أبعاد العدالة البيئية الجزء الثاني
28 يوليو، 2025
الإسلام وبناء الحضارة

بقلم الدكتور: حاتم عبدالمنعم
أستاذ علم الاجتماع البيئى كلیة البییة جامعة عین شمس
الحقوق التى كفلها الإسلام للإنسان :
أ. الحق في مسكن مناسب.
ب. الحق في توفير الغذاء والملابس المناسبة.
ج. الحق في الزواج وتكوين الأسرة.
د. الحق في التعليم والعلاج، بل ويضيف البعض أداء فريضة الحج (الأعرجي، 1415هـ، ص132).
هـ. الحق في العمل، وحتى إذا لم يستطع العمل فهو مسؤولية الدولة، وهنا يجب الانتباه إلى وجود شروط أخرى في توفير هذه الحقوق، أهمها ما يلي:
أ. أن حقوق الفقراء ليست مجرد حق الكفاف فقط، لا، فالإسلام يدعو لإعطاء الفرد بما فوق الكفاف، فالعطاء يكون للاستمتاع الحلال بمباهج الطعام، والمسكن، والملبس، والتعليم، والعلاج، والمتاع المعقول، الذي يساعد هؤلاء الفقراء على الوصول إلى مستوى الطبقة الوسطى في آراء بعض العلماء. (زهير الأعرجي).
ب. ويقول الفاروق عمر رضي الله عنه: “إذا أعطيتم فأغنوا”، ولذلك يرى بعض العلماء أن العطايا يجب أن تكفي الفقير العمر كله، لتغنيه عن الحاجة العمر كله، والبعض الآخر يعطي الفقير لكفاية سنة كاملة ولا أقل من ذلك (القرضاوي، 1986، ص…).
وكل هذا يؤكد أهمية إزالة الفقر وأشكاله من المجتمع، لأن في الفقر خطورة كبيرة سواء على الإنسان أو المجتمع والوطن والعقيدة (القرضاوي، 1986، ص12 : 16).
وهناك واقعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم يذكرها عمر رضي الله عنه، فيقول: جاء أعرابي من أهل البادية ليتهجم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو وسط أصحابه، فيقول الأعرابي: “أعطني مالاً – فالمال ليس مالك ولا مال أبيك” – فيبتسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستفز هذا المشهد عمر فيهجم بالأعرابي ليبطش به، فيرده رسول الله في رفق، وابتسامته تعلو شفتيه كتهلل الربيع، ويقول له: “دعه يا عمر، إن لصاحب الحق مقالاً” (خالد محمد خالد، 1974، ص246).
وبعد ذلك يقول عمر رضي الله عنه، وهو أمير المؤمنين: “من حق الجعان أن يصرخ في وجه الحاكم مطالباً الله بحقه” (القرضاوي، 1986، ص107).
الفقر خطر على العقيدة:
رُوي عن رسول الله ﷺ قوله: “كاد الفقر أن يكون كفرًا”.
ولذلك فلا عجب أن يستعيذ بالله من شر الفقر مقرنًا بالكفر في سياق واحد، وذلك في قوله ﷺ: “اللَّهُمَّ إني أعوذُ بك من شرِّ الكفرِ والفقرِ”.
والفاروق عمر أوقف حد السرقة في عام المجاعة، ومن هنا فالفقير لا لوم عليه إذا اضطر لسرقة أو سلوك آخر ليشبع احتياجاته، ومن هنا خطورة الفقر على العقيدة.
الفقر خطر على الأخلاق والسلوك:
إذا أثر الفقر سلبياً على العقيدة، فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك بشكل تلقائي على الأخلاق والقيم، ومن ثم على السلوك البشري، فهذه نتيجة طبيعية لأثر الفقر السلبي على عقيدة الإنسان.
ولهذا يقول القدماء: “صوت المعدة أقوى من صوت الضمير”، ولهذا أوقف عمر أمير المؤمنين حد السرقة في عام المجاعة.
