فربط صحة العمل بميزان العقل والإدراك.
أما الفكر السلفي المتشدد، فقد ألغى دور العقل في فهم النصوص، وحصر الدين في ظواهر الألفاظ، فوقع في التناقض والتشويه لمعاني الشريعة السمحة، وحرم الأمة من سعة فقهها وعمق مقاصدها.
العلماء الأشاعرة والماتريدية حماة العقيدة الوسطية
لقد حفظ الله الدين بعلماء الأمة الذين جمعوا بين النص والعقل، وفي مقدمتهم الأشاعرة والماتريدية، الذين مثّلوا منهج أهل السنة والجماعة.
فمنهم الفخر الرازي في التفسير، والنووي وابن حجر في الحديث، والسيوطي والزركشي في علوم القرآن، والجويني والغزالي في أصول الفقه.
هؤلاء الأئمة لم يكونوا دعاةَ بدعة كما يزعم الجهال، بل كانوا حماة الدين وورثة النبوة.
قال الإمام تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى:
“اعلم أن الأشاعرة هم جمهور الأمة، وأن مذهبهم هو ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه”.
فمن يحاربهم اليوم إنما يحارب الأمة في تاريخها وعقلها ودينها.
آثار التشدد والجمود على الأمة
حين ساد الفكر المتشدد في بعض البلاد، ظهر:
★التناحر بين المسلمين بسبب التكفير وسوء الظن.
★إهمال العلوم العقلية والاجتماعية بحجة أنها “بدع”.
★انتشار العنف باسم الدين نتيجة الفهم الضيق للنصوص.
★نُفور الشباب من الدين لما رأوه من قسوة وتشويه باسم “السلفية”.
قال النبي ﷺ محذرًا من ذلك:«هلك المتنطعون» (رواه مسلم).
أي: المتعمقون المتشددون في الدين.
المنهج الأزهري نموذج للوسطية
الأزهر الشريف بقي عبر القرون منارة الوسطية والعقل، يجمع بين النقل والعقل، وبين علوم الشريعة وعلوم الحياة، كما قال الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله: “الإسلام دين عقل وحرية، لا دين تقليد وجمود.”
فالأزهر وأئمته من أمثال الإمام علي جمعة والدكتور أسامة الأزهري وغيرهما، هم الامتداد الحقيقي لعلماء الأمة الكبار الذين حفظوا الدين من الغلو والانحراف.
طريق الإصلاح والنهضة
لن تنهض الأمة إلا إذا عادت إلى روح الإسلام الحقيقية، إلى الوسطية والعلم والفهم.
قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112]
فالاستقامة لا تكون بالتشدد ولا بالتهاون، بل بالاعتدال والعلم.
والعودة إلى منهج أهل السنة الأشاعرة والماتريدية ليست عودةً إلى الماضي، بل إحياءٌ للعقل الإسلامي الرشيد، الذي يجمع بين الأصالة والتجديد، وبين عبادة الله وعمارة الأرض.
الخاتمة:
لقد أثبت الواقع أن كل بلدٍ انتشر فيه الفكر السلفي المتشدد، انتشر معه الجهل والانقسام، بينما تزدهر البلاد التي حافظت على المنهج الأزهري الوسطي علمًا وتسامحًا ورحمةً.
فما أحوج الأمة اليوم إلى أن تعود إلى علمائها الراسخين، وتنبذ الجمود والتشدد، لتستعيد نورها الذي أطفأه الغلو، وتنهض من جديد بفكرٍ نيّر يليق برسالة الإسلام الخالدة.