الصلاة المشيشية.. أنوارٌ تتنزّل من الحضرة المحمدية
11 أكتوبر، 2025
قبس من أنوار النبوة

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
شرح وبيان لعظمتها وأسرارها كما رآها أهل الله
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَنْ مِنْهُ انْشَقَّتِ الأَسْرَارُ، وَانْفَلَقَتِ الأَنْوَارُ، وَفِيهِ ارْتَقَتِ الحَقَائِقُ، وَتَنَزَّلَتْ عُلُومُ آدَمَ فَأَعْجَزَ الخَلائِقَ، وَلَهُ تَضَاعَفَتِ المَعَارِفُ، وَفِي مِيزَانِهِ تُوْضَعُ المَوَازِينُ، وَبِسِرِّهِ انْخَرَقَتِ الحُجُبُ، صَلاَةً تَلِيقُ بِكَ مِنْهُ إِلَيْهِ، كَمَا هُوَ أَهْلُهُ، اللَّهُمَّ إِنَّهُ سِرُّكَ الجَامِعُ الدَّالُّ عَلَيْكَ، وَحِجَابُكَ الأَعْظَمُ القَائِمُ لَدَيْكَ، اللَّهُمَّ الْحَقْنِي بِنَسَبِهِ، وَحَقِّقْنِي بِحَسَبِهِ، وَعَرِّفْنِي إِيَّاهُ مَعْرِفَةً أَسْلَمُ بِهَا مِنْ مَوَارِدِ الجَهْلِ، وَأَغْرَفُ بِهَا مِنْ بَحَارِ الفَضْلِ، وَاحْمِلْنِي عَلَى سَبِيلِهِ إِلَى حَضْرَتِكَ، حَمْلاً مَحْفُوفًا بِنُصْرَتِكَ، وَاقْذِفْ بِي عَلَى البَاطِلِ فَادْمَغْهُ، وَزُجَّ بِي فِي بَحَارِ الأَحَدِيَّةِ، وَانْشُلْنِي مِنْ أَوْحَالِ التَّوْحِيدِ، وَأَغْرِقْنِي فِي عَيْنِ بَحْرِ الوَحْدَةِ، حَتَّى لاَ أَرَى وَلاَ أَسْمَعَ وَلاَ أُوجَدَ وَلاَ أُحِسَّ إِلاَّ بِهَا، وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَيْهِ صَلاَةً تُنِيرُنِي بِهَا، وَتَجْعَلُنِي بِهَا مِمَّنْ أُقِيمَ فِي مَقَامِ التَّقْرِيبِ، وَتُحَبِّبُ إِلَيَّ فِيهَا طَاعَتَكَ، وَتُبَغِّضُ إِلَيَّ مَعْصِيَتَكَ، وَتَجْعَلُنِي مِنَ الرَّاضِينَ المَرْضِيِّينَ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَتِهِ، وَاسْقِنِي مِنْ حَوْضِهِ شَرْبَةً هَنِيئَةً مَرِيئَةً، لاَ أَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
تمهيد:
ما من عملٍ يفتح أبواب الرحمة، ويزيل الكروب، ويجلي ظلمات القلوب، مثل الصلاة على سيدنا محمدٍ ﷺ، فهي مفتاح الفيوضات، وسرُّ السعادات، وبها تُستنزل البركات، وتُستجلب الرحمات، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
ومن أروع الصيغ التي عبّرت عن عظمة مقام النبي ﷺ، وعن حقيقة الأنوار التي تنبثق من ذاته الشريفة، تلك الصيغة التي نُسبت إلى القطب الرباني مولاي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه، شيخ القطب الشاذلي، والتي عُرفت بـ الصلاة المشيشية.
وقد كان كبار العلماء والأولياء، ومنهم الإمام عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الشريف، يواظبون على هذه الصيغة الجليلة، حتى شهد بنفسه تجلياتٍ نورانية عجيبة، إذ رأى حروفها تتلألأ ضياءً وسناءً، فعلم أن الله فتح له باب الفرج والرحمة ببركتها.
قوله: معنى قولنا «اللهم صلِّ على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار»
هذه العبارة تفتتح الصيغة ببيان مقامٍ عظيمٍ للنبي ﷺ؛ فهو منبع الأسرار الإلهية، ومطلع الأنوار الربانية.
فالسرّ في اللغة ما خفي عن العقول والأبصار، والمقصود أن جميع الأسرار الكونية والمعارف الإلهية إنما ظهرت من نوره ﷺ، كما ورد في الحديث المشهور عند أهل المعرفة: «أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر».
فمن نوره انبثق الوجود، ومن سره انكشفت الحقائق، فهو باب الفيض الإلهي الذي تمر منه التجليات إلى العالمين.
