طوائف اليهود وأماكن تواجدهم في العالم العربي والغربي

بقلم الشيخ :حسين السمنودي

اليهودية لم تكن في يوم من الأيام كتلة واحدة متجانسة، بل هي فسيفساء معقدة من الطوائف والمذاهب والتيارات، تتنوع في معتقداتها وطقوسها وعاداتها، وتتوزع جغرافيًا بين العالمين العربي والغربي في صورة تعكس تاريخًا طويلًا من التغيرات والاضطرابات والهجرات. فمنذ العصور الوسطى وحتى العصر الحديث، برزت بين اليهود طوائف رئيسية اختلفت في مدى التزامها بالنصوص والتقاليد، وطرائق فهمها للشريعة اليهودية، بل وحتى في أصولها الثقافية والعرقية.

تأتي الطائفة الأرثوذكسية في مقدمة هذه الطوائف من حيث التمسك الصارم بالشريعة، حيث يعيش أفرادها حياة محافظة تحكمها القوانين الدينية بدقة، وينقسمون بين حريديم متشددين وأرثوذكس معاصرين أكثر انفتاحًا. في المقابل نجد حركة الإصلاح التي ظهرت في القرن التاسع عشر في ألمانيا، والتي رأت أن الشريعة اليهودية مرنة وقابلة للتجديد بما يتناسب مع العصر، وهو ما جعلها أكثر انتشارًا في الولايات المتحدة حيث الحرية الفردية وتنوع الممارسات. وبين هذين التيارين وُلدت اليهودية المحافظة التي حاولت الموازنة بين التمسك بالتقاليد والقبول ببعض التغيرات. ثم ظهر تيار إعادة الإعمار الذي اعتبر اليهودية حضارة كاملة تتجاوز مجرد النصوص الدينية، وأنها تتطور مع الإنسان وتواكب واقعه.

لكن الاختلاف لم يكن دينيًا فقط، بل أيضًا عرقيًا وثقافيًا، حيث انقسم اليهود إلى جماعات كبرى حسب مناطق نشأتهم. فهناك الآشكناز القادمون من أوروبا الوسطى والشرقية، والسفارديم الذين تعود أصولهم إلى الأندلس بعد الطرد الإسباني، والميزراحيم من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى جماعات مميزة مثل يهود إثيوبيا أو الكارائيين الذين رفضوا التلمود واعتمدوا على التوراة وحدها. هذه الجماعات لم تكن مجرد تقسيمات جغرافية، بل حملت معها عادات مميزة في الطعام والموسيقى واللغة والطقوس الدينية.

تاريخيًا كان للعالم العربي النصيب الأكبر من التواجد اليهودي، فقد كانت مصر والمغرب والعراق واليمن وتونس والجزائر وليبيا وسوريا تضم جاليات كبيرة، بعضها وصل عدده إلى مئات الآلاف. لكن هذه المجتمعات شهدت هجرات جماعية كبرى خلال القرن العشرين، خاصة بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948 وما تبعها من صراعات واضطرابات سياسية. فتراجع عدد اليهود في المغرب من ربع مليون إلى بضعة آلاف، وفي العراق من مائة وأربعين ألفًا إلى عشرات الأفراد فقط، وفي مصر من ثمانين ألفًا إلى مئات قليلة من كبار السن. بل إن بعض الدول مثل ليبيا واليمن وسوريا تكاد تخلو اليوم من أي وجود يهودي فعلي. وفي المقابل ظل للمغرب وتونس بقايا جاليات صغيرة تمثل امتدادًا لذاكرة تاريخية أكثر مما هي جماعات فاعلة في المجتمع.

أما في الغرب، فقد تركز الوجود اليهودي بكثافة، حيث يعيش ملايين اليهود في الولايات المتحدة التي تحتضن ما يقارب ستة ملايين منهم، موزعين بين الأرثوذكس والإصلاحيين والمحافظين والعلمانيين. وفي أوروبا توجد جاليات كبيرة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، كما يزداد ثقل الجاليات في كندا وأستراليا. وفي إسرائيل نفسها، التي تضم اليوم نحو سبعة ملايين يهودي، نجد مجتمعًا شديد التنوع يجمع بين السفارديم والآشكناز والميزراحيم والإثيوبيين، وبين المتدينين والعلمانيين في لوحة متناقضة لكنها تعكس واقع اليهودية الحديثة.

