التنمّر… داء القلوب الخفي ( رؤية إسلامية لتصحيح المفاهيم وزيادة الوعي )
4 أكتوبر، 2025
منبر الدعاة

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
مدخل
ما أكثر ما جُبلت عليه النفوس من نزعاتٍ تميل إلى السخرية والانتقاص، فإذا تُركت دون تهذيب، صارت شرارةً تحرق القلوب والمجتمعات، فتنشأ ظاهرة التنمّر التي نراها اليوم في المدارس والجامعات والطرقات، بل وحتى على منصات التواصل الاجتماعي.
إنها ليست مزحةً عابرة، ولا نكتةً بريئة، بل هي جرحٌ غائر في كرامة الإنسان، يترك أثرًا لا تمحوه الأيام.
قال تعالى محذرًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ [الحجرات: 11].
جذور الداء تبدأ من البيت
البيت هو المهد الأول لتربية النفس. فإذا نشأ الطفل على الرحمة والاحترام، شبّ كريم الخلق، عفيف اللسان. أما إذا اعتاد سماع السخرية والاحتقار في بيته، حملها معه إلى مدرسته ومجتمعه.
وقد قال النبي ﷺ:
«ما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانه، وما نُزع من شيءٍ إلا شانه» – رواه مسلم.
المدرسة… ميدان الوعي والتقويم
في المدرسة تتجلّى صور التنمّر أكثر من غيرها: سخرية من مظهرٍ، أو لقب جارح، أو إقصاء متعمّد. وهنا يبرز دور المعلمين والإدارة في غرس الاحترام المتبادل.
لقد جسّد النبي ﷺ أعظم مدرسة حين آخى بين المهاجرين والأنصار، فصار الغريب أخًا للحاضر، والمهاجر شريكًا للمستقر، لتذوب الفوارق وتعلو الأخوة.
الضحية بين الألم والاحتواء
كم من طفلٍ انكسر قلبه بسخريةٍ قاسية! وكم من شابٍ غرق في عزلةٍ بسبب كلمة جارحة!
هؤلاء لا يحتاجون إلى لوم، بل إلى صدرٍ رحيمٍ ويدٍ حانية.
قال النبي ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» – متفق عليه.
وكان رسول الله ﷺ إذا رأى أصحابه في ضيق، واساهم، وربّت على قلوبهم، كما فعل مع جابر بن عبد الله يوم فقد والده، فمسح رأسه وواسى حزنه حتى شعر بالأمان.
العقاب العادل… رحمةٌ وردع
التنمّر ظلم، والظلم عند الله عظيم. قال ﷺ:
«اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» – رواه مسلم.
لكن العقوبة في الإسلام ليست انتقامًا، بل إصلاحٌ وردع. يُحاسب المتنمّر ليكفّ عن غيّه، ويُفتح له باب التوبة ليرجع إلى رشده.
صور من التنمّر في عاداتنا
قد نمارس التنمّر دون أن نشعر، في عاداتٍ درج عليها الناس:
★السخرية من الأجسام والألوان: فيُعيَّر السمين ببدنه، أو يُسخر من قصيرٍ أو أسمر.
★التنابز بالألقاب: إطلاق ألقابٍ ساخرة على الآخرين، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ [الحجرات: 11].
★التفرقة بين الأبناء: وهي بذرة تنمّر تزرعها بعض الأسر دون قصد، وقد أنكر النبي ﷺ على والدٍ خصّ ابنًا بهدية، وقال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» – متفق عليه.
التشهير عبر وسائل التواصل: صور ومقاطع ساخرة تحطّم النفوس.
★احتقار الفقراء وأصحاب المهن: مع أن النبي ﷺ قال: «رب أشعثَ أغبرَ، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرّه» – رواه مسلم.
★حين قال أحد الصحابة لبلال رضي الله عنه: “يا ابن السوداء”، غضب النبي ﷺ وقال:
«إنك امرؤ فيك جاهلية» – رواه البخاري.
بهذا الحزم قطع رسول الله ﷺ دابر كل سخرية تقوم على اللون أو الأصل.
الخاتمة
التنمّر آفة القلوب، وداء النفوس، يبدأ من كلمةٍ صغيرة فإذا تُرك تفشّى وصار وباءً اجتماعيًا.
والإسلام بمنهجه الرباني قد وضع العلاج منذ أربعة عشر قرنًا: رحمة، وعدل، ووعي، وتربية.
قال ﷺ:«ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» – متفق عليه.
فلنجعل بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا منارات رحمة، ولنجعل الكلمة الطيبة شعارنا، حتى نبني مجتمعًا كريمًا، يترسخ فيه معنى الأخوة، وتختفي منه صور التنمّر المذموم