خطبة بعنوان  ( بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) للدكتور مسعد الشايب 

خطبة بعنوان  ( بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
للدكتور/ مسعد الشايب 

(من أدب الحوار والتعبير عن الرأي)

الجمعة الموافقة 27من ربيع الأول 1442هـ الموافقة 13/11/2020م

الجمعة الموافقة 25 من ربيع الثاني 1447هـ الموافق 17 من أكتوبر 2025م

لتحميل الخطبة pdf اضغط  أدناه
بالتي هي أحسن

أولا: العناصر:

1. مقدمة هامة.
2. معنى الحوار، وبيان أهم أهدافه.
3. بعضٌ من آداب الحوار والتعبير عن الرأي.
4. الخطبة الثانية: (الحوار هو الفريضة الغائبة).

ثانيا: الموضوع:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صادق الوعد الأمين، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

(1) مقدمة هامة:

من الموضوعات القرآنية الهامة (الحوار) فقد حاور القرآن الكريم الكفرة والملاحدة، وحاور العصاة والطغاة والجبابرة، وساق مشاهد عديدة لحوار الأنبياء مع أممهم وأقوامهم، وساق حوار المجادِلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والأعجب من كل ذلك أنه ساق حوار ساكني جهنم مع زبانيتها يوم القيامة، إلى غير ذلك من الحوارات المتعددة.

وقد علمتنا الشريعة الإسلامية (قبولَ الحوارِ، والتعبيرَ عن الرأي، والسماحَ بإبدائه) بغض النظر عن الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وبغض النظر عن الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحرّ والعبد، وبغض النظر عن الجنس والتوجه واللسان واللون، وقد زينّت الشريعة الإسلامية ذلك الحوار وهذا التعبير عن الرأي بأصولٍ وآدابٍ وسننٍ وشروطٍ، فتعالوا بنا أحبتي في الله بإذن من الحق تبارك وتعالى في لقاء الجمعة الطيب المبارك لنعايش بعضًا من آداب الحوار والتعبير عن الرأي في شريعتنا الإسلامية الغراء، فأعيروني يا عباد الله القلوب وأصغوا إليّ بالآذان والأسماع، فأقول وبالله التوفيق:

(2) معنى الحوار، وبيان أهم أهدافه:

الحوار: مشتقٌ من الحور أي: الرجوع إلى الشيء أو عن الشيء، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ}[الإنشقاق:14]، أي: ظن الكافر أنه لن يرجع ويعود إلى ربه يوم القيامة. والمحاورة: هي المراجعة في الكلام، والإدارة للكلام على وجوهه، ومنه قولهم: (حَوَّرَ خُبْزتَهُ)، أي: أَدارَها ليلقيها في الْمَلَّةِ (الرماد الحار أو الكانون أو النار).

ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس: المناقشة بين طرفين أو أطراف، بقصد تصحيح كلامٍ، وإظهار حجَّةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، وردٍّ للفاسد من القول والرأي.

وقد جاء الحوار في الشريعة الإسلامية لأهداف دعوية، ودينية عظيمة، ولم تسق الشريعة الإسلامية نماذجه لنا اعتباطًا أو تسلية وترفيهًا كما هو الحال في غيرها، وإنما لبيان وإيضاح هذه الأهداف والمقاصد، والتي جاءت كالتالي بالاستقراء والتتبع كالتالي:

1ـ إقامة الحجة على الكفرة والمشركين: فالغاية من الحوار إقامة الحجة وإظهار الأدلة التي تؤيد الحق وتقرره، وخير مثال لذلك: ما جاء في سورة الواقعة من حوار الله (عزّ وجلّ) مع الكفرة والمشركين، وإقامة الحجة عليهم بسرد الأدلة التي تؤيد استحقاقه وحده بالعبادة دون أصنامهم، قال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ*أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ*أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ*نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ*عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ*وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ*أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ*لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُون*إِنَّا لَمُغْرَمُونَ*بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ*أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ*أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ*لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ*أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ*أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ*نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ*فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:57ـ74]، ومن هذه الأهداف أيضًا.

2ـ كشف الشبهات والرد على الأباطيل حتى لا تؤثر على المؤمنين: فليست الغاية من الحوار إقامة الحجة بإظهار الحق وحسب، بل إن من مقاصده وأهدافه أيضًا تبديد ما عليه المخالفون من أوهامٍ وضلالات، والتحذير من كل ذلك، وصدق الله إذ يقول: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55 ]، وخير مثال لذلك ما كان بين أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام)، والنمروذ، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:158]، ومن هذه الأهداف أيضًا.

3ـ الدعوة بالحسنى وكسب القلوب: فالحوار الهادئ مفتاح للقلوب، وطريق إلى النفوس، وسبيل إلى دعوة الحق، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النحل:125].

