حفظ الأسرار


بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى

 

ينصدم الإنسان حينما يعلم أن أسراره منشورة وأوراقه منثورة هنا وهناك، يتناقلها الناس فيما بينهم، وهذا مما يجلب كمًّا عظيمًا من الهم والحزن، مما يقطع على الإنسان هدوء قلبه وسكون صدره، ويسرق منه فرحة حياته وبهجة دنياه؛ ولهذا ينبغي على الإنسان تجاه الأسرار عدة أمور، من أهمها:

أولاً: حفظ أسرار الناس فهذا من الأمانة التي استقرت في الفطرة السوية وأكدت عليها كل الشرائع السماوية،

قال صلى الله عليه وسلم: “‌إنما ‌يتجالس المتجالسان بأمانة الله، فلا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره”،

وقال الشاعر في نصحه وأمانته:
لا تُوَدِعِ السِرَّ إِلّا عِندَ ذي كَرَمٍ وَالسَرُّ عِندَ كِرامِ الناسِ مُكتومُ
وَالسِرُّ عِندي في بَيتٍ لَهُ غَلَق قَد ضاعَ مَفتاحُهُ وَالبَيتُ مردوم

والإسلام يقدّر شأن حفظ الأسرار وأداء الأمانة، حتى ولو كان الأمين من غير المسلمين، فقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُريقط دليلاً وهادياً في طريق الهجرة النبوية، رغم أنه لم يكن مسلماً؛ لأنه كان خبيراً وعليماً بشأن الطُرُق والدُّرُوب، فأدى عبد الله الأمانة، ما أفشى سر النبي صلى الله عليه وسلم رغم أن قريشاً قد وضعت جائزة عظيمة ـ قدرها مائة ناقة ـ لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً، فالإسلام يحب خصال الخير ولو من غير المسلمين ويكره خصال الشر ولو من المسلمين.

أما إفشاء أسرار الناس فهو من الخيانة، والتي استعاذ منها البني صلى الله عليه وسلم، وقال: “اللهم إني أعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة”، أي بئس ما يبطنه الرجل في قلبه من الخيانة؛ لأن إفشاء السر دليل على لؤم الطبع وفساد المروءة وقلة الصبر وضيق الصدر، ولا يصدر هذا إلا من ضعفة الرجال والصبيان والنساء وقليلي الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: “آية المنافق ثلاثٌ، إذا حدَّث كذب، وإذا وعَد أخلَف، وإذا اؤتمن خان”.

وقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ أسرار الناس حتى قال: “إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة”، أي: التفت المتحدث يمينًا وشمالًا؛ حذرًا واحتياطًا من أن يسمع كلامَه أحدٌ غير الذي يتحدث إليه.

ثانيًا: أن يحتفظ الإنسان بأسرار نفسه لنفسه، ولا يبوح بها لأحد إلا عند الضرورة القصوى، وإلا سيندم على ذلك ندمًا عظيمًا، فالناس عندهم شهوة لا تقل عن شهوة البطن والفرج وهي شهوة إفشاء الأسرار وأن عندهم ما ليس عند غيره من جديد الأخبار، وقد قال الإمام الشافعي:
إذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ … وَلَامَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ ‌أَحْمَقُ
إذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ … فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرَّ أَضْيَقُ

فإن أفشيت سرك لغير الكتوم النصوح، فأنت بين حاسد للنعمة، أو شامتٍ بمصابك، أو ماكر بك؛ ولهذا قال يعقوب ليوسف عليهما السلام: {يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يوسف: 5]، والسر إذا خرج من لسانك فلن يقف عند ألسنة الأخرين، قال بعض الشعراء:
لا تفش سرك إلا إليك … فإن لكل نصيحٍ نصيحا
ألم تر أن طغاة الرجا … ل لا ‌يتركون ‌أديماً ‌صحيحا