الدعاء للوالدين (2)


بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى

قرن القرآن الكريم بين حق الله تعالى وحق الوالدين فقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} عظيماً في الأقوال والأفعال والإنفاق ولطف المعاملة وحسن العشرة، وهذا الأمر القرآني يستلزم النهي عن: الإساءة، وعن ترك الإحسان وترك الإساءة، فإنسان لا يحسن ولا يسيء فهذا عاق ومخالف للأمر بالإحسان.

{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} أي تحت رعايتك وفي حفظك وخدمتك، فكما كنت محتاجا إليهما وأنت صغير فهما محتاجان إليك وقد طعنا في السن فاحفظ الجميل ورد بعض الجميل، وإياك والأذى والإساءة إليهما فإن الله تعالى نهى عن أدنى الأذى وهي كلمة الأف والتضجر {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}، ولو علم الله شيئا أدنى من الأف لحرمه {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} لا تغلظ لهما القول بكثرة اللوم والعتاب، فنهرهما فيه منافاة لحسن صحبتهما {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} لينا لطيفا سالما من كل عيب، وهو قول المحب لمن يحب.

ولهذا قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي تواضع لهما ذلا ورحمة واحتسابا للأجر من الله لا خوفا منهما ولا رجاء ما عندهما من مال أو ميراث أو نحوه، {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ومن لم يمتثل هذا الأمر ويدعو لوالديه فهو عاق لوالديه، فكما كان أبوك يدعو إليك وأنت صغير وكذلك أمك فادع الله لهما بالرحمة في الدنيا والآخرة.
واعلم أن الإنسان مهما قدم من البر والإحسان فإنه لن يوفي حق والديه فيتوجه الى ربه ليجزيهما عنه خير الجزاء، كما دعا نوح عليه السلام لوالديه وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28].

والدعاء لهما من آكد الحقوق خاصة بعد موتهما؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: أنى هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك”، فلا تبخل أيها البار على أبيك المُتوَفَى بدعوات لترفعه درجة في الجنة، ولا تبخل على أمك المُتوَفَية بدعوات لترفعها درجة في الجنة، فما بقي لهما من الدنيا بعد موتهما إلا الدعاء لهما، قال صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”، فاذا مات والدُك وهو ابن ستين عاما أو سبعين عاما فقد انتهت حياته وانقطع عمله، ولكن عمره يطول بدعائك واستغفارك له.

ولقد عَدَّ النبي أربع خصالٍ في بر الوالدين بعد موتهما: “الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، ‌وإنفاذ ‌عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما”، والخليل إبراهيم عليه السلام يعلمنا درساً في التسامح مع الوالدين مهما فعلا حتى لو كفرا بالله العظيم، فيدعوا ويستغفر لأبيه ويقول: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}[مريم: 47].

وبعد تعداد أوجه الإحسان والتي تستلزم النهي عن الإساءة يبقى الإنسان إنسانا خطَّاءً قد يفوته بعض البر، أو يقع في بعض العقوق، فدعانا القرآن للإسراع بالتوبة وإصلاح ما فسد واسترضاء الوالدين فقلبهما أرحم القلوب، ومن ورائهم رحمة الله رب العالمين الذي ختم الآيات بقوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25].