وخير مثال لذلك: ما كان من حوار بين نبينا صلى الله عليه وسلم والشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا، فعن أبي أمامة (رضي الله عنه): إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه. مه. فقال: (ادْنُهْ). فدنا منه قريبًا. قال: فجلس، فقال: (أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟). قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ). قال: (أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟). قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك قال: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ). قال: (أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟). قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ). قال: (أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟). قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ). قال: (أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟). قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ). قال: فوضع يده عليه وقال: (اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ). قال (أبو أمامة): فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. (رواه أحمد والطبراني في الكبير)، من هنا كان الجهاد في الشريعة الإسلامية لتأمين طريق الدعوة وتهيئة أجواء الحوار الهادف، وإزالة كل سلطان وطغيان يقف عقبةً في طريق بيان الحق، ومن هذه الأهداف أيضًا.

4ـ تقريب وجهات النظر: فمن أهداف الحوار ومقاصده تضييق هوة الخلاف، وتقريب وجهات النظر، وخير مثال لذلك ما كانت من المرأة التي حاورت سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فقد خطب ذات مرة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى الرجال أن يزيدوا في مهور النساء عن أربعمائة درهم من الفضة، ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت له يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم. قال: (نَعَمْ). فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن. قال: (وأيُّ ذلك؟). فقالت أما سمعت الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[النساء:20]. فقال: (اللهم غُفرَا، كلُّ الناس أفقهُ من عمرَ. قال: ثم رجع، فركب المنبرَ، فقال: أيُّها الناسُ، إنِّي كنتُ نهيتكم أنْ تزيدوا النساءَ في صُدُقهنَّ على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يُعطِيَ من مالِهِ ما أحبَّ)(مسند الفاروق لابن كثير)، ومن هذه الأهداف أيضًا.

5ـ التعرف، وتبادل الآراء والأفكار: فبالحوار نتعرف على أطروحات الطرف الآخر ووجهات نظره وحججه في القضايا التي هي موضوع الحوار، في مقابل تعريفه بما يغيب عنه أو يلتبس عليه من أصول ديننا ومحاسنه، فهو وسيلة سلمية يسيرة لتبادل الآراء وتلاقح الأفكار وصولا إلى رأي سديد يجتمع عليه الناس أو لتقريب وجهات النظر وتفهُّم المواقف.

وخير مثال لذلك: ما كان بين سيدنا عمر (رضي الله عنه) الذي وافق الوحي في ما يقرب من خمسة وعشرين موضعًا وسيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، فقد رفعت لعمر (رضي الله عنه) امرأةٌ ولدت لستة أشهر، فأراد أن يرجمها فجاءت أختها إلى علي (رضي الله عنه)، فقالت: إن عمر يريد أن يرجم أختي، فأنشدك الله إن كنت تعلم أن لها عذرًا لما أخبرتني به. فقال علي: (إن لها عذرا). فكبرت تكبيرة سمعها عمر من عنده، فانطلقت إلى عمر فقالت: إن عليًا زعم أنّ لأختي عذرا، فأرسل عمر إلى علي: (مَا عُذْرُهَا؟). قال: (إِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) يَقُولُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}[البقرة:233] وَقَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف:15]، فَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالْفَصْلُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا). فخلى عمر (رضي الله عنه) سبيلها، وولدت بعد ذلك لستة أشهر. (مصنف عبد الرزاق)، ومن هذه الأهداف أيضًا.

6ـ الرد على أهل الزيغ والضلال، وبيان سقوط آرائهم: من أصحاب وأتباع الفرق الضالة المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة، والتي تسيء إلى هذا الدين؛ إذ تعطي صورةً سلبيةً لا تليق بإيجابيةِ هذا الدين وعظمته وسماحته وروعته، وخير مثال لذلك ما كان من مناظرة ابن عباس (رضي الله عنهما) للخوارج، المعارضين للإمام على (رضي الله عنه)، وهي تحتاج لخطبة كاملة إن شاء الله.

(3) بعضٌ من آداب الحوار والتعبير عن الرأي:

علمتنا الشريعة الإسلامية في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم آدابًا شتى للحوار والتعبير عن الرأي حتى يؤتي ثماره وفائدته المرجوة منه إن شاء الله، من هذه الآداب:

1ـ الصدق وإخلاص النية في الحوار، بأن يكون الهدف منه تصحيحَ الكلامِ والمعتقداتِ من الأقوالِ والأفعالِ، والوصول إلى الحق، ودفع الباطل وردّه، وليس للغلبة أو الشهرة أو السمعة والمفاخرة والمباهاة، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى…) (رواه البخاري)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ) (متفق عليه).

