بين الدين والتدين: الاختلاف الفكري في فهم النصوص الدينية
7 أغسطس، 2025
منبر الدعاة

بقلم الشيخ : يوسف عزت إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
في عالمٍ تتقاطع فيه النصوص المقدسة مع العقول والقلوب، وتتشابك فيه المعاني الإلهية مع التأويلات البشرية، يتجلّى أمامنا مشهدٌ قديمٌ متجدد، مشهد الاختلاف في فهم الدين بين من يتدبرون جوهره، ويغوصون في عمقه، وبين أولئك الذين يكتفون بمظاهر التدين، ويتعاملون مع النصوص على ظاهرها دون تفكّر أو تدبّر.
هذا الاختلاف لم يكن يومًا طارئًا، بل هو جزء من طبيعة العلاقة بين الإنسان والنص الديني، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال الجوهري: هل نعيش الدين كما أُرِيدَ له أن يُعاش، أم نعيش التدين كما نحب نحن أن نُظهِره؟
الدين: رسالة للعقل والروح
الدين في أصله رسالة تحرر لا رسالة تقييد، دعوة للفهم لا للحفظ فقط، نداء إلى القلوب والعقول في آنٍ معًا. فهو ليس حزمة من الأوامر والنواهي المجردة، بل منظومة متكاملة من القيم والمفاهيم التي تسعى إلى تزكية النفس، وتهذيب السلوك، وتحقيق العدل، وبناء الحضارة.
النص الديني -سواء كان قرآنا أو سنة- نزل بلغة العرب، لكنه وجّه إلى الإنسانية جمعاء، وهذا يعني أنه قابل للتأمل والتفكير، ولا يقبل التجميد عند حدود المعاني الحرفية فقط. فكم من آية بدأت بـ”أفلا تعقلون”، “أفلا يتدبرون”، “إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون”…! كلها إشارات تؤكد أن فهم الدين لا يتحقق إلا عبر العقل، وأن التأمل والتدبر واجبان شرعيان.
التدين: الصورة الاجتماعية للدين
في المقابل، نجد أن كثيرًا من الناس يتعاملون مع الدين من زاوية “التدين”، أي الشكل الظاهري للممارسة الدينية. يرتدي الإنسان جلبابًا فضفاضًا، يطلق لحيته، يُكثر من ترديد عبارات دينية محفوظة، يحافظ على الصلوات في المسجد، لكن كل ذلك لا يضمن فهمًا عميقًا للدين، ولا يُعبّر بالضرورة عن علاقة حقيقية بالله.
التدين في صورته التقليدية هو النمط السائد في المجتمعات، وهو ما يحدد غالبًا “الملتزم” و”غير الملتزم” في نظر الناس. لكن المشكلة تكمن في أن هذا النمط قد ينقلب إلى قيد على حرية التفكير، وإلى حائط صدّ أمام التجديد والاجتهاد، بل قد يتحوّل إلى أداة إقصاء لمن يختلف في الرؤية أو المنهج.
الاختلاف في الفهم: منطلقاته وجذوره
الاختلاف بين من يفهمون الدين ومن يكتفون بالتدين، يعود في الأساس إلى منهجية قراءة النصوص. الفريق الأول ينطلق من مقاصد الشريعة، فيسعى لفهم العلة والحكمة، ويربط الأحكام بزمانها ومكانها وسياقها التاريخي، ويرى أن الدين لا يتناقض مع العقل ولا مع الرحمة. أما الفريق الثاني، فينظر إلى النصوص بعين الحرف، ويقف عند ظاهر الكلمات، دون أن يربط بين الجزئيات والكليات، أو بين الآيات والسياقات.
ولذلك ترى أن الأول عندما يقرأ آيةً تتحدث عن الجهاد، يسأل: لماذا؟ ضد من؟ في أي ظرف؟ وما الوسائل؟
بينما الآخر يراها أمرًا مفتوحًا للقتال، دون اعتبار للظروف أو المقاصد.
وهكذا في مسائل المرأة، والحريات، والعقوبات، والعلاقة بالآخر… تتباين الآراء بحسب زاوية النظر للنص، ومدى استخدام أدوات الفهم والاستنباط.
بين الجمود والتجديد
أكثر ما يُفرّق بين الفريقين هو الموقف من الاجتهاد والتجديد.
فأصحاب الفهم العقلي للدين يرون أن الاجتهاد ضرورة، لأن الوقائع تتغير، والنوازل تتجدد، ولا يمكن أن تُدار المجتمعات الحديثة بأدوات القرون الماضية وحدها.
أما المتمسكون بالتدين الشكلي، فيخشون من التجديد، ويرونه بدعة، ويعتبرون كل جديد دخيلًا على الدين، حتى وإن كان منضبطًا بضوابط الشريعة.
هذا الجمود أدى في كثير من الأحيان إلى تشويه صورة الدين، وتصدير نموذج قاسٍ، متشدد، بعيد عن الرحمة والعدل، مما دفع الكثير من الشباب للنفور، والوقوع في فخ الإلحاد أو التشكيك، لا لأنهم يرفضون الدين، بل لأنهم لم يجدوا من يفهمهم بلغة العصر ويبيّن لهم جوهر الدين.
الدين والعصر: لقاء لا تصادم
من يفهم الدين حقًا، لا يخشى العصر، ولا يتحرج من التفاعل مع متغيراته. لأن الدين في جوهره صالح لكل زمان ومكان، لكن هذه الصلاحية لا تعني الجمود، بل المرونة في الفهم، والثبات في المبادئ. فالمقاصد الكبرى كالعدل والرحمة والحرية والمساواة، تظل ثابتة، أما الوسائل والآليات، فهي خاضعة للتطور والنقاش.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في هذا، عندما غيّر الوسائل دون أن يغيّر الأصول، وكان يُفتي بحسب حال السائل، ويراعي الظروف والأحوال، ويقبل التنوع في العبادات، ويوسّع على الناس ما لم يوسّع الفقهاء من بعده.
التدين المنفصل عن الأخلاق
إحدى أبرز نتائج الاختلاف في الفهم، هي ما نراه اليوم من انفصال ظاهر التدين عن جوهر الأخلاق. فقد تجد مَن يصلي ويصوم ويحج، لكنه يكذب ويغش ويظلم، بينما من لا يُظهر تدينه قد يكون صادقًا وعادلًا ورحيمًا.
وهنا تظهر أزمة كبيرة: هل التدين في شكله الظاهري كافٍ؟ أم أن الدين الحقيقي هو ما ينعكس في المعاملة والسلوك؟
إن من يفهم الدين فهمًا صحيحًا يدرك أن الأخلاق هي جوهر الدين، وأن الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر لا تحقق غايتها، وأن الصوم الذي لا يُهذّب السلوك مجرد جوع وعطش.
الخلاصة: نحتاج إلى فقه جديد للدين
المرحلة التي نعيشها اليوم تفرض علينا أن نعيد النظر في كثير من المفاهيم. نحتاج إلى خطاب ديني يقرّب الناس من روح الدين، لا يخيفهم منه. نحتاج إلى علماء ومفكرين ومربّين يعلّمون الناس كيف يقرأون النص لا كيف يحفظونه فقط. نحتاج إلى شجاعة في التفريق بين الدين الذي هو وحيٌ إلهي، وبين التدين الذي هو اجتهاد بشري.
لقد آن الأوان أن نخرج من ضيق التدين المظهري إلى سعة الفهم الحقيقي للدين، أن نتحرر من العبارات الجاهزة، ونمارس الإيمان بحرية عقل وروح، وأن ندرك أن الدين ليس قيدًا، بل هو بوابة للحرية والتكامل والنهوض بالإنسان.