القلب يهفو إلى من يحب .. حب النبي الكريم للسيدة عائشة رضي الله عنها


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي

إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

كان قلب النبي صلى الله عليه وسلم عامرًا بالمحبة والرحمة، ولم يكن حبّه لزوجاته عابرًا أو مجرد علاقة اجتماعية، بل كان حبًّا نابعًا من أعماق القلب، يُجسِّد أسمى معاني الإنسانية، ويمتزج فيه الإيمان بالعاطفة، والرحمة بالمودة، والعدل بالإحسان. ومن بين كل زوجاته، حظيت السيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها بمكانة متميزة في قلب النبي، حتى صار حبه لها حديث الملائكة، ونموذجًا خالدًا للعلاقة الزوجية التي تُبنى على التقدير والفهم والمودة.

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يخجل من إعلان حبه لعائشة، بل كان يعبّر عنه أمام الناس بكل وضوح، ولما سأله عمرو بن العاص: من أحب الناس إليك؟ قال: “عائشة”، فقال: من الرجال؟ قال: “أبوها”، وهذا التصريح النبوي يبيّن للعالم كله أن الحب ليس ضعفًا ولا خجلًا، بل هو شعور إنساني نبيل، متى ما صدق وخلص، أصبح من دلائل الإيمان.

حياة النبي مع السيدة عائشة كانت مليئة بالمواقف الإنسانية الراقية، فقد كان يسابقها، ويمازحها، ويجلس معها يُصغي لكلامها، وكان يحرص على أن تشعر دائمًا بمكانتها في قلبه. تقول السيدة عائشة: “كنت ألعب بالبنات عند رسول الله، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله إذا دخل ينقمعن منه، فيسرّبهن إليّ فيلعبن معي”، وفي هذا المشهد نلمس كم كان رسول الله يتعامل معها كزوجة محبوبة لها عالمها الخاص، وكان يحترم خصوصيتها، ويُشعرها بالدفء والحنان.

وفي أحد الأسفار، طلب من الصحابة أن يتقدّموا عنه، ثم تسابق مع عائشة فسبقته، وبعد مدة، كرر السباق فسبقها، وقال: “هذه بتلك”، ما يدل على أنه كان يحتفظ في ذاكرته بلحظات الحب البسيطة، ويتعمد أن يُدخل السرور إلى قلب زوجته، ويصنع معها لحظات لا تُنسى. ولم يكن النبي مجرد زوجٍ حنون، بل كان أيضًا مُربّيًا ومُعلمًا، فقد أخذت السيدة عائشة عنه العلم والفقه، حتى أصبحت من أكثر رواة الحديث، ومن أفقه النساء. وكانت تسأله كثيرًا وتستفهم، وكان يجيبها بكل رحابة صدر، بل كان يقول عنها: “خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء”.

وقد عرف عنها الغيرة الشديدة، وهو أمر طبيعي في قلب امرأة تحب زوجها حبًا جمًّا، فكان النبي يتفهم غيرتها ولا يُعاتبها بقسوة، بل يحتوي مشاعرها بلطف، ويطفئ غيرتها بالمداعبة، فقد روى البخاري أن السيدة عائشة كسرت طعامًا كانت قد أعدته إحدى زوجات النبي، فقال مبتسمًا: “غارت أمكم”، ولم يغضب، بل مدحها مداعبًا. كما كان يعرف تقلبات مشاعرها، ويقرأ تعبيرات وجهها، فقال لها ذات مرة: “إني لأعلم إذا كنتِ عني راضية، وإذا كنتِ عليَّ غضبى”، فقالت: “من أين تعرف؟”، قال: “إذا كنت راضية قلتِ: لا ورب محمد، وإذا كنتِ غضبى قلتِ: لا ورب إبراهيم”، فقالت: “نعم، والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك”، وفي هذا الحوار رقيّ عاطفي وإنساني لا يُضاهى.

في مرض موته، سأل: “أين أكون غدًا؟“، وكان يقصد بيت عائشة، فأذن له أزواجه أن يُمكث عندها، فانتقل إليها، وهناك اشتد به المرض، وأسلم روحه بين يديها، ورأسه على صدرها، واختار أن يُدفن في حجرتها، وكأن الحب لم يُفارق قلبه حتى اللحظة الأخيرة من عمره الشريف. وكان النبي شديد الوفاء لعائشة في حياتها وبعد مماته، حتى أنه كان يكرم صديقاتها ويقول: “إني كنت أحب عائشة”، وكان إذا ذُكرت أمامه يبتسم ويأنس.

