حياء ابنة مدين


بقلم د.إيمان إبراهيم عبد العظيم

مدرس بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر – واعظة بوزارة الأوقاف

يحكي لنا المفسرون عن قصة التقاء سيدنا موسى عليه السلام بزوجته بأنها جاءت من تدبير الله عز وجل:إذ خرج موسى من مصر هارباً فاراً بنفسه خوفًا من بطش فرعون وجنوده لأنه قتل أحد رجاله؛ وظل يجرى أيامًا وأيام بلا طعام ولا ماء حتى أن نعليه ذابا منه من شدة بعد المسافة وعندما اطمأن إلى أنه دخل بلداً أخرى لا تقع تحت بطش فرعون؛ جلس يستظل بظل شجرة فوجد مشهدًا أثار اهتمامه!وجد فتاتين تمسكان بأغنام لهما وتحاولان أن تمنعا هذه الأغنام من الانفلات منهما! فتعجب لأمرهما وقرر في نفسه أن يساعدهما على الرغم من تعبه الشديد وشدة إعيائه إلا أن شهامته غلبت تعبه؛ فتوجه إليهما على الرغم من أنه غريب في هذه المدينة التي وصل إليها وكانت تدعى مدين وهى تقع جنوب فلسطين؛ ويحكي لنا القرآن الكريم في سورة القصص الآية (٢٣): “وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ”

وهنا زاحم موسى الرجال من أجل أن يسقي لهما؛ وكانت على البئر صخرة كبيرة لا يقوى على زحزحتها إلا عشرة من الرجال؛ فرفعها موسى وحده فسقى لهما وسقى الأغنام وأمسك بزمامها ومشى بهما حتى أوصلهم إلى بيت الفتاتين؛ ثم جلس تحت شجرة وناجى ربه قائلاً: “رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ” . فسمعته إحدى الفتاتين والتي أسرعت لتحكي لأبيها ما حدث لهما والذي بدوره تعجب للسرعة التي عادت بها بناته، حيث اعتادتا أن تأخذا وقتاً أكثر من ذلك.

وهنا استمع الأب الحكيم إلى سرد بناته لما حدث لهما دون زجر أو نهر فكان من جراء هذه الثقة من الأب صراحة تامة من البنتين؛ فأنصت الأب الصالح إلى بنتيه برفق ولين وحنو وحينها طلب الأب الحنون من ابنته الصغرى أن تنادي على هذا الرجل الذي ساعدهما، فقد كانت هي الأكثر حماسًا في سرد قصته لأبيها.

وقد نتعجب كيف أن هذه الفتاة تحمست لسيدنا موسى عليه السلام وهو على الهيئة التي كان عليها من وعثاء السفر ورث الملبس، ومن المرجح أن هذه الفتاة المؤمنة العاقلة لم تقيم الشخص الذي أمامها على أساس الهيئة والمظهر بل أنها قيمته على أساس الجوهر والتصرف، فما أحوج بناتنا هذه الأيام إلى هذه النظرة الثاقبة في الحكم على الأمور.

ولاشك أيضاً أن صلاح الأهل يلعب دورًا كبيرًا في تربية الأبناء، فهذه الفتاة الصالحة نشأت في كنف هذا الأب الصالح، وهنا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده، وولد ولده، وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم».فخرجت الفتاة إلى موسى عليه السلام في مشية مدحها الله عز وجل فيقول:«فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا».

وهنا يتساءل العلماء عن اختيار الفتاة لهذه الكلمات تحديدا فيقول العلماء إنها أتت بتقديم أبيها في سياق الكلام الموجه إلى موسى لئلا يشوب كلامها شائبة أو يشوب موسى منها ريبة وهنا ينبغي لكل فتاة أن تختار ما تقول من الكلمات وأن تحرص على مدلول كلماتها كما فعلت ابنة هذا الرجل الصالح.

وهنا سرد موسى قصته لهذا الرجل الصالح الذي كان ضريراً وكان يعرف باسم «يثرون»، وكان رجلاً صالحًا عابدًا آمن بما أتى به نبي الله شعيب ولم يكن هو نفسه وهذا هو القول الراجح لأغلب العلماء، وهنا استأذنت الفتاة أبيها للحديث معه وحدهما، فاستجاب لها واستمع لها بسماحة الأب الحنون الذي يضرب لنا المثل في تربية الأولاد بالحسنى والصداقة، فقالت له « قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ».

وهنا سأل الأب ابنته: القوي، وقد عرفناها فكيف عرفت أنه أمين. وقالت البنت كنت و أختي أمشي أمامه حيث نريه الطريق فاستحى منا وقال بل امشوا من خلفي ودلوني على الطريق برمي حصوات في الاتجاه الصحيح فعرفنا أنه أمين، وهكذا عرضت الفتاة رأيها على أبيها بكل وضوح ولم تخش شيئاً لأنها لم تفعل شيئاً يغضب ربها ولا أبيها، فقد كانت بريئة النفس لطيفة الحس.

فاقتنع الأب بصدق كلام ابنته فعرض عليه في الحال الزواج من إحدى ابنتيه فمن حياء هذا الشيخ الصالح لم يشأ أن يفرض عليه واحدة وتركه يختار من أراد.

وتذكر لنا كتب التاريخ أن سيدنا موسى عليه السلام اختار الأخت الصغرى التي بدورها تشاورت مع أختها الكبرى وسألتها إن كانت ترغب في الزواج منه أو عليها أن تنتظرها حتى تتزوج هي أولاً. وهكذا نجد أن حياء هذه الفتاة وصلاحها واحترامها لأبيها جعل الله سبحانه وتعالى يكافئها بالزوج الصالح، سيدنا موسى عليه السلام التي استحقت بجدارة لقب امرأة الفراسة والحياء وكيف لا وقد اعتبرها العلماء والمفسرون من أكثر النساء فراسة وذكاء، وشخصيتنا على الرغم من فراستها هذه إلا أنها لم تتخل عن حيائها وأدبها الجم؛ فقد وصفها القرآن الكريم بالحياء الشديد الذي انعكس حتى على طريقة مشيتها، روى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الحياءُ منَ الإيمانِ ، والإيمانُ في الجنَّةِ ، والبَذاءُ منَ الجفاءِ ، والجفاءُ في النَّارِ».

و من الجدير بالذكر أن زوجة موسى عليه السلام لم يرد اسمها في السياق القرآني؛كما هو المعتاد في عدم ذكر أسماء نساء النبي وبناته؛ على الرغم من نزول بعض الآيات القرآنية فيهن،ولم يستثن من هذا الاتجاه القرآني إلا نموذج السيدة «مريم عليها السلام» التي سميت السورة «التاسعة عشرة» في ترتيب المصحف الشريف باسمها؛ بل وجاء ذكر اسمها في النسق القرآني أربعة وثلاثين مرة.

وقد فسر بعض العلماء عدم الإشارة بالاسم إلى أسماء أحد السيدات في النسق القرآني أو عدم الخوض في التفاصيل الدقيقة لما سيحدث لنساء أهل الجنة؛ فقد فسروه بشدة حياء «الله سبحانه وتعالى» فالحياء صفة محببة إلى ربنا عز وجل أمرنا بالتحلي بها وجعلها شعبة من شعب الإيمان.

أما في نموذج السيدة مريم البتول فالأمر يختلف جملة وتفصيلًا؛ حيث إن الأمر يتعلق بمعجزة من معجزات الله عز وجل لزم التعريف بها والتأكيد عليها وإزالة اللبس عنها لذلك لزم تكرارها.