القوة المستدامة والتمكين
9 أكتوبر، 2025
أخبار العالم الإسلامى

بقلم فضيلة الشيخ : يوسف محمد السعداوى
من علماء الأزهر والأوقاف
لا تخلوا أمة من أماني التمكين، ولا من حلم القوة والهيمنة والسيطرة في الأرض، وهو دافع الأحداث ومشعل نار العداوات والحروب بين الأمم.
وأمة الإسلام، التي هي أمة من الأمم وتعايش الأمم، خاضعة أحياناً في ضعفها، ومُخضِعة أحياناً حين تقوى وتستعيد مجدها.
هي خير أمة أخرجت للناس، وألزمها الله تعالى بميزان العدل والحق في أرضه، وحملها راية الإيمان به، واستخلفها بعد أمم خلت وغَبَرت وغيرت وبدلت وعدلت بربها ما ليس بعدل له ولا ندّ.
كانت ولابد أن تكون هي أشد الأمم طلباً للقوة وأسبابها والتمكين في الأرض.
إننا عند مطالعة كتاب الله تعالى بتمعن وتدبر، وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم، والوقوف على توجيهاتهما والإشارات المقصودة في بعض النصوص، نجد أن الله تعالى يُرسي من خلال هذه النصوص قواعد القوة والتمكين المستدام في الأرض.
ثم يترسخ لدى المتدبر لهذه النصوص أن الله تعالى يردّ العباد المؤمنين في مسألة القوة والتمكين إلى الثقة المطلقة في الله تعالى مع الأخذ بالأسباب والتدابير اللازمة لوجود هذه القوة واستدامتها.
يقول الله تعالى:
“وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ”
فهذا أمر مباشر من الله تعالى للأخذ بالأسباب، وإعداد ما يلزم من القوة بكل ألوانها من عُدد وعَدد ومعدات وتدريب للأفراد وتخطيط، وكل ما يلزم من تدابير وكل ما هو متاح ويمكن الحصول عليه من ذلك كله.
ثم هاهو أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم يلفت نظر المجتمع المسلم إلى أمر شديد الأهمية والخطورة، ويخاطب المجتمع كأفراد، إذا امتثلت الأمر النبوي الشريف صار المجتمع في أفراده يمتلك أسباب القوة التي تُزهر المجتمع وتبنيه على أساس راسخ وقوي.
يقول صلى الله عليه وسلم:
“المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللَّهِ، ولَا تَعْجَزْ، وإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا كَانَ كَذَا وكَذَا، ولَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ، ومَا شَاءَ اللَّهُ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ”.
وهنا مَكن القوة الحقيقي، حيث يوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يحب الله تعالى أن يتحلى ويتخلق به المؤمن في مجتمعه.
فحينما يرشد إلى القوة لم يرشد إلى قوة جَهولة لا أخلاقية، إنما يرشد إلى قوة تتخلق بأخلاق الإيمان بالله تعالى.
القوة الرحيمة التي تحمي الضعيف وتنصر المظلوم وترسي قواعد العدل والحق في المجتمع.
فقد أشار إلى ذلك باستهلال القول الشريف بقوله “المؤمن” ليشير إلى القوة المرجو تحقيقها في المجتمع، وهي قوة ممزوجة بأخلاق وسلوكيات الإسلام والإيمان.
قوة لا تعتدي ولكنها تردع من تسول له الاعتداء أو البغي فيحسب لها الحساب فيرتدع.
وهي إشارة إلى أن يتحلى أفراد المجتمع بهذه القوة الخُلُقية، بل ويشدد على الحرص عليها فيقول: “احرص على ما ينفعك”.
وهنا أيضاً توجيه صارم للمجتمع حتى لا يصيبه الهوان والضعف، ولا يهون من الأخذ بالأسباب ويتواكل تحت زعم الإيمان والتوكل والثقة في الله دون الأخذ بأسباب التأييد الإلهي الحقيقية.
ثم يدفع هذا المجتمع أيضاً إلى عدم الالتفات إلى أوقات الإخفاقات أو السقوط لفتة التحسر والتندم، بل يلتفت إليها لفتة المعتبر المتعلم المستخلص للدروس التي تعينه على السعي قدماً ولا تدفعه إلى الإحباط.
ثم يضع إشارة إيمانية أخرى عندما يقول:
“وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ”.
هذه الإشارة تُرسخ مضمون القدر الإلهي وتصرف الله سبحانه وتعالى في خلقه، وتؤصل للإيمان بالقدر سواء تحقق المراد أم لم يتحقق، فلا ينشغل الإنسان بوساوس الشيطان المحبطة التي تهون العزائم وتثبط الهمم وتصنع حالة من الجدل حول ما حدث، سواء أكان هذا الجدل نفسياً داخل الإنسان يشغله عن تعزيز قدراته وتدعيم همته، أو جدلاً مجتمعياً حول شأن عام للمجتمع.