ورغم أن اليهودية اليوم تجمع ملايين الأفراد في دول شتى، إلا أن الانقسامات العرقية والفكرية والدينية تظل قائمة. فاليهودي العربي يختلف عن الأوروبي، والأرثوذكسي يختلف عن الإصلاحي، والكارائي يختلف عن بقية الطوائف. وفي هذا التعدد تتجلى صورة مجتمع يحمل داخله تناقضات وصراعات داخلية بقدر ما يواجه تحديات من خارجه.

ومن أبرز هذه الانقسامات التاريخية والمعاصرة، الصراع الخفي والمستمر بين الإشكناز والسفارديم. فالإشكناز الذين وفدوا من أوروبا الوسطى والشرقية، سيطروا على مقاليد المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية في المجتمعات اليهودية الحديثة، خاصة في أوروبا ثم في الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد اعتُبروا لفترة طويلة “اليهود المثقفين” أو “النخبة”، لما امتلكوه من فرص تعليمية واقتصادية، وهو ما انعكس على توليهم معظم المناصب القيادية في الحاخامية الكبرى، والمنظمات اليهودية العالمية، وحتى داخل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

أما السفارديم، ومعهم الميزراحيم من أصول شرقية، فقد تعرضوا في كثير من الأحيان للتهميش والتفرقة. ففي بدايات الهجرات إلى إسرائيل، وُضع كثير منهم في معسكرات انتقالية عُرفت باسم “المعابر”، وتعرضوا لتمييز اجتماعي وثقافي من قبل الإشكناز الذين نظروا إليهم باعتبارهم أقل تحضرًا أو أكثر تقليدية. هذا التمييز انعكس في توزيع الوظائف، حيث سيطر الإشكناز على المناصب العليا في الجيش والوزارات والجامعات، بينما حُصر السفارديم في أعمال أقل شأنًا، الأمر الذي خلّف شعورًا بالغبن والطبقية ما زالت آثاره ممتدة حتى اليوم.

كما أن الاختلافات لم تكن فقط في الوظائف، بل امتدت إلى التعليم والثقافة واللغة. فالإشكناز فرضوا العبرية الحديثة بلهجتهم الخاصة، بينما تراجعت اللغات السفاردية التقليدية مثل “اللادينو”، وكذلك اللهجات العربية اليهودية التي كانت شائعة في العراق والمغرب واليمن. هذا الصراع الثقافي ترك بصمة واضحة في هوية الدولة العبرية، حيث ظلت الثقافة الإشكنازية مهيمنة لعقود طويلة على المسرح والموسيقى والأدب، بينما كافح السفارديم لإثبات حضورهم الثقافي وإحياء تراثهم الخاص.

ورغم محاولات المصالحة وإذابة الفوارق عبر العقود الأخيرة، فإن هذا الانقسام لا يزال حاضرًا، سواء في التمثيل السياسي أو في الخطاب الاجتماعي. فقد ظهر جيل جديد من السفارديم يسعى إلى كسر الاحتكار الإشكنازي للقيادة، خاصة مع صعود أحزاب ذات قاعدة شعبية شرقية، لكن الفوارق لم تُمحَ بالكامل. وهكذا ظل الصراع بين الإشكناز والسفارديم علامة بارزة على أن المجتمع اليهودي، مهما بدا متماسكًا من الخارج، فإنه في الداخل مليء بالتناقضات والصراعات التي لا تقل حدّة عن تلك التي يواجهها خارجيًا.

وختاما فإن دراسة طوائف اليهود وأماكن تواجدهم تكشف لنا أن هذه الديانة لم تعرف يومًا الوحدة الكاملة، بل كانت دائمًا خليطًا متشابكًا من الأعراق والتقاليد والمذاهب. ففي حين تضاءل الوجود اليهودي في العالم العربي حتى صار أثرًا بعد عين، ازدهر في الغرب وإسرائيل بشكل غير مسبوق. ومع ذلك يبقى اليهود، رغم كل هذا التنوع، مرتبطين بخيط واحد هو الهوية الجماعية التي تتغذى على التاريخ والذاكرة، وإن اختلفت طرقهم في فهم الدين وممارسته. ومن هنا يمكن القول إن مستقبل اليهودية مرهون بقدرتها على التوفيق بين هذا التنوع الكبير وبين محاولة الحفاظ على هوية موحدة، وهو تحدٍ قديم يتجدد مع كل جيل.