رسم الرسول الكريم بالكلمات الجميلة
3 أكتوبر، 2025
قبس من أنوار النبوة

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
حينما يقف القلم عاجزًا عن رسم ملامح الحبيب المصطفى ﷺ، لا يجد سوى الكلمات الطيبة ملاذًا يسكب من خلالها ما يجيش في القلب من محبة وتعظيم. فرسول الله ﷺ ليس مجرد شخصية تاريخية أو قائد عسكري، بل هو الإنسان الكامل، والنور الهادي، والرحمة المهداة للعالمين. ولو اجتمع رسامو الأرض جميعًا ليرسموا صورته، لعجزوا أن يخطوا في وجهه إشراقة النبوة، أو في عينيه عمق الرحمة، أو في ابتسامته نور الإيمان. ولذلك لم يكن أعظم وصف له إلا ما خرج من قلوب أحب الناس إليه؛ أزواجه الطاهرات وصحابته الكرام الذين عايشوه في الليل والنهار، في السلم والحرب، في بيته وخارج بيته.
كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أكثر الناس نقلاً لشمائل النبي ﷺ؛ فهي التي رأت معاملته عن قرب، وعايشت دقائقه في البيت. وحين سُئلت عن خُلقه، أجابت بكلمة تختصر حياة كاملة: “كان خُلُقه القرآن”. جملة قصيرة لكنها تحمل معنى عظيم، فقد كان ﷺ قرآنًا يمشي على الأرض، رحمة في التعامل، وعدلًا في الحكم، وصبرًا عند الشدائد. كانت تصفه بأنه لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولم يكن صخّابًا في الأسواق، بل كان بسّام الوجه، رقيق القلب، إذا دخل بيته كان في خدمة أهله، يساعدهم في شؤونهم، ويخيط ثوبه، ويخصف نعله. هذه التفاصيل الصغيرة التي نقلتها عائشة ترسم لنا لوحة من الحنان والبساطة والإنسانية، لوحة لا ترسم بالريشة، بل تُحفر في وجدان كل من يقرأها.
وعندما ننظر إلى أوصاف أصحابه الكرام، نجد أنهم لم يقتصروا على وصف صورته الظاهرة، بل جمعوا بين جمال الخَلق وكمال الخُلق. قال البراء بن عازب رضي الله عنه: “كان رسول الله ﷺ أحسن الناس وجهًا وأحسنهم خَلقًا”. أما جابر بن سمرة فقد روى مشهدًا خالداً حين قال: “رأيت رسول الله ﷺ في ليلة مضيئة وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر”. أي تصوير أبلغ من هذا؟ لقد رأى فيه جمالاً يفوق جمال الطبيعة كلها، نورًا لا يضاهيه نور.
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الذي نشأ في كنف النبي ﷺ، فقد وصفه بدقة متناهية، فقال: “لم يكن بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم… أبيض مشرب، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد ذو مسربة… إذا مشى تكفأ تكفؤًا كأنما ينحط من صبب”. كلمات علي لم تكن مجرد وصف خارجي، بل كانت رسمًا لهيبته وجلاله، حتى إن القارئ يشعر أن النبي ﷺ أمامه يتحرك بنور وهيبة.
وكان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يقول: “لو لم يكن فيه آية مبينة، لكان منظره ينبئك بالخبر”. أي أن مجرد النظر إلى وجهه الشريف يكفي ليدل على صدقه ونبوته، حتى قبل أن ينطق بكلمة. لقد كان وجهه الكريم مرآة لصفاء القلب ونقاء الروح. وكان أصحابه إذا جلسوا في حضرته لم يرفعوا أصواتهم، وإذا تحدث إليهم أصغوا بقلوبهم قبل آذانهم، كأن على رؤوسهم الطير من شدة الهيبة والوقار.
وما أجمل ما قاله حسان بن ثابت شاعر الرسول ﷺ حين أراد أن يرسمه بالكلمات:
وأحسنُ منك لم ترَ قطُّ عيني ** وأجملُ منك لم تلدِ النساءُ
خُلقتَ مبرأً من كلِّ عيبٍ ** كأنك قد خُلقتَ كما تشاءُ
لقد اختزل حسان في أبياته صورة جمالية كاملة للنبي ﷺ، صورة تتجاوز حدود الوصف البشري لتدل على أنه كان أعظم مخلوق وأجمل إنسان.
إن رسم الرسول ﷺ بالكلمات ليس مجرد ترف أدبي، بل هو واجب روحي وأخلاقي، لأن كل كلمة تصفه تذكرنا بقدوتنا في الحياة. فعندما نتذكر حلمه وصفحه عن أعدائه يوم فتح مكة وهو يقول لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، فإننا نرسم لوحة الرحمة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلًا. وعندما نستحضر موقفه مع الصغار وهو يلاعب الحسن والحسين ويطيل سجوده من أجل طفل ارتحل على ظهره، فإننا نرسم لوحة الأبوة الحانية. وعندما نرى دموعه وهو يبكي على أصحابه الشهداء، أو خوفه على أمته من الضلال، فإننا نرسم لوحة القائد الرحيم الذي لم يفكر في نفسه بل في أمته حتى آخر لحظة من حياته.
وهكذا تتجمع الأوصاف والشهادات لتصنع لوحة لا يمكن أن يطويها الزمن. لقد وصفه أزواجه في بيته، فأكدوا أنه الزوج الرحيم، ووصفه أصحابه في ساحات الجهاد، فأثبتوا أنه القائد الشجاع، ووصفه الشعراء فأكدوا أنه الجمال البشري الذي لم تر الأرض مثله قط. وكل كلمة قيلت عنه كانت بمثابة لون جديد في لوحة خالدة لا تبهت أبدًا.
وفي النهاية، فإن رسم الرسول ﷺ بالكلمات هو رسم للحق والخير والجمال. كلمات أزواجه وأصحابه لم تكن وصفًا عابرًا، بل كانت شهادة أمانة نقلها لنا التاريخ لتبقى نورًا نهتدي به. ولو اجتمع أهل الأرض كلهم ليصفوه لما وفوه حقه، ولكنه يكفينا أن نعلم أنه كان “قرآنًا يمشي على الأرض”، وأن صورته الحقيقية لا تكتمل إلا في قلوب المحبين. تبقى شمائله ﷺ خالدة، وتبقى كلماته حياة لقلوب المؤمنين، ويظل ذكره زادًا للأرواح، ما دام في الدنيا قلب ينبض ولسان ينطق بالصلاة والسلام عليه.