صحح مفاهيمك : قيمة الأعمارُ بالأمدادِ لا بالآماد
6 أكتوبر، 2025
منبر الدعاة

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
قال رحمه الله سيدى بن عطاء الله السكندري «رُبَّ عُمُرٍ اتَّسَعَتْ آمَادُهُ وَقَلَّتْ أَمْدَادُهُ، وَرُبَّ عُمُرٍ قَلِيلَةٌ آمَادُهُ كَثِيرَةٌ أَمْدَادُهُ»
تمهيد:
ليست قيمةُ الإنسانِ بما يطول من أيامه،
بل بما يزدهر به عمره من بركاتٍ وأعمالٍ صالحةٍ وآثارٍ طيبة.
فكم من طويلِ العمرِ عاشَ في غفلةٍ فنُسيَ ذكرُه،
وكم من قصيرِ العمرِ عاش في طاعةٍ فخلّد الله ذكرَه.
إن البركةَ في العمرِ هي النورُ الذي يجعل القليل كثيرًا،
والقصيرَ طويلًا، والمحدودَ ممتدًّا في الزمان والمكان.
معنى الآماد والأمداد:
الآماد: هي امتدادُ الأيام وطولُ الزمان.
الأمداد: هي البركةُ والعطاءُ والنفعُ والثمراتُ الطيبةُ التي يفيضها الله على عباده.
فما نفعُ عمرٍ طويلٍ إن خلا من الطاعة؟
وما أجملَ عمرًا قصيرًا امتلأ بالخير والنور؟
في ضوء القرآن والسنة:
قال الله تعالى: ﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ﴾ [الصافات: 113]
أي جعلنا في أعمارهم وأعمالهم بركةً ونفعًا ودوامًا.
وقال النبي ﷺ: «خيرُ الناسِ من طالَ عمرُهُ وحسُنَ عملُه»(رواه الترمذي)
كما قال ﷺ:«من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه»(متفق عليه)
فالزيادةُ في “الأثر” ليست فقط في عدد السنين،
بل في البركة التي يهبها الله للعمر.
نماذج من سير العظماء:
#سعد بن معاذ رضي الله عنه
أسلم في السابعة والعشرين من عمره،
ولم يعش بعد إسلامه إلا ست سنواتٍ فقط،
لكنه في هذه السنوات القليلة أقام الإسلام في المدينة، وجاهد في بدر وأحد والخندق،
حتى قال النبي ﷺ: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» متفق عليه
قِصرُ عمره لم يمنع عِظَمَ أثره؛فبركةُ عمره كانت في إخلاصه وعمله.
#أبو بكر الصديق رضي الله عنه
خلافته لم تدم أكثر من عامين وثلاثة أشهر،
لكنه جمع فيها شتات الأمة، وثبّت دعائم الدين، وجمع القرآن،
فبارك الله في عمره وعمله،
وصار مثالًا للعطاء في الزمن القصير.
#عمر بن الخطاب رضي الله عنه
عاش عشر سنواتٍ في الخلافة، لكنها كانت عقدًا من العدل والنهضة.
في عهده فُتحت الأمصار، وانتشر الإسلام،
وقال فيه النبي ﷺ:«لو كان بعدي نبيٌّ لكان عمر»رواه الترمذي
لقد ملأ اللهُ عمرَه بالعدلِ والحق، فصار عُمرًا مضاعف البركة.
#عمر بن عبد العزيز رحمه الله
جلس على كرسيّ الخلافة سنتين ونصفًا فقط،
لكنها كانت كأنها عقودٌ من النور والعدل.
قال الناس في زمنه:
> “غَنِيَّ الناس في عهده حتى لم يجدوا من يأخذ الصدقة.”
لقد بارك الله في عمره القليل، فخلّد له ذكرًا جميلًا إلى يومنا هذا.
أعلام العلماء وأمدادهم المباركة:
#الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله
توفي في الثانية والستين من عمره،
لكنه ترك للأمة كتابًا هو أصحّ كتابٍ بعد كتاب الله: صحيح البخاري.
رحل في الآفاق، وجمع الأحاديث من ألف شيخ،
فأصبح عمره علمًا متجددًا، لا ينطفئ أثره أبدًا.
#الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله
عاش اثنتين وسبعين سنة،
لكنه ملأها علمًا وتأليفًا وتحقيقًا.
وشرح صحيح البخاري في “فتح الباري” حتى قيل: «لا هجرة بعد الفتح» أي بعد “فتح الباري”.
فكانت أيامه كلها أمدادًا من العلم المبارك.
#الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله
توفي عن إحدى وستين سنة،
لكنه ألّف نحو خمسمائة مؤلَّف في مختلف العلوم،
منها الدر المنثور والإتقان في علوم القرآن والجامع الكبير.
لقد جعل الله له في كل لحظةٍ من حياته علمًا ينتفع به الخلق.
#الإمام النووي رحمه الله
توفي في الخامسة والأربعين من عمره،
لكنه ترك للأمة مصنفاتٍ خالدةً تُدرَّس في كل بيت علم،
مثل رياض الصالحين والأربعين النووية وشرح صحيح مسلم.
فعاش عمرًا قصيرًا بجسده، طويلًا بعلمه وأثره.
مفاتيح البركة في العمر:
1. الإخلاص في العمل: فمن أخلص لله بارك الله له في وقته وعمره.
2. النية الصالحة: فالنية ترفع العمل الصغير إلى درجاتٍ عظيمة.
3. صلة الرحم: تزيد العمر بركةً ونورًا لا عددًا فقط.
4. نفع الناس: لأن نفع الناس يخلّد الذكر ويضاعف الأجر.
5. الذكر والطاعة: فكل لحظةٍ يُذكَر فيها الله تُضاف إلى العمر الحقيقي.
#تأملات ختامية:
ليس العمر ما يُعدّ بالأيام،
بل ما يُحصى من الطاعات.
وليس المجد في طول السنين،
بل في نور الإيمان وصدق العمل.
🌷 قد يعيش أحدُهم قليلاً فيعش بعد موته بآثاره،
وقد يعيش آخرُ طويلًا فلا يُذكر له أثرٌ ولا ذكر.
#خلاصة القول:
ليست الكرامةُ في طولِ الزمان،
بل في بركةِ العمرِ والإحسان.
فكم من عُمرٍ قصيرٍ مُتَّصلٍ بالسماء،
وكم من عُمرٍ طويلٍ قُطِع عن ربِّ الأرض والسماء.
اجعل كلَّ يومٍ من عمرك لبنةً في بناءِ آخرتك،
فالعمرُ رأسُ مالك، والبركةُ فيهِ أرباحُك،
وكن ممَّن قال فيهم النبي ﷺ:«خير الناس أنفعهم للناس.»