المرأة والعاطفة المفقودة… والرجل حين يغرق في عاطفيته

بقلم : محمد نجيب نبهان  كاتب وناقد و باحث تاريخي

ليست العلاقة بين الرجل والمرأة مجرّد تجربة وجدانية عابرة أو نزوةٍ من نزوات الغريزة، بل هي انعكاسٌ لصراعٍ فلسفيٍّ أزلي بين طبيعتين متعارضتين في عمق الوعي الإنساني: البراغماتية الأنثوية التي تُخضع الحبّ لحسابات البقاء، والعاطفية الذكورية التي تُحوِّل الحبّ إلى ملحمة وجودية يسعى فيها الرجل لإثبات ذاته ومعناه.

فالمرأة، منذ فجر التاريخ، كانت الكائن الأكثر وعيًا بالنتائج، لأنها وحدها التي دفعت الكلفة البيولوجية والاجتماعية للأمومة والبقاء. لذلك اكتسبت مع القرون حاسةً فطريةً للاستقرار والضمان، فأصبحت تنظر إلى العلاقات لا بوصفها مساحة وجدانية، بل منظومة أمن نفسي واقتصادي وبيولوجي. أما الرجل، الذي تحرّر من هذه الأعباء، فقد ظلَّ يرى الحبّ أفقًا يتجلّى فيه وجوده، ومرآةً لبطولته العاطفية، وساحةً ليثبت أنه قادر على الاحتواء والحماية والعطاء.

حين تُحبّ المرأة، تُفكّر بعقلها وإن بدا قلبها في الواجهة، وحين يُحبّ الرجل، يُفكّر بقلبه وإن ظنَّ أنه يستخدم عقله. هي تخطّط من اللحظة الأولى لاحتمالات الغد، بينما يعيش هو اللحظة وكأنها الأبد. المرأة تبني خريطة النجاة منذ البداية، والرجل يبني أسطورته حتى النهاية. لذلك حين تسقط العلاقة، تسقط المرأة على قدميها، ويسقط الرجل على وجهه.

علم النفس التطوري يرى أن براغماتية المرأة ليست أنانية، بل امتداد طبيعي لغريزة البقاء التي صاغتها البيولوجيا عبر آلاف السنين. فالأنثى التي تُنجب وتُرضع وتُربي، لا يمكن أن تُقامر بعاطفة غير مضمونة. لذلك فهي تختار وتحتاط وتُخطّط. حتى حين تُحب، تترك لنفسها مخرجًا طفيفًا في اللاوعي، طريقًا احتياطيًا نحو الأمان، كأنها تُدرّب نفسها على احتمال الرحيل من البداية. ولهذا تبدو صلابتها بعد الفقد صادمة للرجل الذي كان يظن أنه محور حياتها. لكنها في الحقيقة لم تتركه فجأة، بل كانت تُغادره بالتدريج وهو لا يدري. كانت تنسحب عاطفيًا بصمت منذ اللحظة التي فقد فيها حضوره الأمني أو النفسي في عالمها.

أما الرجل، فحبّه ليس مشروع بقاء بل مشروع معنى. إنه الكائن الذي يبحث عن ذاته في الآخر، الذي يرى في المرأة مرآة وجوده، وصدى رجولته، وصورته التي يكتمل بها. حين يحب، يمنح، ويغرق، ويُقدّس، ويعاني، لأن العاطفة عنده ليست غريزة فحسب، بل طقس مقدّس يبرهن من خلاله على أنه يستحق أن يكون محبوبًا. لذلك، حين تنهار العلاقة، لا يفقد المرأة وحدها، بل يفقد ذاته التي كان يراها فيها. إن المرأة تُحبّ لتعيش، والرجل يعيش ليُحبّ.

وهنا يكمن سرّ مأساة الشعر الذكوري عبر التاريخ. فشعراء العشق كانوا رجالًا لأنهم وجدوا في المرأة نافذةً على خلودهم العاطفي. المرأة تُلهمهم الجنون لا لأنها أكثر حبًا، بل لأنها أقلُّ احتياجًا. هو يغوص في الحب حتى الغرق، وهي تسبح فيه حتى الضفة. هو يكتب القصائد ليثبت أنه ما زال حيًا بعد فقدها، وهي تمضي لتبدأ فصلاً جديدًا في كتاب آخر. في لغتها البقاء، وفي لغته الأسطورة.