هذا النموذج النبوي الرفيع في الحب والعشرة والرحمة والوفاء، يُلقي بظلاله الثقيلة على واقعنا اليوم، حيث نرى العلاقات الزوجية في كثير من الأحيان تنهار سريعًا، ويُخيم الجفاء والفتور بدلًا من الحب والاحتواء، وتكثر حالات الطلاق، حتى باتت الأرقام مفزعة، والمجتمع بأسره يدفع الثمن. لقد اختفت المودة من كثير من البيوت، وذبلت مشاعر التقدير والاهتمام، وحل محلها العناد والتحدي والندية، وكأن العلاقة الزوجية ساحة صراع لا مودة ورحمة. ومن أبرز أسباب ذلك غياب القدوة، وانشغال الناس بالمظاهر، وغياب الصبر والاحتواء، وانتشار القيم الزائفة التي تُقيس النجاح في الزواج بالمال والمظاهر لا بالقلوب والنفوس. الزوج لا يصبر، والزوجة لا تسامح، ووسائل التواصل بدل أن تُقرب، باتت تُغري بالخيانة أو تزرع المقارنات المسمومة، فتضعف الرضا وتشتد النزاعات.

كان من الممكن حلّ كثير من الخلافات بكلمة حانية أو نظرة محبة، أو احتواء بسيط، لكنّ القلوب في هذا العصر باتت ضيقة، لا تتسع لضعف الآخر، ولا تسامح زلاته، ولا تصبر على طبيعته البشرية. لقد علّمنا النبي أن الحب مسؤولية قبل أن يكون مشاعر، وأن العشرة بناء قبل أن تكون راحة، وأن الرحمة هي أساس البيوت، لا العصبية والندية والتحدي.

ونصل إلى خاتمة هذا التأمل الطويل في حب النبي لعائشة، فنجد أن هذا الحب النبوي الشريف لم يكن حكاية غرام في الظاهر، بل مدرسة متكاملة تعلّمنا كيف نحب ونرحم ونحترم ونحتوي. كان حبًا ينضج بالتفاهم، ويزدهر بالصبر، ويُثمر بالمواقف. لم يكن في حياة النبي تمثيل ولا تصنع، بل كان في بيته الحقيقي كما هو في محرابه ومسجده وميدان دعوته: صادقًا، حنونًا، راقيًا، رؤوفًا بمن حوله، محبًا دون قيد، متواضعًا دون حسابات.

ومن يتأمل هذا الحب، ويقيس عليه ما وصل إليه حال البيوت اليوم، يشعر بالحسرة على ما ضاع من معاني الصدق في العلاقات، ويشعر بالحاجة إلى العودة إلى الأصل، إلى سُنة النبي لا في صلاته فقط، بل في حنانه، في عفوه، في صبره على الغيرة، في وفائه، في دلاله، في مداعبته، في حكمته، في نظرته لعلاقته بزوجته على أنها قلبُ الحياة وروح البيت.

هذا الحب النبوي لا يزال يهمس في أسماع الأزواج اليوم: تَحبَّبوا إلى زوجاتكم، كما تحبب نبيكم، وتراحموا كما تراحم مع أحب نسائه إلى قلبه، وأقيموا بيوتًا يسكنها الرضا بدلًا من أن يملأها الصخب والشكوى. وليكن في بيتك ظل من بيت النبوة، وفي علاقتك بمن تحب نفَسٌ من رسول الله، وفي عتابك رفقه، وفي غيرتك حكمته، وفي دلالك روحه. فإن أحببت فكن نبيًّا في حبك، صادقًا في وعدك، رحيمًا في نظرتك، وفيًا في وصلك، واثقًا لا متشككًا، كريمًا لا متعاليًا، حانيًا لا جافيًا.

رضي الله عن السيدة عائشة، وجمعنا بها وبحبيبها المصطفى في الجنة، حيث لا يعتري الحب فتور، ولا تشوبه غيرة، ولا يفنيه فراق، بل يزهر للأبد في نور وجه الله الكريم.