هذا فيما يخص بعضاً من قواعد القوة، ويتبقى معنا التمكين.
وإذا نظرنا إلى التمكين فسنجد أن القرآن الكريم ركنه إلى السنن الإلهية في الخلق، وإذا تفهمنا أنه سنة إلهية فعلينا أن نعلم يقيناً أنها سنة مشروطة بما سبق وبما يلي.
يقول الله تعالى:
“وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”.
فهذا وعد بالتمكين، ولكنه مشروط بشروط:
الأول: الإيمان بالله تعالى.
الثاني: العمل الصالح.
الثالث: عبادة الله تعالى وإخلاص هذه العبادة له وحده سبحانه وتعالى.
فالعمل الصالح أمر عام في السلوك الاجتماعي والأخلاق الإسلامية المنصوص عليها، والعبادة الخالصة لله مخصوصة بالذكر، وهي من جنس العمل الصالح.
لأن الخلق قد يتوهمون الصلاح بدون العبادة، فجاء التخصيص هنا ليبين أن العبادة الخالصة لله شرط أكيد من شروط التمكين.
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى:
“وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ”.
فذكر سبحانه وتعالى أن صلاح العباد وصالح عملهم شرط للتمكين في الأرض، ثم يؤكد أن العبادة لله تعالى الخالصة له هي أساس العمل الصالح، وبدونها لا يصلح العمل الصالح أن يكون سبباً للتمكين، بل هي شرطه الفاعل.
ولذا لفت الوعاظ من العلماء أنظار الناس إلى هذه الحقيقة عندما اعتبروا مفاعل العمل الصالح داخل الإنسان ودافعه هو عبادة الله فقالوا:
“عبادة لم تثمر أخلاقاً في جسد بلا روح”.
وعليه فإن أخلاقاً بلا عبادة لا تدوم، ولا يواظب صاحبها عليها، ويوشك أن ينخلع منها وتنتشر في المجتمع الرذائل والموبقات وينهار وتنهار قواه.
وقد جعل القرآن الكريم أيضاً هذا المعنى أصيلاً عندما قال:
“اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ”.
فجعل الصلاة، وهي عماد الدين وأم العبادات، دافعاً قوياً للعمل الصالح وضميراً إنسانياً للصلاح في النفس بترك الموبقات والمنكرات.
فالمجتمع الذي يبحث عن ضمير إنساني بعيداً عن عبادة الله، مجتمع نافق نفسه وخذلها.
والمجتمع المؤمن الذي يبحث في كل أسباب التمكين ويأخذ بها ويتغافل عن السنن الإلهية، يتكلف ثمناً باهظاً للتكافؤ مع أعدائه، وربما يظلون متفوقين عليه عقاباً له من الله تعالى حتى يفيء إلى أمر الله تعالى ويعود إلى الأخذ بكافة الأسباب، وعلى رأسها عبادة الله تعالى.
لمس هذه الحقيقة الرعيل الأول من السلف الصالح، فكان عمر رضي الله عنه يقول للجند إذا خرجوا إلى ملاقاة عدو:
“اتقوا الله في كل حال، فإنما ننتصر بإيماننا بالله وتقوانا ومعاصي أعدائنا، فإن انتفى الإيمان والعمل الصالح كانت الغلبة للأقوى”.
أي: إذا انتفى الفرق الذي بيننا وبينهم وهو الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح وتقوى الله، فلا تفريط في عبادة ولا اقتراف للمعاصي، فإن الغلبة تكون لمن يمتلك أسباب القوة المادية.
إن القوة المستدامة والتمكين في الأرض له عدته الكاملة، فلا ينبغي أبداً لأمة آمنت بالله تعالى أن تهمل العدة وتترك الأخذ بالأسباب.
ومن أهم ما يُعبد به الله تعالى في أرضه هو الاتحاد والاعتصام بحبل الله تعالى، وتقوي الأمة ببعضها، ونبذ الاختلاف وإزالة الخلاف، ومخالفة المغرضين والمفرقين وعدم التسمع لهم، وترك الفرق والجماعات والتمذهبات المصطنعة التي ما أنزل الله بها من سلطان، فكل ذلك من أهم أسباب القوة والتمكين.
والله أعلم.
وللقرآن الكريم أوامر ونواهٍ كثيرة في هذا الباب، ربما نسردها فيما بعد إن كان في العمر بقية.
اللهم احفظ بلاد الإسلام من كل شر ومن كل شرير، وارزقنا الإنابة إليك، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.