دور فقه المقاصد في الحدّ من ظاهرة التطرّف


سلسلة : مقالات في الفقه الإسلامي المعاصر
بقلم الأستاذ : مهدى صالحى

إن الالتزام بالمعايير العلمية الموضوعية في مختلف الحقول المعرفية وحتى على صعيد الممارسات التعبّدية الشعائرية هو المحكّ الذي يعزّز النجاعة والمصداقية لأن هذا الالتزام هو أرضية ملائمة لتوجيه العمل التعبّدي أو العلمي نحو المسارات القويمة خلافا للظواهر السائدة في أيّ بيئة جرّاء ضيق الآفاق الفكرية والسياسية التي أحدثها التطرّف الذي يعني الإفراط والغلوّ.

ولعل التطرف الديني داخل المنظومة الفكرية الإسلامية اليوم من أخطر الانحرافات الفكرية والسلوكية لأنها من المفاسد الكبرى المتعارضة مع المصالح العامة والخاصة التي عُلّلت بها التكاليف الشرعية؛ حيث انغمست طاقات شبابية في تيارات دينية تغذّيها السياسات الغربية حادت عمّا هو مألوف، وقد تفاعلت مع النص تفاعلا حرفيا ظاهريا غابت فيه المقاربة المقاصدية المصلحية قوامها قاعدة “درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح”.

ولذلك فإن هذا المنحى الظاهري ترتّب عنه فتاوى شاذّة تلقّتها تلك العقول الشبابية بالتسليم الطوباوي بحجّة التقليد الفقهي اللامشروع وكأنّ مثل هذه الفتاوى هي أحكام شرعية ثابتة وصالحة لكل زمان ومكان، ثم إنّ التبديع والتفسيق والحُكم على المكلَّف المسلم بالخروج عن الإسلام لاتمثّل أحكاما تكليفية شرعية مثل “الإباحة، التحريم، الندب ،الوجوب ،الكراهة.” فهذه الأحكام تنتمي إلى علم أصول الفقه الذي يحوم حول استنباط الأحكام من الأدلة العملية،بينما يبيّن العقل المقاصدي  وجوه المصالح والمفاسد من تلك الأحكام بما أنها تدور مع المصالح وجودا وعدما حيث أقرّ ابن العربي:”ومافهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة”

وكأنه في هذا السياق تأكيد على لزوم القراءة المقاصدية للشريعة التي غلب على اتّساق أحكامها في نظام التعليل المصلحي ممّا يدفع بالعقل الاجتهادي الجماعي إلى النظر في المصالح والمآلات أثناء التعاطي مع تحدّيات العصر مع الترجيح بين المصالح والمفاسد ،والترجيح بين المصالح الكلّية والجزئية ،وبين المفاسد الكبرى والصغرى.

ووفقا لهذا الاعتبار المقاصدي الذي يوجّه المسار الاجتهادي نحو إيجاد الحلول للمشاغل الإنسانية المعاصرة من دون المساس بالأصول القطعية فإن هذا المنحى الاجتهادي له دور في صناعة وعي اجتماعي إسلامي بمقصد الوسطية والسماحة التي لاتتحقق في ظل غياب فهم الواقع والاطّلاع على مستجدّاته أو طمس مقاصد الشريعة وتحريفها وكلاهما يحوي ضربا من الغلوّ والجحود الذي يعكس مفهوم التظرّف الديني والسلوكي وفي ذلك مناقضة لمرونة التشريع الإسلامي المتجسّدة في شخصية النبي ﷺ من خلال جمعه بين الدنيا والآخرة وموازنته بين متطلّبات الجسد والروح حيث يقول:أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ،لكني أصوم وأفطر وأصلّي وأرقد وأتزوج النساء،فمن رغب عن سنّتي فليس منّي”البخاري: الجامع الصحيح-كتاب النكاح -باب الترغيب في النكاح-حديث رقم 5063 ج3 ص340 .ويقول ﷺ:يسّروا ولاتعسّروا بشّروا ولاتنفّروا” مصدر نفسه-كتاب العلم-ج1 حديث رقم69 ص38