أدب الاستئذان
11 أكتوبر، 2025
منبر الدعاة

بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى
جعل الله عز وجل للإنسان خصوصيات تُحترم، وحَرَمًا مُكَرَّماً لا يُعتدى عليه، وُعورةً تُصان ولا تُرى، فمن اقتحم حَرَم الإنسان وخصوصياته وكشف عورته، فإنه يؤذيه أذاً بليغًا نفسيًا ومعنويًا، ويؤدى ذلك إلى الكراهية والبغضاء، ومِن ثَمَّ إلى الشجار والنزاع؛ ولهذا حَثَّ الشرعُ الحنيف الإنسانَ على احترام خصوصيات أخيه الإنسان كـ (راتبه أو هاتفه أو حقوقه الفكرية أو صفحته الاكترونية المغلقة، …)، فلا يطلع أحد على أسراره أو خصوصياته إلا بإذنه وموافقته.
وأدب الاستئذان خلق عظيم قررته الفطرة الإنسانية وأكدته الشرائع السماوية، حتى حثت على تربية الأطفال الصغار عليه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[النور: 58]،
فالاستئذان ليس مطلوباً من الغريب أو المكلفين فحسب، بل مطلوب من القريب ومن الصغار غير المكلفين أيضاً، فإن لم يستأذن الإنسان على أبيه وأمه رأى ما يكره؛ لأن الاستئذان إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذلك في سياق إهدار العين التي تتحسس وتجسس بلا إذن، فقد اطلع رجل من ثقب على حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه صلى الله عليه وسلم مِدْرَى يَحُكُّ به رأسه، فقال: “لو أعلم أنك تنتظر، لَطَعَنْتُ به في عينك؛ إنما جعل الاستئذان من أجل البصر”، فمن لم يحفظ آدمية الناس ويصن كرامتهم فقد أهدر آدميته وأسقط كرامته؛ ولهذا عمَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم هذا القانون فقال: “مَن اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حل لهم أن يفقئوا عينه”، وعلى الجانب العام مَن يخترقون الحدود الدولية من خلال الهجرة غير الشرعية، ويدخلون البلاد بلا إذن أو تصريح أو (تأشيرة) فقد أهدروا آدميتهم، ولا حرمة لهم ولا قيمة.
ثم تطيل الآيات من سورة النور في التأكيد على هذا الخلق الرفيع، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[النور:26ـ 27]، والاستئناس طَلَبُ الأُنْس بلا وحشة ولا نفور، ويكون من القادم البعيد في وقت مناسب ومحدد، والاستئذان عند الوقوف على البيت وطرق بابه، أو باب حجراته الداخلية، وليس المراد طلب مجرد الإذن فحسب، ولكن يُراد أيضًا إزالة الوحشة والنفور وهذا ما أفاده لفظ الأنس، أي يطلب الداخل إذنًا لا يكون معه استيحاش، وفى ذلك عَوْنٌ على صيانة النفوس وتزكيتها، وتوفير روح المحبة والمودة بين المتزاورين.
أما الأماكن العامة غير الخاصة، فقال تعالى فيها: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}[النور: 28]، فلا حاجة للاستئذان عند دخول البيوت العامة كالمساجد والمدارس والمتاجر، فيدخلها الإنسان مباشرة ليقضى حاجته حسب وظيفتها وعاداتها.