
خطبة بعنوان ﴿بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
للدكتور : أيمن حمدى الحداد
الحمد لله رب العالمين جعل نبيه صلي الله عليه وسلّم أحسن الناس حالاً، وأطيبهم عشرةً فكان بحقٍ خير الناس للناس، وخير قدوة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين ومن أتبع هداهم إلى يوم الدين
أما بعد؛
فيا أيها المسلمون: لقد فطر ربنا تبارك وتعالى الإنسان على العيش بين إخوانه من البشر يخالطهم ويأنس بهم ويتبادل معهم المنافع والمصالح فحوله الجيران والأقارب وهناك زملاء العمل وبحكم هذه المخالطة فإنه قد يصدر من البعض شيء من الإساءة بقصد أو بغير قصد لذلك دعانا ديننا الحنيف إلى دفع السيئة بالحسنة؛ قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾(المؤمنون: ٩٦)، وقال تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت: ٣٤)، وعن أبى ذر الغفاري رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «اتَّقِ اللَّهَ حيثُ ما كنتَ، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ النَّاسَ بخلقٍ حسنٍ» رواه الترمذي.
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «المؤمنُ الذي يخالطُ الناسَ ويصبرُ على أذاهم أعظمُ أجرًا من الذي لا يخالِطُهم ولا يصبرُ على أذاهم قال حجاجٌ خيرٌ من الذي لا يخالطُهم» رواه ابن ماجه.
♦أولاً: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ لقد كانت سيرة سيدنا رسول الله ﷺ تطبيقاً عملياً وتجسيداً واقعياً لهذا التوجيه القرآنى العظيم من ذلك؛
– موقفه مع اليهودى الذى طالبه بدين له قبل حلول الأجل بكل غلظة وفظاظة؛ قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاث خرج رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر وعمر وعثمان في نفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة ودنا من جدار ليجلس أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ، فقلت له: ألا تقضيني يا محمد حقي، فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب لمطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، ونظرت إلى عمر وإذا عيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره فقال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله ﷺ ما أسمع، وتصنع به ما أرى!! فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله ﷺ ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم، ثم قال: «يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن اتباعه، اذهب به يا عمر فأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمر مكان ما زعته» قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟ قال: أمرني رسول الله ﷺ أن أزيدك مكان ما زعتك، قال: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا. فما دعاك أن فعلت برسول الله ﷺ ما فعلت وقلت له ما قلت؟ قلت: يا عمر لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفت في وجه رسول الله ﷺ حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه، يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، فقد اختبر بهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد نبياً، وأشهدك أن شطر مالي – فإني أكثرها مالاً – صدقة على أمة محمد. قال عمر: أو على بعضهم؛ فإنك لا تسعهم، قلت: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله ﷺ، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وآمن به وصدقه وبايعه وشهد معه مشاهد كثيرة ثم مات في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر فرضى الله عنه وأرضاه.
– موقفه ﷺ مع الأعرابى الذى أراد قتله؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رجلًا من المشركين اخترط سيف النبي ﷺ وهو نائم، فقال له: من يمنعك مني؟ فقال النبي ﷺ: «الله»؛ فسقط السيف من يد الرجل، فأخذه النبي ﷺ وقال: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟» قال الرجل: كن خير آخذ، فعفا عنه وتركه» رواه البخاري
– موقفه ﷺ مع المرأة التى وضعت له السمَّ في الطعام؛ لقد عفا عن المرأة اليهودية التي أهدت له شاة مسمومة في خيبر؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ.
فَقَالَ: «مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ قَالَ: عَلَيَّ»، قَالَ: فَقَالُوا: أَلَا نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: «لَا» رواه أبو داود.
– موقفه ﷺ مع أهل الطائف؛ لقد ذهب سيدنا رسول الله ﷺ إلي الطائف سيراً على قدميه لكن أهل الطائف لم يستجيبوا له، وردوه رداً منكراً، وسلطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم، فوقفوا له صفين يلقونه بالحجارة، فأصيب في قدميه، وسال دمه الزكي ﷺ على أرض الطائف، وشج وجه غلامه زيد بن حارثة رضي الله عنه ورغماً من هذا كله لم يرضي بإهلاكهم؛ فعن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالَتْ للنَّبيِّ ﷺ: هلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟
قالَ: «لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لَقِيتُ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أرَدْتُ، فانْطَلَقْتُ وأنا مَهْمُومٌ علَى وجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلَّا وأنا بقَرْنِ الثَّعالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فإذا فيها جِبْرِيلُ، فَنادانِي فقالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ، وقدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، فقالَ ذلكَ فِيما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا» رواه البخارى.