أما قوله «وانفلقت الأنوار»، فمعناه أن الأنوار التي تملأ الوجود — أنوار الهداية والإيمان والمعرفة — إنما تفجرت من بحر نوره ﷺ، فصار وجوده الشريف شمس الوجود، ومصباح العوالم.
ولهذا قال الشيخ ابن عطاء الله السكندري في «الحكم»: «من أشرقت بدايته أشرقت نهايته، وما من بدايةٍ أشرقَت إلا من نور النبي ﷺ».
قوله: «وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجزت الخلائق»
أي أن الحقائق الكبرى في المعرفة والوجود بلغت كمالها في شخص النبي ﷺ، فهو الإنسان الكامل الذي جمع بين ظاهر الشريعة وباطن الحقيقة.
و«تنزلت علوم آدم» أي أن كل ما أودعه الله في آدم من علم الأسماء والحقائق أفيض على قلب النبي ﷺ مضاعفًا، حتى أعجزت الخلائق عن إدراك كماله.
قال الإمام عبد الكريم الجيلي في الإنسان الكامل: «إن محمداً ﷺ هو الصورة الجامعة لكل حقائق الوجود، ومنه تفاض العلوم على سائر الأنبياء».
قوله: «وبه تضاعفت المعارف، وفي ميزانه توضع الموازين»
أي أن معارف الخلق تضاعفت ببركته، فكل علمٍ نافع، وكل معرفةٍ موصلة إلى الله، هي من أثر نوره ﷺ.
أما قوله «وفي ميزانه توضع الموازين»، فيشير إلى أن ميزان العدل الإلهي يُقاس على سنته وهديه، فمن وافق هديه رَجُحت كفته، ومن خالفه خفّت موازينه.
قال سيدي أحمد الرفاعي رضي الله عنه: «كل طريقٍ إلى الله مسدودة إلا من باب النبي ﷺ».
قوله: «وبسره انخرقت الحجب»
أي أن السرّ المحمدي — وهو جوهر النور الذي أودعه الله فيه — هو الذي يخرق الحجب بين العبد وربه، فبمحبته ومعرفته تنكشف الغشاوات عن البصيرة، ويصل القلب إلى مقام المشاهدة.
وقد قال أهل الله: «من أحبّ النبي ﷺ صدقًا، كُشف له من أنوار الحق ما لا يُكشف لغيره».
قوله: «اللهم صلِّ عليه صلاةً تليق بك منه إليه كما هو أهله»
هنا يبلغ الدعاء ذروة الأدب مع الله ورسوله، فالعبد لا يطلب أن يصلي هو على النبي ﷺ بقدر طاقته، بل يطلب من الله أن يُصلِّي عليه صلاةً تليق بجلال الله من حيث هو، وتليق بجمال النبي من حيث كماله، فهي صلاة لا يحيط بها وصفُ بشرٍ.
وقد قيل: أفضل الصلوات على النبي ﷺ هي التي تكون من الله لا من العبد، لأن الله إذا صلّى عليه رفع ذكره في السماوات والأرض.
قوله: «اللهم إنه سرك الجامع الدال عليك، وحجابك الأعظم القائم لديك»
هذه من أعمق العبارات في الصيغة.
فالنبي ﷺ هو «سِرّ الله الجامع»، أي السر الذي جمع صفات الجمال والجلال، والرحمة والهيبة، فهو مظهر الأسماء الحسنى كلها.
وهو «الحجاب الأعظم»، أي المظهر الذي تجلّى الله به لخلقه، فالنبي ﷺ حجابُ النور الذي لو انكشف لذاب الوجود.
قال سيدنا عليٌّ رضي الله عنه: «لو كُشف لي الحجاب ما ازددت يقينًا»، لأن الحجاب هنا ليس مانعًا، بل هو سترُ النور عن العيون الضعيفة.
قوله: «اللهم ألحقني بنسبه، وحققني بحسبه»
أي اجعلني من أهل نسبه الروحي، وأكرمني باتباع سنته الباطنة كما أنا متبع لسنته الظاهرة، فالنسب هنا نسب المحبة، والحسب هو صفاء السريرة، فمن ألحقه الله بنسب النبي ﷺ في المحبة، فقد ألحقه به في الولاية.
قال الإمام عبد الحليم محمود رحمه الله: «من أكرمه الله بالاتصال الروحي بالنبي ﷺ، لم يحتج بعد ذلك إلى برهانٍ على الإيمان».
قوله: «وعرّفني إياه معرفةً أسلم بها من موارد الجهل، وأغرف بها من بحار الفضل»
أي يا رب، عرّفني بنبيك ﷺ معرفةً صحيحةً تملأ قلبي يقينًا، وتجعلني في مأمنٍ من الشبهات والضلالات، وتفتح لي باب الفهم في الدين والعلم.