ويقول الرسول ﷺ: “إنَّ الرَّجلَ إذا غَرِمَ، حدَّثَ فكذَبَ، ووعدَ فأخلَفَ” (رواه البخاري).
ومن هنا فالفقر من أسباب الكذب وخلف الوعود، والعكس، بمعنى أن الغنى قد يكون من أسباب حسن السلوك.
ويؤكد ذلك حديث الرسول ﷺ:
كان هناك رجل تصدق بالليل على رجل، فصادفت صدقته سارقًا، فتحدث الناس بذلك.
ثم تصدق مرة أخرى على امرأة زانية، فأصبح الناس يتحدثون عن ذلك، فجاءه في المنام من قال له: “أما صدقتك على السارق فلعلَّه أن يستعف عن سرقته، وأما صدقتك على الزانية فلعلَّها أن تستعف عن زناها”.
وهذا يؤكد أن الفقر من الأسباب الرئيسية للانحراف والجريمة بوجه عام.
والفقر بلا شك يمثل ضغطًا رهيبًا على صاحبه، وهذا ينعكس سلبيًا على الإنسان وسلوكه، فيعجز عن أداء أدواره الاجتماعية بكفاءة، وينحرف سلوكه، وهذا ما تؤكده نظرية الضغط البيئي والتي سوف نعرض موجزًا لها فيما بعد.
الفقر خطر على المجتمع واستقراره:
ويقول الإمام أبو حنيفة: “لا تستشر من ليس في بيته دقيق، لأنه مشتت الفكر، مشغول البال، فلا يكون حكمه سديدًا”.
ولذلك فالفقر خطر على أمن المجتمع وسلامته واستقراره.
وقد يصبر المرء على الفقر إذا كان ناشئًا عن قلة الموارد، وينتشر العدل، ولكن إذا كان بسبب سوء توزيع الثروة وغياب العدل فسوف ينتشر الحقد والكراهية، مما يؤجج نارًا تأكل الأخضر واليابس.
وهذا لا يهدد فقط استقرار المجتمع وأمنه، إنما يمتد الخطر إلى التأثير السلبي على سيادة الأمة وحريتها واستقلالها، لأن البائس المحتاج لا يجد في صدره حماسة للدفاع عن وطنه والزود عن حرماته، لأن وطنه لم يطعمه من جوع، ولم يؤمنه من خوف،
“وكيف يدَّعي في غُرم وطن وينسى في نِعمة؟” (القرضاوي، 1986، ص16).
ويلاحظ هنا أن المولى سبحانه وتعالى في قوله:
﴿ٱلَّذِىٓ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍۢ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍۢ﴾[سورة قريش: 4]
ربط بين الجوع والخوف، وأن إشباع الجوع مرتبط بالأمن والأمان.
وإذا كانت نظرية الحاجات للعالم الشهير ماسلو، ترتب احتياجات الإنسان ترتيبًا هرميًّا، يأتي في مقدمتها إشباع الحاجات البيولوجية والشعور بالأمن والأمان،
فهذا الأمن والأمان لن نصل إليه قبل حل مشكلة الجوع أو الفقر.
والآن ننتقل إلى تفسير علمي يؤكد أن الفقر يؤدي لانحراف سلوك الإنسان وضعفه عن أداء أدواره الاجتماعية المختلفة من خلال نظرية الضغط البيئي.
نظرية الضغط البيئي وتفسير انحراف سلوك الفقراء:
يعرف (ألبرشت Albrecht) الضغوط بأنها الحالة التي تتجاوز فيها احتياجات الفرد الضرورية حدود قدراته وإمكاناته (Albrecht, 1979, ص109).
فمثلًا، الأب الذي يحتاج أولاده إلى مصاريف طعام وعلاج إلخ، ودخله لا يسمح بتلبية هذه الاحتياجات، هنا يحدث ضغط على هذا الإنسان (حاتم، 2012، ص84).