– وفي غزوة أحد، عندما شُج وجهه الشريف وكسرت رباعيته، رفع يديه ودعا: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» رواه البخاري
– موقفه ﷺ يوم الفتح؛ عندما فتح مكة المكرمة وتمكن من رقاب من دَبَّرَ وبالغَ في تكذيبه وأذيَّته من قريش جمعهم وسألهم: «يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟»
قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم،
قال: «لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء».سيرة ابن هشام.
♦ثانياً: الصالحون على الدرب؛ لقد صار الصالحون على منهج النبوة فى دفع السيئة بالتى هى أحسن ومن أبرز هؤلاء؛
– الصديق رضي الله عنه يعفو عن مسطح بن أثاثة؛ لقد كان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة لأنه كان فقيراً، ولَما كان حديث الإفك عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، تكلَّم عنها مسطح مع من تكلموا في حقها، فلما بلغ ذلك أبا بكر، أَقسَم ألا ينفق عليه مرة أخرى، وهنا نزل قول الحق جل وعلا: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(النور: ٢٢)، قال أبو بكر رضي الله عنه: بلى؛ أي: أُحب أن يغفر الله لي وأن يعفو عني، فرد أبو بكر رضي الله عنه النفقة التي كان ينفقها على ابن خالته رغم ما كان منه في حق أم المؤمنين رضي الله عنها.
– عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يعفو عمن سرق ماله؛ ذات يوم جلس عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه يبتاع طعامًا، فابتاع، ثم طلب الدراهم، وكانت في عمامته، فوجدها قد حلت، فقال: لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها، ويقولون: اللهم اقطع يد السارق، الذي أخذها، اللهم افعل به كذا. فقال ابن مسعود: اللهم إن كان حمَلَه على أخذها حاجةٌ، فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب، فاجعله آخرَ ذنوبه.
– أبوذر يعتق الغلام؛ لقد تعمد الغلام إغاظته فقابل ذلك بالإحسان؛
قال أبو ذر رضي الله عنه لغلامِه: لِمَ أرسلتَ الشاة على عَلف الفرَس؟،
قال: أردتُ أن أَغِيظك.
قال: لأجمعن مع الغيظ أجرًا؛ أنت حرٌّ لوجه الله تعالى.
– ولقد سبَّ رجلٌ أبا هريرة، فلمَّا انتهى قال له أبو هريرة رضي الله عنه: انتهيتَ.
قال الرجل: نعم، وإن أردتَ أن أزيدك زِدتُك.
فقال أبو هريرة: يا جارية، ائتني، فسكن الرَّجل، وقال في نفسه: بماذا سيأمرها؟
فقال: أبو هريرة ائتني بوضوءٍ، فتوضأ أبو هريرة وتوجَّه إلى القِبلة.
فقال: اللهم إنَّ عبدك هذا سبني، وقال عنِّي ما لم أعلمه من نفسي، اللهمَّ إن كان عبدك هذا صادقًا فيما قال عنِّي، اللهم فاغفر لي، اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا فيما قال عنِّي، اللهم فاغفر له، فانكبَّ الرجل على رأس أبي هريرة رضي الله عنه يُقبلها.
– وخرج زين العابدين بن علي بن الحسين رضي الله عنهم إلى المسجد؛ فسبه رجل في الطريق، فقصده غلمان زين العابدين ليضربوه ويؤدبوه فنهاهم.
وقال لهم: كفوا أيديكم عنه، ثم التفت إلى ذلك الرجل، وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول، وما لا تعرفه عني أكثر مما عرفته، فإن كان لك حاجة في ذكره – يعني ذكر معايبي – ذكرته لك، فخجل الرجل واستحيا، فخلع زين العابدين قميصه له، وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا ولد رسول الله ﷺ.
إذا كنت بين الجهل والحلم قاعدًا
وخيرت أنَّى شئت فالحلم أفضلُ
– وكانت له جارية تسكب عليه الماء فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه.
فرفع علي بن الحسين رضي الله عنه رأسه إليها!!
فقالت الجارية: إن الله عز وجل يقول: ﴿وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾
فال: قد كظمت غيظي.
قالت: ﴿وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾،
قال لها: قد عفوت عنك.
قالت: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
قال أذهبي فأنت حرّة لوجه الله.
– ولقد دخل عمر بن عبدالعزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمر برجل نائم، فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا، فهمَّ به الحرس، فقال عمر: مه، إنما سألني: أمجنون؟ فقلت: لا.