فالمعرفة بالنبي ﷺ ليست معرفة شكلٍ أو سيرةٍ، بل هي معرفةُ سرٍّ ونورٍ واتباعٍ.
قوله: «واحملني على سبيله إلى حضرتك حملاً محفوفًا بنصرتك»
أي اجعل سيري إليك على طريقه ﷺ، محاطًا بنصرِك وتوفيقِك، فطريق الله لا يُقطع إلا على خطاه.
قال الإمام أبو الحسن الشاذلي: «كل من سلك طريقًا إلى الله بغير متابعةٍ لمحمدٍ ﷺ، ضلّ في متاهات النفس، ولو حلق في السماء».
قوله: «واقذف بي على الباطل فادمغه»
أي اجعلني من جنود الحق الذين يحاربون الباطل بالعلم والنور لا بالسيف والخصام، فصاحب هذه الصيغة يُطلب منه أن يكون داعيةً، ومعلّمًا، ومجاهدًا بالكلمة والخلق.
قوله: «وزجّ بي في بحار الأحدية، وانشلني من أوحال التوحيد»
هذه من أعجب العبارات، إذ تميّز بين التوحيد العقلي والتوحيد الشهودي.
فأوحال التوحيد هي حدود الفكر التي يتكلم فيها الناس عن الله من وراء الحُجب، أما بحار الأحدية فهي شهود الواحد الأحد بلا كثرةٍ ولا وسائط.
أي اجعلني يا رب في مقام شهود وحدانيتك، غارقًا في بحر وجودك، لا أرى سواك.
قوله: «وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أوجد ولا أحس إلا بها»
هذه ذروة الفناء في الله، وهو ما يُعبّر عنه الصوفية بـ الفناء في التوحيد، أي أن العبد لا يرى لنفسه وجودًا مع الله، بل يرى كل شيء قائمًا به، صادراً عنه، راجعًا إليه.
قال الشيخ الأكبر ابن عربي: «الفناء ليس زوال العبد، بل زوال دعواه، فيبقى ببقاء الحق».
قوله: «وصَلِّ اللهُمَّ عليه صلاةً تُنيرني بها، وتجعلني بها من المقربين، وتحبب إليّ طاعتك، وتبغض إليّ معصيتك»
وهذا هو الأثر العملي للصلاة المشيشية، فهي لا تقتصر على تجلياتٍ نورانية أو مشاهداتٍ عرفانية، بل تُثمر طاعةً ومحبةً وزهدًا في المعصية.
فالغاية من الذكر ليست الانبهار بالنور، بل التزكية والسلوك والتهذيب.
قوله: «واحشرني في زمرته، واسقني من حوضه شربةً هنيئةً لا أظمأ بعدها أبدًا»
وهنا يُختم الدعاء بأمنية المؤمنين جميعًا: الصحبة في الآخرة، والنوال من يده الشريفة شربةً لا يُظمأ بعدها.
فمن واظب على الصلاة على النبي ﷺ في الدنيا، حظي بالقرب منه في الآخرة، كما قال ﷺ: «أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة» (رواه الترمذي).
أقوال أهل الله في فضلها:
قال الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: «ما قرأتُ الصلاة المشيشية إلا وجدتُ لها أنوارًا تملأ الأفق، فهي جامعة لأسرار الطريق».
وقال الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله: «من لازم هذه الصيغة المباركة خاشعًا حاضر القلب، انكشفت له أنوار الحقيقة المحمدية، وتبدلت أحواله من ضيقٍ إلى سعةٍ، ومن همٍّ إلى فرجٍ».
وقال الإمام أحمد الدردير رضي الله عنه: «هي من أوسع الصيغ بركة، وأجمعها بين الأدب مع الله والأدب مع رسول الله ﷺ».
خلاصة الأسرار والثمار:
1. تُورث محبةً عارمة للنبي ﷺ.
2. تُطهّر القلب من الغفلة والهوى.
3. تفتح أبواب الفهم في الدين.
4. تجلب الفرج وتزيل الكروب.
5. تُنير البصيرة وتقرّب السالك إلى الله.
ختامًا:
إن الصلاة المشيشية ليست مجرد كلماتٍ تُقال، بل رحلةٌ في الأنوار المحمدية، تبدأ من الحرف وتنتهي في الحضرة، ترفع الذاكر من مقام القول إلى مقام الشهود، وتبدل الحروف أنوارًا، كما رآها الإمام عبد الحليم محمود تلمع بين يديه نورًا وسناءً.
فمن أراد الفرج والنور، فليجعل لسانه رطبًا بالصلاة على سيدنا محمد ﷺ، وليستحضر أنه يذكر من كانت الأكوان كلها في ذكره، وأن كل حمدٍ وشكرٍ لا يتم إلا من نوره.