يقول علم النفس الوجودي إن المرأة تميل إلى التمركز حول الذات، بينما يميل الرجل إلى التمركز حول الآخر. لذلك فهي حين تُحبّ لا تفقد كينونتها، بل تُضيف إليها بعدًا جديدًا، بينما يفقد هو توازنه في أول لحظة يذوب فيها داخلها. وحين تتركه، ينهار عالمه لأن العالم كان يتمحور حولها، بينما هي تخرج منه لتعود إلى ذاتها كما كانت. من هنا كان الرجل أكثر قابلية لليأس، وأكثر قدرة على تحويل الخيبة إلى فنّ، والحبّ إلى أسطورة، والعذاب إلى خلود.

لكن في عالم اليوم تغيّر كل شيء. المرأة العصرية لم تعُد تعتمد على الرجل كمصدرٍ وحيدٍ للأمان. لقد امتلكت أدواتها الاقتصادية والاجتماعية، وصارت قادرة على إدارة وجودها باستقلالية كاملة. وهنا ظهرت المفارقة التاريخية: تحررت المرأة من تبعيتها القديمة، لكنها فقدت جزءًا من عاطفتها. وتراجع الرجل عن موقع الهيمنة، لكنه فقد بوصلته الداخلية. أصبحت هي أكثر براغماتية من أي وقت مضى، وأصبح هو أكثر عاطفية وارتباكًا من أي عصر مضى. إنها مفارقة مدهشة: الرجل اليوم هو الكائن الأكثر حساسية، والمرأة هي الكائن الأكثر عقلانية.

الحلّ لا يكمن في استعادة النظام الأبوي القديم، بل في إعادة تعريف الوعي العاطفي بين الجنسين. الرجل بحاجة إلى عقلية الوفرة، أن يدرك أن قيمته لا تُستمد من امتلاك امرأة، بل من امتلاك ذاته. أن يفهم أن الحبّ تجربة من تجارب الحياة، لا نهاية الحياة. أن يتعلم كيف يُحبّ دون أن يفقد نفسه، وكيف يترك دون أن يتحطم. عليه أن يرى في المرأة شريكة وجود، لا معبدًا يقدّس عنده ذاته المفقودة.

أما المرأة، فهي مدعوة إلى أن تتصالح مع عاطفتها، ألا تجعل البراغماتية سجنًا جديدًا يقتل أنوثتها الروحية. أن تدرك أن الحبّ ليس معادلة أمان، بل مساحة وعيٍ تُختبر فيها إنسانيتها العميقة. أن تمنح قلبها دون أن تُخضعه للمعايير الاقتصادية أو الاجتماعية أو الافتراضية التي صارت تسيّر معظم العلاقات الحديثة.

من زاوية الفلسفة الوجودية، العلاقة الناجحة هي تلك التي لا تُخضع الحبّ لمعادلة البقاء، ولا تقتل العاطفة باسم العقل. الحبّ ليس تناقضًا بين الرجل والمرأة، بل لغة مختلفة بين عقلين متباينين في إدراك الوجود. فحين يتعلّم الرجل القيادة الذاتية ويُدرّب قلبه على الوعي، وحين تتعلم المرأة التوازن بين العاطفة والعقل، يستعيد الكون تناغمه القديم بين الأنوثة والرجولة.

في النهاية، البراغماتية هي المرأة، والعاطفية المطلقة هي الرجل، خلافًا لما يروّج له الإعلام واللغة المعاصرة. الرجل هو الكائن الذي يُحبّ حتى الموت، والمرأة هي التي تُحبّ لتعيش. وبين الاثنين تمتدّ دراما الخلق الأولى، بين قلبٍ يبحث عن المعنى، وعقلٍ يبحث عن الأمان. وما نحتاجه اليوم ليس صراعًا جديدًا بين الجنسين، بل مصالحة بين منطق القلب ومنطق البقاء، بين رجلٍ يتعلّم أن يُحبّ بوعي، وامرأةٍ تتعلّم أن تفكر بقلبها قبل أن تُفكّر بمصلحتها.

إنه صراعٌ قديم بين “من يحتاج إلى من”، وبين “من يستطيع أن يعيش بعد من”، لكنه في جوهره سؤالٌ واحد: هل الحبّ غايةُ الوجود أم وسيلته؟