ويعرف (Willsom) الضغوط بأنها تنشأ عندما يواجه الفرد موقفًا صعبًا لا يستطيع التكيف معه، مما يؤدي للتأثير السلبي على سلوك الإنسان (حاتم عبد المنعم، 2012، ص86).
وبالنسبة لمصادر الضغوط، فهناك قسمان للضغوط، وهما:
ضغوط البيئة الاجتماعية:
وتشمل الفقر، والضغوط النفسية، وتوتر العلاقات الاجتماعية.
ضغوط البيئة الفيزيقية:
وأهمها تدني حالة المسكن والمنطقة والبيئة بوجه عام، بجانب المناخ والكوارث الطبيعية، والضوضاء، والازدحام، وتلوث الهواء، والماء، وخلافه (جابر عبد الحميد، 1996، ص126).
وبدون الدخول في التفاصيل العلمية، يمكن الخروج بعدة نتائج أساسية من هذه النظرية في مجال دراستنا، أهمها ما يلي:
أن الفقر هو من أهم الضغوط التي يتعرض لها الإنسان، لأن الفقر يتضمن ضغوطًا اجتماعية وفيزيقية في نفس الوقت، لأن الفقير لا يستطيع تلبية احتياجات أولاده وأسرته، مما يؤدي لتوترات في علاقاته الاجتماعية، وتوترات نفسية أيضًا، بجانب الضغط الاقتصادي.
الفقر أيضًا يحتّم ويولد ضغوطًا فيزيقية، لأنه من الطبيعي أن هذا الإنسان الفقير يسكن في مسكن صغير ضيق، يعاني من نقص الخدمات والمرافق وتدهورها، بجانب انتشار القمامة والحشرات، وكافة أشكال تلوث الهواء والماء والضوضاء، وهذه كلها ضغوط خطيرة.
نتيجة تعرض الإنسان الفقير لكل هذه الضغوط الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والفيزيقية، يصبح هذا الإنسان ضعيفًا، ولا يستطيع أداء دوره، مما ينعكس سلبيًا على حياته ويساعد على الانحراف والجريمة.
ومن هنا، فالفقر يؤثر سلبيًا على سلوك الإنسان، وحياته، ويمنعه من القيام بأدواره الاجتماعية المختلفة بكفاءة، سواء دوره في الأسرة أو المجتمع، مما ينعكس سلبًا على المجتمع كله.
الحد من إسراف الأغنياء:
إن العدالة الاجتماعية طائر له جناحان، لا يمكن أن تتحقق بجناح واحد فقط، لأن إشباع احتياجات الفقراء مرتبط بالحد من إسراف الأغنياء، لأنه عادة يكون إسراف الأغنياء على حساب حرمان بعض الفقراء، كما لا تستقيم حياة إنسان أو أسرة أو مجتمع يذهب فيها كل فرد إلى الاستمتاع بماله وحريته المطلقة بغير قيود أو حدود، فالحريّة المطلقة فساد مطلق.
فلو تصورنا أسرة صغيرة، هل من حق كل فرد فيها أن يتصرف في ماله كيفما شاء لأنه مالك هذا المال؟ لو حدث ذلك لتفككت الأسرة، ومن حق الأسرة أن ترفع قضية على رب الأسرة للحجر على ماله، ولتضع وصاية عليه، ومن هنا فالمجتمع أولى بذلك الحق.
كما لا ننسى أن المال هو مال الله، وأن الإنسان مستخلف فيه بشروط مصلحة الجماعة، ولذلك لاحظ الإمام محمد عبده أن مصطلح المال استخدم سبع مرات في القرآن الكريم بضمير الفرد، في مقابل سبع وأربعين مرة استخدم المال بضمير الجمع، وذلك قد يكون للإشارة بأن مال كل واحد منكم إنما هو مال الأمة (محمد عمارة، 2013، ص14).