وصدق الشافعي عندما قال؛
يُخاطِبُني السَفيهُ بِكُلِّ قُبحٍ
فَأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مُجيبا
يَزيدُ سَفاهَةً فَأَزيدُ حِلماً
كَعودٍ زادَهُ الإِحراقُ طيبا
فاتقوا الله عباد الله وتمسكوا بمكارم الأخلاق تفوزوا برضوان ربكم جل وعلا.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لى ولكم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا عباد الله: لقد أعلى الإسلام من قيمة الحوار الذى يقوم على أسس علمية وموضوعية ومرونة فكرية وضبط للانفعالات وقدرة على الاقناع والتأثير حتى يُؤتى ثماره؛
قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (النحل:١٢٥)، وقال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾(العنكبوت: ٤٦)، وعن أبى أمامة الباهلي رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «أنا زعيمٌ ببَيْتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَن ترَك المِراءَ، وإنْ كان مُحِقًّا» رواه أبو داود.
♦ ثالثاً: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؛ لقد أكد القُرآن الكَريم على أن تكون المُجادلة بالحُسنى للإشارة إلى الحوار البنّاء بين جماعتين أو فرقتين أو شخصين مختلفين ومن أمثلة ذلك؛
– مجادلة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام لأبيه؛
لقد استعمل الخليل عليه السلام الأدب الجم فى حواره مع أبيه فكان يستعطفه بقوله: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ (مريم: ٤٢-٤٥)،
–ومجادلته عليه السلام لعبدة الكواكب؛ لقد اعتمد إبراهيم عليه السلام فى حواره على الأدلة المحسوسة المعقولة، ليبين لهم أن هذه الكواكب والنجوم التي يعبدونها عاجزةٌ عن التدبير، مسخرةٌ لا تملك لنفسها تصرفاً، فهي تظهر وتختفي، تقوى وتضعف، ومثلُ ذلك لا يصلُح أن يكون رباً أو إلهاً؛ قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(الأنعام: ٧٥-٧٩)،
– حوار سيدنا رسول الله ﷺ مع أحد الشباب؛ عن أمامة الباهلي رضي الله عنه: أنَّ غلامًا شابًّا أتى النبيَّ ﷺ فقال: «يا نبيَّ اللهِ أتأذنُ لي في الزنا؟ فصاح الناسُ به. فقال النبيُّ ﷺ قَرِّبوهُ ادْنُ فدنا حتى جلس بين يديْهِ. فقال النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ: أتحبُّه لأُمِّكَ فقال: لا. جعلني اللهُ فداك قال: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لِأمَّهاتِهم , أتحبُّه لابنتِك؟ قال: لا. جعلني اللهُ فداك. قال: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لبناتِهم. أتحبُّه لأختِك؟ وزاد ابنُ عوفٍ حتى ذكر العمَّةَ والخالةَ وهو يقولُ في كلِّ واحدٍ لا , جعلني اللهُ فداك , وهو صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقولُ كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه , وقالا جميعًا في حديثِهما – أعني ابنَ عوفٍ والراوي الآخرَ: فوضع رسولُ اللهِ ﷺُ يدَه على صدرِه وقال: اللهمَّ طهِّرْ قلبَه واغفر ذنبَه وحصِّنْ فَرْجَه فلم يكن شيءٌ أبغضَ إليه منه» أخرجه الطبراني.
– حوار سيدنا عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما مع الخوارج؛ لقد تصدى لفكر الخوارج بالحجة والبرهان فى مناظرة علمية رائعة؛ فعندما خرجت الحَرُوريَّة، واعتَزلُوا في دارٍ على حدتهم، وكانوا ستَّة آلاف. فقال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما لعلى بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أبرِد بالصلاة، لعلِّي أكلِّم هؤلاء القوم. قال: إني أخافهم عليك. قال ابن عباس: كلاَّ إن شاء الله، ولبِس أحسنَ ما يكون من حُلَل اليمن، وترجَّل، ودخل عليهم في دارٍ نصف النهار وهم يأكُلون (هكذا في مُعظَم الروايات، وفيه رواية: وهم قائلون) في نحر الظهيرة. فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، فما هذه الحُلَّة؟ قلت: ما تَعِيبون عليَّ؟ لقد رأيت على رسول الله ﷺ أحسنَ ما يكون من الحُلَل، ونزلت: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: ٣٢).قالوا: فما جاء بك؟ قال: أتيتُكم من عند أصحاب النبي ﷺ المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عمِّ النبي ﷺ وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأوِيله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ؛ لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون. فقال بعضهم: لا تُخاصِموا قريشًا؛ فإن الله يقول: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾(الزخرف: ٥٨)،
