بقلم الدكتور : محمد فهمي رشاد مدرس التفسير وأصول الفقه بجامعة القصر الدولية بدولة ليبيا
تلك الصرخة القرآنية التي نزلت في محكم التنزيل تجرح ضمير الإنسان، وتفتت قلب المؤمن، وتوقظ في القلب الحيّ ألف سؤال وسؤال… يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: 8-9]
وإن كان السياق عن وأد الجاهلية التي كانت تدفن البنات أحياء خشية العار أو الفقر، فإن وأد اليوم قد تغيّر شكله، لكن بقيت المظلومة هي نفسها: الفتاة الفقيرة الطاهرة، التي خرجت تطلب رزقها بالحلال، فعادت جثة هامدة!
– مشهد تقشعرّ له الأبدان
بنات في عمر الزهور… بين الرابعة عشرة والخامسة والعشرين… لم يخرجن للهو، ولا للخلاعة، ولا للرقص على تطبيقات التيك توك، ولا لعرض الأجساد على “اللايفات” المشبوهة طلبًا للمال السهل، بل خرجن ليتقاضين أجرًا يوميًا زهيدًا، مقابل جمع عناقيد العنب تحت شمس الصيف اللاهب، ليساعدن آباءهن وأمهاتهن في توفير لقمة العيش!
فما كان جزاؤهن؟ أن يُدهسن جماعيًا على طريق “الإقليمي” بمحافظة المنوفية، في مشهد مأساوي يقطّع نياط القلب… ماتت الطهارة، وصعدت أرواح العفيفات، وسُحقت الأجساد، وذهبت الأرواح إلى بارئها تشكو ظلم المجتمع وتقصير الدولة وغياب العدالة!
هؤلاء الفتيات هنّ بناتنا
هنّ بنات الريف العامل، الكادح، الشريف… اللاتي لم تمتد أيديهن إلى الحرام، ولم تسلكن طريق الشهرة الرخيصة عبر الإنترنت، بل اخترن الصبر والكفاح، ومع ذلك… كان المصير القتل!
في الحديث الصحيح قال رسول الله ﷺ: “المرأةُ راعيةٌ في بيتِ زوجِها ومسؤولةٌ عن رعيتِها” [صحيح البخاري] فكيف بمن كانت راعية لأهلها وهي لم تتزوج بعد؟! كيف بمن خرجت تعول وتساعد وتتحمل ما لا تطيقه نساء المدن الفارهة؟! لماذا يحدث هذا؟
أيّ ذنب جنته هؤلاء؟ هل لأنهن فقيرات؟ أم لأن الطرق بلا رقابة؟ أم لأن وسائل النقل المتهالكة هي ما يستطيعن دفع ثمنه؟ أم لأن أعين الدولة مشغولة بملاحقة من يكتب أو يغرد، لا من يسوق بإهمال ويسحق الأرواح؟
يقول النبي ﷺ: “إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استرعاه، حفِظَ أم ضيَّع، حتَّى يُسألَ الرَّجلُ عن أهلِ بيتِه” [صحيح ابن حبان]. فكيف بدولة يُقتل فيها عشرات الفتيات في حادث واحد، ولا يُسأل أحد؟ ليسوا كمن يُفسدون
لا تُساووا بين هؤلاء الطاهرات العفيفات، وبين من اتخذن جسدهنّ وسيلة للكسب، وصرن يتفننّ في إغواء الشباب على “تيك توك” و”إنستغرام” من أجل حفنة مال. هؤلاء خرجن من بيوتهنّ بلباس العمل لا بلباس الفتنة، خرجن وعيونهن على ستر أهلهن لا على عدد المشاهدات. أليس من الظلم أن يُكافأ هذا السعي بالموت الجماعي؟!
إلى من يهمه الأمر
إلى كل مسؤول مرّ على هذا الحادث كأنه لم يكن: اتقوا الله! هؤلاء بنات مصر، بنات الفقر والعفاف، لا يجوز أن يضيع دمهنّ هدرًا.
إلى الإعلام المنحرف: توقفوا عن تمجيد الساقطات، وابدؤوا بتكريم الشريفات. هاتوا صور هؤلاء البنات، واكتبوا: هكذا تكون الكرامة!
إلى كل أب وأم فقدوا بناتهم: أبشروا، فبناتكم في جنات النعيم إن شاء الله. قال ﷺ: “من ابتُلِيَ من هذه البناتِ بشيءٍ فأحسنَ إليهنَّ كُنَّ له سترًا من النارِ” [صحيح البخاري]. فما بالنا بمن ماتت وهي تطلب الرزق عفيفة طاهرة؟!
الختام دعاء
اللهم ارحم بناتنا، واغفر لهن، واجعل قبورهنّ رياضًا من رياض الجنة، اللهم صبّر أهلهن، وخذ حقهن ممن ظلمهن أو أهمل في رعايتهن. اللهم إنا نشهدك أنهن لم يخرجن للفسق ولا للعرض، بل خرجن لطلب الرزق الحلال، فأحسن إليهن كما أحسنّ إلى أنفسهن وأهلهن.