ولذلك كان هناك نهي واضح وصريح في الأديان السماوية عن الإسراف والاستهلاك الترفي، ومن الآيات الواضحة في هذا الشأن ما يلي:
قال تعالى:
﴿يَـٰبَنِىٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍۢ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُوٓاْ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ﴾
[سورة الأعراف: 31]
وهذه الآية تنهى بوضوح عن الإسراف، وإن الله لا يحب المسرفين.
والله يريد الإنسان أن يكون متوازنًا معتدلًا، فيقول المولى الكريم:
﴿وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْءَاخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا﴾
[سورة القصص: 77]
فعلى الإنسان أن يتزين ويستمتع بمتاع الحياة الدنيا بدون إسراف أو تبذير، لأنه قد يكون في ذلك مهلكته، حيث يقول المولى تعالى:
﴿وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ﴾
[سورة البقرة: 195]
ومن هنا، على الإنسان أن يكبح جماح شهواته حتى يضمن الخير في الدنيا والآخرة، فيقول المولى الكريم:
﴿فَأَمَّا مَن طَغَىٰ ﴿٣٧﴾ وَءَاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا ﴿٣٨﴾ فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ ﴿٣٩﴾ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ ﴿٤٠﴾ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ﴾
[سورة النازعات: 37-41]
ولقد فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية وطبقها على حياته بصرامة شديدة.
حيث يحدثنا جابر بن عبد الله، فيقول: رأى عمر بن الخطاب لحمًا معلقًا في يدي، فسألني: ما هذا يا جابر؟ قلت: هو لحم اشتهيته فاشتريته، فقال: “أوَكلما اشتهيتَ شيئًا اشتريته؟ أما تخاف أن يُقال لك يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا؟”.
هذا هو أمير المؤمنين، الرجل الذي وضعت تحت عتبته خزائن كسرى وقيصر، يخرج إلى الحج وسط الصحراء الملتهبة، ويعود فيسأل عبد الله بن عامر رفيقه في الحج: كم أنفقنا في حجتنا هذه؟ فيرد: خمسة عشر دينارًا فقط، فيقول عمر: “لقد أسرفنا في المال!”
(خالد محمد خالد، 1974، ص 175-225)
وفي عزومة أقامها أبو بكر الصديق رضي الله عنه لرسول الله ﷺ، وكانت تحتوي على دجاجة وشيء من التمر وشيء من الحليب، قال رسول الله ﷺ: “مأكل هذا يا أبا بكر؟ ألم تسمع في القرآن: ﴿ثُمَّ لَتُسْـَٔلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ﴾؟
[سورة التكاثر: 8]
فالرسول ﷺ يرى في ذلك إسرافًا، فماذا نفعل الآن في حياتنا المعاصرة، والرسول ﷺ يقول:
“ما ملأ ابنُ آدمَ وعاءً شرًّا من بطنِه، بحسبِ ابنِ آدمَ لُقيماتٍ يُقِمنَ صُلبَه، فإنْ كان لا محالةَ، فثُلُثٌ لطعامِه، وثُلُثٌ لشرابِه، وثُلُثٌ لنفَسِه” (رواه الترمذي – حديث صحيح).
قال تعالى:
﴿وَءَاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴿٢٦﴾ إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخْوَٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ ۖ وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورًا﴾
[سورة الإسراء: 26–27]
يُلاحظ أن القرآن الكريم يصف المبذرين بأنهم إخوان الشياطين.
فكم منا اليوم إخوة للشياطين؟ وكم منا يسرف ويبذر في المال، وهو يعلم ويعيش في بلد به عشرات الملايين من الفقراء؟
وكم ننفق في الاستهلاك الترفي سواء في طعام أو ملبس أو جوال أو عطور وغيرها من صور الاستهلاك الترفي؟
قال تعالى:
﴿وَلَا تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَـٰمًا وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًۭا مَّعْرُوفًۭا﴾
[سورة النساء: 5]
ولقد كانت حياة المسيح عليه الصلاة والسلام مثالًا في الزهد والتقشف، وهو الذي قال:
“لا يستطيع الإنسان أن يخدم الله والمال في نفس الوقت”.
وفي سفر أعمال الرسل:
“وكان الجمهور الذين آمنوا قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة، ولم يكن أحد يقول إن شيئًا من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركًا. لم يكن فيهم أحد محتاجًا لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت، كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات، ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يُوزَّع على كل واحد” (سفر أعمال الرسل، ص4، ع32).
فثورة السيد المسيح لم تكن ثورة دينية فقط، فهي أيضًا ضد التكالب المادي والاقتصادي والربا الذي انتشر قبل قدومه (محمد الشرقاوي، 1966، ص16–17).
والمؤسف أن الشرق، وهو مهبط الأديان السماوية، هو الذي يعاني اليوم أكثر من غيره من بقاع العالم من الإسراف والتبذير في الطعام، والملبس، والاتصالات، وغيرها من كافة أشكال الاستهلاك الترفي.
وما أحوج هذا الشرق إلى أن يعود إلى روح الأديان السماوية في السلوك.
يذهب الإسلام إلى إيضاح أسباب النهي عن الإسراف والتبذير وربط ذلك بالفساد والفتن، ويتضح ذلك من خلال الآتي:
إن المترفين أعداء كل إصلاح وخصوم الحق في كل زمان ومكان:
لأن المترفين يتكالبون على إشباع رغباتهم وشهواتهم بأي ثمن، وعادةً ما يكون ذلك على حساب الغير والفقراء، فيقول المولى الكريم:
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍۢ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِۦ كَـٰفِرُونَ ﴿٣٤﴾ وَقَالُوا۟ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَٰلًۭا وَأَوْلَـٰدًۭا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾
[سورة سبأ: 34–35]
وهذه الآية تُعمم أن المترفين يرفضون الخير والإصلاح، فهم كافرون بالحق والخير. ولذلك فصل القرآن في كثير من السور مواقف الطبقات المترفة تجاه كل كتاب وكل نبي مرسل، فكان موقفهم هو التكذيب، حيث يقول المولى:
﴿وَقَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِلِقَآءِ ٱلْـَٔاخِرَةِ وَأَتْرَفْنَـٰهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَآ إِلَّا بَشَرٌۭ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴿٣٣﴾ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًۭا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًۭا لَّخَـٰسِرُونَ﴾
[سورة المؤمنون: 33–34]
ويقول المولى الكريم في سورة هود:
﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُو۟لُوا۟ بَقِيَّةٍۢ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًۭا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مَآ أُتْرِفُوا۟ فِيهِ وَكَانُوا۟ مُجْرِمِينَ﴾
[سورة هود: 116]
إن المترفين مصدر فساد وضلال:
قال تعالى:
﴿وَإِذَآ أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا۟ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَـٰهَا تَدْمِيرًۭا﴾
[سورة الإسراء: 16]
وذلك لأن طبيعة الشهوات إذا لم تجد حدودًا تقف عندها، طغت بأصحابها وأفسدت ما حولها، لأن عدوى الفساد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي تهبط من أعلى إلى أسفل.
ولذلك صدق من قال: “ما رأيت إسرافًا إلا وجانبه حق مضيع”، ولقد أدرك المستعمرون هذه الحقيقة فركزوا على إبقاء نظام الطبقات والفوارق الكبيرة حتى يتفرغ المترفون إلى شهواتهم على حساب الشعب المحروم (الغزالي، 2005، ص5).
إن المترفين مصدر للفتنة وتقسيم المجتمع:
فالثراء الفاحش لدى قلة مترفة، وانتشار الفقر والحرمان لدى قطاع عريض من المجتمع، مصدر الأحقاد بين الطبقات، مما يؤدي لتقسيم المجتمع، بل وهلاك المجتمع ذاته.