قال ابن عباس: وما أتيت قومًا قطُّ أشد اجتهادًا منهم، مُسهِمة وجوههم من السهر، كأن أيديهم وركبهم تثنى عليهم، فمضى مَن حضر. فقال بعضهم: لنُكَلِّمنَّه ولننظرنَّ ما يقول. قال: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله ﷺ وابن عمِّه. قالوا: ثلاث. قال: ما هن؟ قالوا: أمَّا إحداهن، فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾(الأنعام: ٥٧)، ما شأن الرجال والحكم؟ قال: هذه واحدة. قالوا: وأمَّا الثانية، فإنه قاتَل ولم يَسْبِ ولم يغنم، إن كانوا كفَّارًا لقد حلَّ سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلَّ سبيهم ولا قتالهم. قال: هذه ثِنتان، فما الثالثة؟ قالوا: ومَحَا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فهو أمير الكافرين! قال: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا. فقال لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله – جلَّ ثناؤه – وسنَّة نبيِّه ﷺ ما يردُّ قولكم، أترجعون؟ قالوا: نعم. قال: أمَّا قولكم: حكَّم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيَّر حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم؛ فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكموا فيه، أرأيت قول الله – تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(المائدة: ٩٥)، وكان من حُكْمِ الله أنَّه صيَّره إلى الرجال يَحكُمون فيه، ولو شاء حكَم فيه، فجاز من حكم الرجال، أنشدكم بالله: أحكم الرجال في صَلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل، أو في أرنب؟! قالوا: بلى؛ بل هذا أفضل. وقال في المرأة وزوجها: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾(النساء: ٣٥)، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟ قالوا: اللهم بل في حقن دمائهم وإصلاح ذات بينهم. قال بن عباس رضي الله عنهما خرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قال بن عباس: وأمَّا قولكم: قاتَل ولم يَسْبِ ولم يَغْنَم، أفتَسْبُون أمَّكم عائشة؟! تستحِلُّون منها ما تستَحِلُّون من غيرها وهي أمُّكم؟ فإن قلتم: إنَّا نستَحِلُّ منها ما نستَحِلُّ من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمِّنا فقد كفرتم؛ ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾(الأحزاب: ٦)، فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج؟ فنظر بعضهم إلى بعض!! قال: أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قال بن عباس رضي الله عنهما: وأمَّا قولكم: محا نفسَه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، قد سمعتم أن نبي الله ﷺ يوم الحديبية صالَح المشركين، فقال لعلي: «اكتب يا علي: هذا ما صالَح عليه محمد رسول الله»، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتَلناك، فقال رسول الله ﷺ: «امحُ يا علي، اللهمَّ إنك تعلم أني رسول الله، امحُ يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله»، فوالله لَرَسُولُ الله ﷺ خيرٌ من علي، وما أخرَجَه من النبوَّة حين محا نفسه، أخرجت من هذه؟
قالوا: نعم. فرجع منهم ألفان، وخرج سائِرُهم فقُتِلُوا على ضلالتهم، قتَلَهم المهاجرون والأنصار.
لله درك يا ابن عباس لقد كنت مُتحلياً بالحكمة متسلحاً بالعلم والفقه.
لله درك يا ابن عباس لقد كنت حريصاً على عودتهم إلى الحقِّ؛ فجعَلَك الله سبباً في هِدايَة ألفَيْن من رجال الخوارج!! لله درك يا ابن عباس لقد ملكت من قوة الدليل والحجة ما كان سبباً فى دحض شُبَه الخوارج!!
فاتقوا الله عباد الله؛ والتزموا أدب الحوار، واحذروا من الجدل بغير علم ولا بينة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن جادل في خصومة بغيرِ علم، لم يزل في سخط حتى ينزع» رواه أبو داود.
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: لا تعلَّموا العلمَ لثلاث: لتماروا به السُّفهاء، وتجادلوا به العلماءَ، ولتصرفوا به وجوهَ النَّاس إليكم، وابتغوا بقولكم ما عِند الله؛ فإنَّه يدوم ويبقى، وينفد ما سواه،، جامع بيان العلم؛ لابن عبدالبر.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: «ما ضلَّ قومٌ بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال»، ثم تلا قولَ اللهِ تعالى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا﴾(الزخرف: ٥٨)، رواه الترمذي.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وأقم الصلاة
كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
الجمعة ٢٥ من ربيـع الآخــر ١٤٤٧ هجرياً
الموافق ١٧ من أكتــوبر ٢٠٢٥ ميلادياً
فيا أيها المسلمون: لقد فطر ربنا تبارك وتعالى الإنسان على العيش بين إخوانه من البشر يخالطهم ويأنس بهم ويتبادل معهم المنافع والمصالح فحوله الجيران والأقارب وهناك زملاء العمل وبحكم هذه المخالطة فإنه قد يصدر من البعض شيء من الإساءة بقصد أو بغير قصد لذلك دعانا ديننا الحنيف إلى دفع السيئة بالحسنة؛ قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾(المؤمنون: ٩٦)، وقال تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت: ٣٤)، وعن أبى ذر الغفاري رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «اتَّقِ اللَّهَ حيثُ ما كنتَ، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ النَّاسَ بخلقٍ حسنٍ» رواه الترمذي.