ومن علامة الصدق والإخلاص في نية الحوار، أن يفرح المحاور إذا ظهر الصدق على لسان خصمِه ومخالفِه، ولا يتمنى وقوعه في الخطأ، فهذا إمامنا الشافعي (رحمه الله) يقول: (مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا أَحْبَبْتُ أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ، وَيَكُونَ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنَ اللَّهِ وَحِفْظٌ. وَمَا نَاظَرْتُ أَحَدًا إِلَّا وَلَمْ أُبَالِ بَيَّنَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِي أَوْ لِسَانِهِ)(حلية الأولياء)، ومن هذه الآداب أيضًا:

2ـ التزام الحسن والطيب من الكلام، فمن أهم عوامل نجاح الحوار استعمال الكلام الحسن الطيب الذي يؤلف القلوب ويأسرها، والابتعاد عن البذاءة والفحش من الكلام، فالقرآن الكريم أمرنا في الكثير من آياته بنطق الحسن من الكلام، وخصوصًا عند الجدال والحوار والدعوة إلى الله، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة:83]، وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء:53]، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت:46]، وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت:35،34].

وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن البذاءة والفحش في الكلام، وبيّن ووضح أن الله (عزّ وجلّ) يبغض من كان كذلك فقال: (لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ) (رواه الترمذي)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ) (رواه الترمذي)، ومن هذه الآداب أيضًا:

=====

3ـ التحلي باللين والرأفة والابتعاد عن الشدة والقسوة والغلظة والعنف، وهذا أيضًا عاملٌ من أهم عوامل نجاح الحوار، وانظروا إلى الحق تبارك وتعالى وهو يوجه نظر موسى وهارون (عليهما السلام) بالتزام اللين في الحوار مع الفرعون لعل ذلك يؤتي بالفائدة والثمرة المرجوة من الحوار، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:44،43]، وقد رأينا حوار نبينا صلى الله عليه وسلم مع هذا الشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا، ولولا رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورأفته ولينه ما نجح في إبلاغ رسالة ربه، وما نجح في تأليف القلوب من حوله، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:159]، ومن هذه الآداب أيضًا:

4ـ التواضع والعدل والإنصاف في الحوار، بالابتعاد عن الكبر والاستبداد، والإذعان للحق والاعتراف به إذا كان مع المخالف والخصم مهما كان وضعنا ومهما كانت درجتنا ومهما كان منصبنا، قال صلى الله عليه وسلم: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ). قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: (إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ) (رواه مسلم)، وقد رأينا عمر الفاروق (رضي الله عنه) يذعن للحق وينزل على رأي امرأة.

عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

(الخطبة الثانية)
((الحوار هو الفريضة الغائبة))

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أيها الأحبة الكريم إن الحوار والتعبير عن الرأي هو الفريضة الغائبة في مجتمعاتنا اليوم، ويترتب على ذلك أضرارٌ كثيرة، كالآتي:

1ـ غياب الحوار في البيوت والأسر: بين الرجل وأولاده، والزوج وزوجته…وهكذا، مما يؤدي إلى كثرة المشاكل الأسرية، ويؤدي إلى نفور الأبناء وتمردهم على الوالدين، وأحيانًا يؤدي للفرقة بين الزوجين وهدم الأسرة وتشريد الأبناء…الخ.

2ـ غياب الحوار المجتمعي بين جميع أطيافه: بين الجيران في السكن، والزملاء في العمل، وأصحاب المصالح وبعضهم البعض مما يترتب عليه أيضًا كثرة المشاكل المجتمعية كاعتداء الجيران على بعضهم البعض، كما أنه يؤدي إلى ضعف الرؤى والأفكار في خدمة هذا المجتمع، إذ أن الحوار يثرى الرؤى والأفكار ويقدم حلولا عديدة للمشاكل التي تواجه المجتمعات.

3ـ غياب الحوار بين المجامع العلمية وأصحاب المذاهب الفقهية: مما يترتب عليه اختلاف الفتاوى وبلبلة العوام، وفقدهم الثقة في العلماء.

غياب الحوار بين القوى السياسية: مما يترتب عليه ضياع حقوق الوطن، ولعل أصدق مثال على ذلك ما بين حركتي فتح وحماس في فلسطين.

4ـ غياب الحوار بين القوى الإقليمية والعالمية: والذي يترتب عليها اشتعال نار الحروب الخفية والمعلنة التي تأكل الأخضر واليابس وتؤدي لدمار البشرية ككل، ولعل أصدق مثال على ذلك ما كان من الحربين العالميتين الأولى والثانية.

فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به كاملين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.

كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب