خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ الْقَادِمَةِ ( الرَّسُولُ الْمُعَلِّمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) للدكتور مُحَمَّد حِرْز


خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ الْقَادِمَةِ: الرَّسُولُ الْمُعَلِّمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

 د. مُحَمَّد حِرْز

بِتَارِيخِ 27 رَبِيعِ الْأَوَّلِ 1447 هـ ، الْمُوَافِقِ 19 مِنْ سِبْتَمْبَر 2025 م

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
alrasol almolem

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَضَعَ كُلُّ شَيْءٍ لِإِرَادَتِهِ، وَذَلَّ كُلُّ شَيْءٍ لِعِزَّتِهِ، وَتَوَاضَعَ كُلُّ شَيْءٍ لِكِبْرِيَائِهِ، وَاسْتَسْلَمَ كُلُّ شَيْءٍ لِقُدْرَتِهِ، الْحَمْدُ للهِ الْقَائِلِ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، أَوَّلٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ وَآخِرٌ بِلَا انْتِهَاءٍ، الْوِتْرُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الْقَائِلُ كَمَا فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَزِدْ وَبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْأَطْهَارِ الْأَخْيَارِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي ***** وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ

خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ * ******كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ

أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي أَيُّهَا الْأَخْيَارُ بِتَقْوَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 102).عِبَادَ اللهِ: «الرَّسُولُ الْمُعَلِّمُ ﷺ» عُنْوَانُ وِزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.

عناصر اللقاءِ

  • أَوَّلًا: وَبَدَأَ عَامٌ دِرَاسِيٌّ جَدِيدٌ.

  • ثَانِيًا: الْعِلْمُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعِلْمُ؟

  • ثَالِثًا وَأَخِيرًا: رَسَائِلُ هَامَّةٌ لِتَحْصِيلِ العِلْمِ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ!!!

أَيُّهَا السَّادَةُ: مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْمَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنِ الرَّسُولِ الْمُعَلِّمِ ﷺ، وَخَاصَّةً وَنَحْنُ فِي نِهَايَةِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَنْوَارِ، شَهْرِ مَوْلِدِ الْهَادِي الْبَشِيرِ الَّذِي عَلَّمَ الدُّنْيَا كُلَّهَا، وَفَهِمَ الدُّنْيَا كُلَّهَا، وَفَقِهَ الدُّنْيَا كُلَّهَا، وَهُوَ الْأُمِّيُّ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي ﷺ، لَكِنِ الْأُمِّيَّةُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ شَرَفٌ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ تَلَفٌ ، وَخَاصَّةً وَنَحْنُ عَلَى أَعْتَابِ عَامٍ دِرَاسِيٍّ جَدِيدٍ، فَكَانَ لِزَامًا عَلَيْنَا نَحْنُ الدُّعَاةَ أَنْ نُبَيِّنَ لِأَوْلَادِنَا وَشَبَابِنَا وَبَنَاتِنَا أَهَمِّيَّةَ الْعِلْمِ وَفَضْلَهُ، لِيُجَدِّدُوا النِّيَّةَ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلِيَعْزِمُوا عَلَى التَّفَوُّقِ فِي دِرَاسَتِهِمْ، لِيُسْعِدُوا أُمَّهَاتِهِمْ وَآبَاءَهُمْ، وَيَرْفَعُوا مِنْ شَأْنِ وَطَنِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، لِتَنْهَضَ بَلَدُنَا إِلَى بَرِّ الْأَمَانِ، فَلَا سَعَادَةَ وَلَا فَلَاحَ وَلَا تَقَدُّمَ وَلَا رُقِيَّ إِلَّا بِالْعِلْمِ. وَخَاصَّةً وَالْكَثِيرُ مِنْ طُلَّابِنَا لَا يَهْتَمُّ بِالتَّعْلِيمِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ بِالْغِشِّ فِي النِّهَايَةِ سَيَنْجَحُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الْغِشَّ خِيَانَةٌ لِلهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الْغِشَّ تَدْمِيرٌ لِذَاتِهِ وَكِيَانِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الْغِشَّ طَرِيقٌ لِهَلَاكِ الْأُمَمِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. وَخَاصَّةً وَالْعِلْمُ سَبَبٌ فِي بِنَاءِ الْإِنْسَانِ وَصِنَاعَةِ الْحَضَارَاتِ، وَخَاصَّةً وَالْوَاجِبُ عَلَى الْآبَاءِ أَنْ يُعَلِّمُوا أَبْنَاءَهُمْ، وَيَصْبِرُوا عَلَيْهِمْ، وَيَحْمُوهُمْ مِنَ الْجَهْلِ وَالْجُهَلَاءِ ، وَخَاصَّةً وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ الْعِلْمَ النَّافِعَ طَرِيقًا مُوصِلًا لِمَرْضَاتِهِ، وَسَبِيلًا يُوصِلُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ وَبِرٍّ وَهُدًى. لِذَا كَانَ مِنْ دُعَائِهِ ﷺ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه). وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

فَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً ****** تَجَرَّعَ ذُلَّ الْجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ

وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْلِيمُ حَالَ شَبَابِهِ * ****فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا لِوَفَاتِه

أَوَّلًا: وَبَدَأَ عَامٌ دِرَاسِيٌّ جَدِيدٌ.

أَيُّهَا السَّادَةُ: وَمَرَّتِ الْإِجَازَةُ سَرِيعًا وَبَدَأَ الْعَامُ الدِّرَاسِيُّ الْجَدِيدُ، وَشَتَّانَ بَيْنَ مَنْ حَفِظَ أَوْقَاتَهُ، فَكَانَتِ الثَّمَرَةُ زِيَادَةً فِي أَرْصِدَةِ حَسَنَاتِهِ، وَرِفْعَةً لِدَرَجَاتِهِ، وَبَيْنَ مَنْ فَرَّطَ فِيهَا، فَكَانَ مِنَ الْمَغْبُونِينَ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ».

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ الْأَخْيَارُ، وَتَدُورُ الْأَيَّامُ دَوْرَتَهَا، وَتَعُودُ الْحَيَاةُ إِلَى طَبِيعَتِهَا، وَيَنْطَلِقُ قِطَارُ التَّعْلِيمِ، وَتَنْطَلِقُ مَعَهُ حَيَاةٌ جَدِيدَةٌ، مِلْؤُهَا التَّفَاؤُلُ وَالْأَمَلُ، وَإِنَّهُ لَأَمْرٌ يَسْتَحِقُّ التَّفَكُّرَ وَالتَّأَمُّلَ، وَكَيْفَ لَا؟ وَقَدْ قَالَ ﷺ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَالْوَاجِبُ عَلَى الْآبَاءِ أَنْ يَغْرِسُوا الْهَمَمَ فِي أَوْلَادِهِمْ، وَأَنْ يَحْرِصُوا عَلَى تَعْلِيمِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً صَحِيحَةً، وَأَنْ يَصْبِرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَعْبُرُوا بِهِمْ إِلَى بَرِّ الْأَمَانِ، فَالْأَوْلَادُ أَمَانَةٌ، وَتَرْبِيَتُهُمْ أَمَانَةٌ، وَتَعْلِيمُهُمْ أَمَانَةٌ، سَتُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا حَافَظْتَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ صُنْتَ الْأَمَانَةَ، وَإِذَا أَهْمَلْتَهُمْ فَقَدْ خُنْتَ الْأَمَانَةَ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ﷺ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

لَيْسَ الْيَتِيمُ مَنْ انْتَهَى أَبَوَاهُ ***** مِنَ الْحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذَلِيلًا

إِنَّ الْيَتِيمَ هُوَ الَّذِي تَرَى لَهُ ***** أُمًّا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولًا

وَعَلَيْنَا مَعَاشِرَ الْآبَاءِ أَنْ نَعِيَ جَيِّدًا أَنَّ مُهِمَّةَ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ لَيْسَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى الْمَدْرَسَةِ أَوِ الْمَعَاهِدِ وَالْجَامِعَاتِ فَحَسْبُ، بَلْ إِنَّ لَنَا فِيهَا النَّصِيبَ الْأَكْبَرَ، وَالْجَانِبَ الْأَعْظَمَ، فَفِي الْقُرْآنِ نِدَاءٌ خَاصٌّ بِنَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التَّحْرِيم: 6].وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ﴾؛ أَي: عَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ.

بَلْ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُقَرِّرُ أَنَّ الْمُرَبِّي وَالْمُعَلِّمَ الْأَوَّلَ لِلْوَلَدِ هُوَ وَالِدُهُ، فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَالَ ﷺ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ». وَمِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ -يَا سَادَةُ- الَّتِي يَنْبَغِي لَنَا مَعَاشِرَ الْآبَاءِ أَنْ لَا نَغْفُلَ عَنْهَا، وَخَاصَّةً مَعَ بِدَايَةِ الدِّرَاسَةِ، أَنْ نَغْرِسَهَا فِي نُفُوسِ أَبْنَائِنَا الطُّلَّابِ: احْتِرَامُ الْمُعَلِّمِ. فَإِذَا احْتَرَمَ الطَّالِبُ مُعَلِّمَهُ اسْتَفَادَ مِنْهُ؛ اسْتَفَادَ مِنْ عِلْمِهِ، اسْتَفَادَ مِنْ أَدَبِهِ، اسْتَفَادَ مِنْ تَجَارِبِهِ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

إِنَّ الْمُعَلِّمَ وَالطَّبِيبَ كِلَيْهِمَا****** لَا يَنْصَحَانِ إِذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا

فَاصْبِرْ لِدَائِكَ إِنْ أَهَنْتَ طَبِيبَهُ ***** وَاصْبِرْ لِجَهْلِكَ إِنْ جَفَوْتَ مُعَلِّمَا

فَالْمُعَلِّمُ جَدِيرٌ بِالِاحْتِرَامِ، جَدِيرٌ بِالْإِكْرَامِ، وَأَعْنِي بِالْمُعَلِّمِ: ذَلِكَ الْمُعَلِّمَ الْمُخْلِصَ، الَّذِي يَبْذُلُ مَا بِوُسْعِهِ مِنْ أَجْلِ تَعْلِيمِ الْأَجْيَالِ وَتَرْبِيَةِ النَّشْءِ، وَتَقْوِيمِ سُلُوكِهِمْ. فَمُعَلِّمٌ كَهَذَا مِنْ وَاجِبِ الْأُمَّةِ شُكْرُ جُهُودِهِ، وَالِاعْتِرَافُ بِفَضْلِهِ، وَمَعْرِفَةُ قَدْرِهِ.

وَأُنَادِي إِخْوَانِي الْمُعَلِّمِينَ وَفَّقَهُمُ اللهُ، فَأَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُرَبِّينَ الْكِرَامِ، أَنْتُمْ بَيْتُ الْقَصِيدِ وَمَحَطُّ الرَّكْبِ، أَنْتُمْ رُوَّادُ الْعِلْمِ وَسُلَّمُ التَّرَقِّي، بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عُقُولُ النَّاشِئَةِ، وَعُدَّةُ الْمُجْتَمَعِ وَأَمَلُهُ، وَعَلَيْكُمْ بَعْدَ اللهِ تُعْقَدُ الْآمَالُ، وَلِسَنَوَاتٍ عِدَّةٍ، تُحَطُّ عِنْدَكُمُ الرِّحَالُ. وَنَبِيُّكُمْ ﷺ قَدْ أَكْبَرَ مِنْ شَأْنِكُمْ، وَأَعْلَى مِنْ مَقَامِكُمْ، حِينَ قَالَ عَنْكُمْ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ.. وَإِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ، وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ». هَا هُمْ أَبْنَاؤُنَا قَدْ أَقْبَلُوا عَلَيْكُمْ مُجِيبِينَ مُجِلِّينَ، يَنْتَظِرُونَ مِنْكُمُ الْعُلُومَ النَّافِعَةَ، وَالْوَصَايَا الْجَامِعَةَ، فَخُذُوا بِمَجَامِعِ تِلْكَ الْقُلُوبِ إِلَى اللهِ، وَدُلُّوهَا عَلَى مَرَاضِيهِ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فُصِّلَت:: 33]..

يَا مَشَاعِلَ النُّورِ وَالرَّحْمَةِ، مَا كَانَ لِلَّهِ يَدُومُ وَيَتَّصِلُ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِهِ يَنْقَطِعُ وَيَضْمَحِلُّ، فَأَخْلِصُوا لِلَّهِ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ، قَالَ الْإِمَامُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ بِخَيْرٍ إِنْ قَالَ: قَالَ لِلَّهِ، وَإِنْ عَمِلَ: عَمِلَ لِلَّهِ، فَجَمِّلُوا عَمَلَكُمْ بِالْإِخْلَاصِ، فَأَجْرُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى.. وَتَأَمَّلُوا أَيُّهَا الْأَخْيَارُ مَطْلَعَ سُورَةِ الرَّحْمَنِ: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرَّحْمَن: 1-2]؛ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الرَّحْمَةَ هِيَ أَهَمُّ صِفَاتِ الْمُعَلِّمِ، وَأَنَّ الْمُعَلِّمَ بِلَا رَحْمَةٍ يَفْقِدُ أَهَمَّ مُقَوِّمَاتِ نَجَاحِهِ.

يَا مَشَاعِلَ الْعِلْمِ وَالنُّورِ، رِسَالَةُ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ اقْتِدَاءٌ، اقْتِدَاءٌ بِخَيْرِ الْمُعَلِّمِينَ وَأَحْسَنِ الْمُرَبِّينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ”، فَيَا أَيُّهَا الْمُعَلِّمُونَ الْكِرَامُ، وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ وَاصْبِرُوا، وَشُدُّوا عَزَائِمَكُمْ وَاجْتَهِدُوا.

يَا مَشَاعِلَ الْهُدَى، نَعْلَمُ أَنَّ الْأَجْيَالَ تَغَيَّرَتْ، وَأَنَّ الْمُلْهِياتِ وَالشَّوَاغِلَ قَدْ كَثُرَتْ، فَهَلِ الْحَلُّ فِي التَّضَجُّرِ وَالشَّكْوَى، وَالْيَأْسِ مِنْ صَلَاحِ الْأَحْوَالِ؟ كَيْفَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يُوسُف: 87]. وَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزُوا، ابْذُلُوا كُلَّ مَا تَسْتَطِيعُونَ، وَدَافِعُوا الْبَاطِلَ بِكُلِّ مَا تَمْلِكُونَ، وَسَاهِمُوا بِكُلِّ مَا تَمْلِكُونَ فِي بِنَاءِ وَطَنِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التَّوْبَة: 122].

ثَانِيــًــا: الْعِلْمُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعِلْمُ؟

أَيُّهَا السَّادَةُ: النَّبِيُّ ﷺ هُوَ الْمُعَلِّمُ وَالنَّاصِحُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آلِ عِمْرَان: 164]. فَأَرْسَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ الْأَمِينَ ﷺ مُعَلِّمًا لِلْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، وَنَصَّتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ عَلَى هَذِهِ الْمَهَمَّةِ الْعَظِيمَةِ: مَهَمَّةِ التَّعْلِيمِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا عَلَى أَصْحَابِهِ فَوَجَدَهُمْ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَعَلَّمُونَ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ لَهُمْ: “وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا”.

وَقَالَ ﷺ: “إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا وَمُيَسِّرًا”. وَيَقُولُ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ: “مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ”، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: “فَمَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَطُّ أَرْفَقَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ”. فَلَقَدْ كَانَ ﷺ خَيْرَ الْمُعَلِّمِينَ، وَأَحْسَنَ الْمُرَبِّينَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي تَعْلِيمِهِ وَتَرْبِيَتِهِ حَلِيمًا رَحِيمًا، رَفِيقًا شَفِيقًا، يُيَسِّرُ وَلَا يُعَسِّرُ، يُبَشِّرُ وَلَا يُنَفِّرُ، وَلِأَنَّهُ كَانَ طَلْقَ الْوَجْهِ، دَائِمَ التَّبَسُّمِ، كَثِيرَ التَّوَدُّدِ. قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “مَا لَقِيتُ النَّبِيَّ ﷺ إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي”.

العِلْمُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا العِلْمُ؟
العِلْمُ سَبَبٌ لِتَقَدُّمِ الأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، فَلَا سَعَادَةَ وَلَا فَلَاحَ وَلَا تَقَدُّمَ وَلَا رُقِيَّ إِلَّا بِالعِلْمِ، فَبِالعِلْمِ تُبْنَى الأَمْجَادُ، وَتُشَيَّدُ الحَضَارَاتُ، وَتَسُودُ الشُّعُوبُ، وَتَقِلُّ الأَمْرَاضُ وَالأَوْبِئَةُ، فَالعِلْمُ هُوَ الرَّكِيزَةُ العُظْمَى لِأَيِّ نَهْضَةٍ فِي قَدِيمِ التَّارِيخِ وَحَاضِرِهِ، وَحَيْثُ كَانَتِ النَّهْضَةُ كَانَ التَّعْلِيمُ، وَحَيْثُ كَانَ التَّعْلِيمُ كَانَتِ النَّهْضَةُ، فَكَمْ مِنْ أُمَمٍ نَهَضَتْ بِسَبَبِ تَعْلِيمِهَا، وَكَمْ مِنْ أُمَمٍ تَقَدَّمَتْ بِسَبَبِ تَعْلِيمِهَا، وَكَمْ مِنْ أُمَمٍ تَفَوَّقَتْ بِسَبَبِ تَعْلِيمِهَا، وَكَمْ مِنْ أُمَمٍ تَأَخَّرَتْ بِسَبَبِ جَهْلِهَا، وَكَمْ مِنْ أُمَمٍ سَادَ فِيهَا الظَّلَامُ وَحَلَّتْ بِهَا الأَمْرَاضُ وَالأَوْبِئَةُ بِسَبَبِ جَهْلِهَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. العِلْمُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا العِلْمُ؟ مَنْزِلَةُ العِلْمِ رَفِيعَةٌ عَالِيَةٌ، لَا تُسَاوِيهَا مَنْزِلَةٌ مِنَ المَنَازِلِ، وَلَا تُقَارِبُهَا مَكَانَةٌ مِنَ المَقَامَاتِ، وَمَا مِنْ إِنْسَانٍ إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى العِلْمِ، وَكَيْفَ لَا؟ وَاللَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَنَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا، وَلَا نَعْرِفُ شَيْئًا، قَالَ رَبُّنَا: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 78)، وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ بَلَغَ الغَايَةَ فِي المَعَارِفِ وَالعُلُومِ، وَوَصَلَ إِلَى النِّهَايَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا، فَكُلُّ مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ العُلُومِ وَالمَعَارِفِ قَلِيلٌ عَلَى كَثْرَتِهِ وَتَنَوُّعِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: 85).

لِذَا حَثَّنَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى العِلْمِ، وَبَيَّنَ مَنْزِلَةَ العِلْمِ وَالعُلَمَاءِ، وَالثَّوَابَ العَظِيمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ العِلْمِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (المجادلة: 11). فَلَمْ يَقُلْ جَلَّ وَعَلَا: الَّذِينَ أُوتُوا جَاهًا أَوْ مَالًا أَوْ وَلَدًا، بَلْ قَالَ بَعْدَ تَحْقِيقِ الإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ: الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ بِكَ أَخِي الحَبِيبُ أَنْ تَنْأَى عَنْ طَلَبِ العِلْمِ وَتُعْطِي لَهُ ظَهْرَكَ؟! وَلَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ بِالاسْتِزَادَةِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا مِنَ العِلْمِ، فَقَالَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَقُلْ رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه:114).

العِلْمُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا العِلْمُ؟
العِلْمُ مِيرَاثُ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، فَفِي صَحِيحِ البُخَارِي تَعْلِيقًا وَالسُّنَنِ الأَرْبَعَةِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». وَالعِلْمُ طَرِيقٌ إِلَى الجَنَّةِ يَا سَادَةُ، كَمَا صَحَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ-:قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ». وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: «وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ».

العِلْمُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا العِلْمُ؟
سُئِلَ أَحَدُ السَّلَفِ: أَجْمَعُ المَالِ أَفْضَلُ أَمْ جَمْعُ العِلْمِ؟ فَقَالَ: بَلْ جَمْعُ العِلْمِ؛ لِأَنَّ المَالَ يَنْقُصُ بِالْإِنْفَاقِ وَالعِلْمُ يَزْدَادُ، وَلِأَنَّ مَنْ جَمَعَ العِلْمَ يَزْدَادُ أَحِبَّاؤُهُ، وَمَنْ جَمَعَ المَالَ يَزْدَادُ أَعْدَاؤُهُ. العِلْمُ خَيْرٌ مِنَ المَالِ، فَالعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ.

بَلِ اسْتَشْهَدَ اللَّهُ بِالعُلَمَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ عَلَى أَجَلِّ مَشْهُودٍ وَهُوَ تَوْحِيدُهُ، وَقَرَنَ شَهَادَتَهُمْ بِشَهَادَةِ المَلَائِكَةِ الأَبْرَارِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران:18). فَانْظُرْ كَيْفَ بَدَأَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ، وَثَنَّى بِالمَلَائِكَةِ، وَثَلَّثَ بِأَهْلِ العِلْمِ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا شَرَفًا وَفَضْلًا وَجَلَاءً وَنُبْلًا، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 9).

عِلْمُ العَلِيمِ وَعَقْلُ العَاقِلِ اخْتَلَفَا **** مَنْ ذَا الَّذِي مِنْهُمَا قَدْ أَحْرَزَ الشَّرَفَا

فَالعِلْمُ قَالَ أَنَا أَحْرَزْتُ غَايَتَهُ ***** وَالعَقْلُ قَالَ أَنَا الرَّحْمَنُ بِي عُرِفَا

فَأَفْصَحَ العِلْمُ إِفْصَاحًا وَقَالَ لَهُ ***** بِأَيِّنَا الرَّحْمَنُ فِي قُرْآنِهِ اتَّصَفَا

فَبَانَ لِلْعَقْلِ أَنَّ العِلْمَ سَيِّدُهُ ***** وَقَبَّلَ العَقْلُ رَأْسَ العِلْمِ وَانْصَرَفَا

العِلْمُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا العِلْمُ؟
العِلْمُ أَعْظَمُ مَا تَنَافَسَ فِيهِ المُتَنَافِسُونَ، وَأَغْلَى مَا غُبِطَ عَلَيْهِ المُؤْمِنُونَ. عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالمُرَادُ بِالحَسَدِ هُنَا الغِبْطَةُ، وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَهُ.

العِلْمُ يَبْقَى أَثَرُهُ لِلْإِنْسَانِ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَيَخْلُدُ ذِكْرُهُ عِنْدَ الوَرَى وَإِنْ كَانَ تَحْتَ التُّرَابِ مَدْفُونًا. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ». رَوَاهُ مُسْلِم. أَهْلُ العِلْمِ أَحْيَاءٌ، وَأَهْلُ الجَهْلِ أَمْوَاتٌ.. وَلِلَّهِ دَرُّ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ-:

مَا الفَخْرُ إِلَّا لِأَهْلِ العِلْمِ إِنَّهُمُ * ***عَلَى الهُدَى لِمَنِ اسْتُهْدِي أَدِلَّاءُ

وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ **** وَالجَاهِلُونَ لِأَهْلِ العِلْمِ أَعْدَاءُ

فَفُزْ بِعِلْمٍ تَعِشْ حَيًّا بِهِ أَبَدًا **** النَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ العِلْمِ أَحْيَاءُ

العِلْمُ وما أدرَاكَ ما العِلْمُ؟
إِنَّ العُلَمَاءَ أَمَانٌ – بِإِذْنِ اللهِ – جَلَّ وَعَلا لأَهْلِ الإِسْلَامِ، وَسِيَاجٌ – بِأَمْرِ اللهِ – لأَهْلِ الإِيمَانِ، وَمَوْتُهُمْ إِيذَانٌ بِنَقْصِ الدِّينِ، وَإِنْذَارٌ بِظُهُورِ الْبِدَعِ، وَعَلَامَةٌ عَلَى اسْتِعْلَاءِ الْجُهَّالِ وَالْمُخَرِّفِينَ وَالْمُنْحَرِفِينَ. فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وفي الصحيحينِ عن أَبي مُوسَى – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ، وَالْهَرْجُ: الْقَتْلُ». يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِكُلِّ مَنْ يَجْتَرِئُ عَلَى الْفُتْيَا: تَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى:

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النحل: ١١٦-١١٧]. فالحَذَرَ الحَذَرَ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ؛ لذا كانَ مِن دُعائِهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ، وَنَفْسٍ لا تَشْبَعُ». بل قالَ النَّبِيُّ ﷺ – كمَا في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ –: «مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ يُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللهُ جَهَنَّمَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

العِلْمُ وما أدرَاكَ ما العِلْمُ؟
العِلْمُ بِلا عَمَلٍ هَلاكٌ وَدَمَارٌ وَخِزْيٌ وَعَارٌ ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤]. وفي الصحيحينِ مِن حديثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ – أي: أمعاؤه – فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ! مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ».
قَالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢-٣]. لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ؛ فَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيهِ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟»

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ. ………….

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ، وَبِاسْمِ اللَّهِ وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وَبَعْدُ

ثَالِثًا وَأَخِيرًا: رَسَائِلُ هَامَّةٌ لِتَحْصِيلِ العِلْمِ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ!!!

أَهْمِسُ فِي أُذُنِ أَوْلَادِي وَأَقُولُ لَهُمْ: أَبْنَائِيَ الْأَعِزَّاءَ، بُنَيَّاتِي الْغَالِيَاتِ، تَأَمَّلُوا مَعِي مَا يَقُولُهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: “الْعِلْمُ: حَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَنُورُ الْبَصَائِرِ، وَشِفَاءُ الصُّدُورِ، وَرِيَاضُ الْعُقُولِ، وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ، وَأُنْسُ النُّفُوسِ، وَهُوَ الصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالْأَنِيسُ فِي الْوَحْشَةِ، وَالْكَاشِفُ عَنِ الشُّبْهَةِ، مُذَاكَرَتُهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثُ عَنْهُ جِهَادٌ، وَطَلَبُهُ قُرْبَةٌ، وَبَذْلُهُ صَدَقَةٌ، وَمُدَارَسَتُهُ عِبَادَةٌ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ”..

فَيَا بُنَيَّ الْمُبَارَكُ، تَيَقَّنْ أَنَّكَ لَسْتَ بِأَقَلَّ مِنْ غَيْرِكَ، وَلَا أَدْنَى مِمَّنْ سِوَاكَ، وَأَنَّكَ مِنْ صُنْعِ أَفْكَارِكَ، وَأَنَّكَ ثَمَرَةٌ لِقَنَاعَاتِكَ وَإِيمَانِكَ، فَغَيِّرْ قَنَاعَاتِكَ تَتَغَيَّرْ حَيَاتُكَ، غَيِّرْ قَنَاعَتَكَ لِتَحْلُوَ حَيَاتُكَ، وَتَعْظُمَ مُنْجَزَاتُكَ، وَهَيَّا لِتَكُونَ مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَكُونَ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النَّحْل: 128].

فَعَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَلَا تَنْشَغِلُوا بِالْمَعَاصِي وَاللَّذَّاتِ وَأَصْحَابِ السُّوءِ، وَتَأَمَّلُوا مَعِي قَوْلَ رَبِّكُمْ: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الْبَقَرَة: 282].يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }: إِنِّي لَأَحْسَبُ أَنَّ الرَّجُلَ يَنْسَى الْعِلْمَ يَعْلَمُهُ بِالذَّنْبِ يَعْمَلُهُ.

اِنْتَبِهْ.. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ يَشْتَكِي سُوءَ حِفْظِهِ وَضَعْفَ ذَاكِرَتِهِ، وَلَوْ فَتَّشْتَ أَيُّهَا الْحَبِيبُ الْكَرِيمُ لَعَلِمْتَ أَنَّ السَّبَبَ الرَّئِيسِيَّ هُوَ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبُ.

لِذَا يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ: إِنَّ لِلْمَعْصِيَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَبْرِ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ، وَضِيقًا فِي الرِّزْقِ، وَبُغْضًا فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ. وَإِنَّ لِلطَّاعَةِ نُورًا فِي الْوَجْهِ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ. وَهَذَا هُوَ الشَّافِعِيُّ الْإِمَامُ عِنْدَمَا أَرَادَ أَنْ يَتَعَلَّمَ عَلَى يَدَيِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، اِنْطَلَقَ الشَّافِعِيُّ لِيَبْحَثَ عَنْ كِتَابِ الْإِمَامِ مَالِكٍ «المُوَطَّأ»، فَاسْتَعَارَ المُوَطَّأَ مِنْ رَجُلٍ وَعَكَفَ الشَّافِعِيُّ مَعَ المُوَطَّأِ فَحَفِظَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ فِي تِسْعِ لَيَالٍ، وَأَخَذَهُ فِي صَدْرِهِ، وَانْطَلَقَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ. وَجَلَسَ الشَّافِعِيُّ الْإِمَامُ بَيْنَ يَدَي أُسْتَاذِهِ وَشَيْخِهِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَافْتَتَحَ الشَّافِعِيُّ الْمُوَطَّأَ مِنْ حِفْظِهِ، فَكُلَّمَا نَظَرَ مَالِكٌ إِلَى الشَّافِعِيِّ يَقْرَأُ الْمُوَطَّأَ مِنْ صَدْرِهِ أُعْجِبَ بِذَكَائِهِ، وَبِحُسْنِ قِرَاءَتِهِ، وَقُوَّةِ حَافِظَتِهِ وَذَاكِرَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ. يَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَكُلَّمَا نَظَرْتُ إِلَى مَالِكٍ تَهَيَّبْتُ أَنْ أُوَاصِلَ الْقِرَاءَةَ، فَنَظَرَ إِلَيَّ مَالِكٌ وَقَدْ أُعْجِبَ بِحُسْنِ قِرَاءَتِي وَحِفْظِي وَقَالَ لِي: زِدْ يَا فَتَى .. زِدْ يَا فَتَى .. زِدْ يَا فَتَى .. حَتَّى أَنْهَيْتُ الْمُوَطَّأَ كُلَّهُ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ. فَلَمَّا رَأَى مَالِكٌ هَذَا الذَّكَاءَ وَهَذَا الْحِفْظَ مِنَ الشَّافِعِيِّ قَالَ: يَا شَافِعِيُّ، إِنِّي أَرَى أَنَّ اللهَ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ. لِذَا لَمَّا ذَهَبَ يَوْمًا لِيَتَعَلَّمَ وَنَظَرَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى امْرَأَةٍ نَسِيَ الشَّافِعِيُّ مَا حَفِظَهُ فَأَنْشَدَ قَائِلًا:

شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي ****** فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي

وَأَخْبَرَنِي بِأَنَّ الْعِلْمَ نُورٌ ***** وَنُورُ اللهِ لَا يُهْدَى لِعَاصِي

فَالْعِلْمُ نُورٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ النَّاسُ وَيَهْتَدُونَ بِهِ، وَالْجَهْلُ ظُلْمَةٌ يَجُرُّ النَّاسَ إِلَى الْهَلَاكِ. الْعِلْمُ يَدْعُو إِلَى الْحِكْمَةِ وَالتَّأَنِّي، وَالْجَهْلُ يَدْعُو إِلَى الْعَجَلَةِ وَالِاسْتِعْجَالِ. قَالَ أَحْمَدُ شَوْقِي:

الْعِلْمُ يَبْنِي بُيُوتًا لَا عِمَادَ لَهَا ***** وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بُيُوتَ الْعِزِّ

وَعَلَيْكُمْ بِالنَّوْمِ مُبَكِّرًا، وَالِاسْتِيقَاظِ مُبَكِّرًا، وَعَلَيْكَ بِالْحِرْصِ وَالِاجْتِهَادِ، وَاسْمَعْ إِلَى كَلَامِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ وَهُوَ يَقُولُ:

أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إِلَّا بِسِتَّةٍ ***** سَأُنْبِيكَ عَنْ تَفْصِيلِهَا بِبَيَانِ

ذَكَاءٌ وَحِرْصٌ وَاجْتِهَادٌ وَبُلْغَةٌ **** وَصُحْبَةُ أُسْتَاذٍ وَطُولُ زَمَانِ

وَعَلَيْكَ أَنْ تُخْلِصَ النِّيَّةَ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [الْبَيِّنَة: 5]. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» وَاخْتِمْ خُطْبَتِي بِقَوْلِ: «إِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْغِشِّ؛ فَإِنَّ الْغِشَّ هَلَاكٌ وَدَمَارٌ وَخِزْيٌ وَعَارٌ.» لذا قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: ( مَن غَشَّنا فليسَ مِنا)  رَوَاهُ مُسْلِم.

حَفِظَ اللهُ مِصْرَ قِيَادَةً وَشَعْبًا مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَحِقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ.

 

كَتَبَهُ العَبدُ الفَقيرُ إِلَى عَفوِ رَبِّهِ د/ مُحَمَّد حِرز إِمَامٌ بِوِزَارَةِ الأَوقَافِ