فيقول المولى الكريم:
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍۢ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَـٰكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنۢ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًۭا ۚ وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَٰرِثِينَ﴾
[سورة القصص: 58]
والترف فساد في الدنيا وعذاب في الآخرة، وفي ذلك يقول المولى عز وجل:
﴿وَأَصْحَٰبُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَٰبُ ٱلشِّمَالِ ﴿٤١﴾ فِى سَمُومٍۢ وَحَمِيمٍۢ ﴿٤٢﴾ وَظِلٍّۢ مِّن يَحْمُومٍۢ ﴿٤٣﴾ لَّا بَارِدٍۢ وَلَا كَرِيمٍ ﴿٤٤﴾ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ ﴿٤٥﴾ وَكَانُوا۟ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ ﴿٤٦﴾ وَكَانُوا۟ يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَٰبًۭا وَعِظَـٰمًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴿٤٧﴾ أَوَءَابَآؤُنَا ٱلْأَوَّلُونَ ﴾
[سورة الواقعة: 41–48]
ولكن العذاب والهلاك لا يقتصر على المترفين فقط، بل إنه يمتد إلى الجماعة والمجتمع الذي سمح بوجود المترفين.
حيث يقول المولى الكريم:
﴿وَإِذَآ أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا۟ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَـٰهَا تَدْمِيرًۭا﴾
[سورة الإسراء: 16]
فالمجتمع هنا هو المسؤول عن انتشار هذا المنكر وترك المترفين يفسدون (الغزالي، 2005، ص112).
ولذلك يؤكد الشيخ الغزالي أنه إذا كان يحق للأسرة الحجر على رب الأسرة إذا كان سفيهًا، فالمجتمع أولى بذلك، لأن الملكية الخاصة مكفولة بضوابط وصالح المجتمع.
ومن هنا يجوز الحد من الملكية الخاصة لصالح الأغلبية، لأن القاعدة تقول: “يجوز هلك ثلث لإصلاح الثلثين”، ولذلك فحساب الناس على تصرفاتهم في المال ليس مقصورًا على الآخرة بل وقبلها في الدنيا (الغزالي، 2005، ص149).
ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
“إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُنع به غني، وإن الله سائلهم عن ذلك، فإن الغنى في الغربة وطن، وإن الفقر في الوطن غربة، وإن المقل غريب في بلدته”.
وقال الفاروق عمر:
“والذي نفسي بيده ما من أحد إلا وله في هذا المال حق، وما أحد أحق به من أحد، وما أنا فيه إلا كأحدهم: فالرجل وبلاؤه، والرجل وقدمُه، والرجل وغناه، والرجل وحاجته”.
في الاستخلاف لكافة الناس، وليس لفرد ولا طبقة.
ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول زيادات أموال الأغنياء فقسمتها على الفقراء، وجعلتهم رجلًا واحدًا.
وكمثال يضربه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن تقشف الحاكم وحرصه على مال الأمة، نتذكر معًا هذه الواقعة:
في أحد أيام الحر الشديد والرياح والأتربة العاصفة، كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يُطل من نافذة داره، فأبصر على البعد رجلًا يجري في قيظ النهار وهجير الصحراء، فظنه غريبًا نزل به كرب عظيم، ولبث مطلًّا من نافذته حتى يعود ذلك الرجل، فيدعوه إلى ظل داره، ويغيثه من لهفته، وكم كانت دهشته وعجبه حينما اقترب الرجل، فإذا هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ممسكًا بخطام بعير يتهادى وراءه.
فسأله عثمان: من أين يا أمير المؤمنين؟
فأجابه عمر: “من حيث ترى، بعير من إبل الصدقة ندَّ هاربًا فأسرعت وراءه ورجعت به”.
فسأله عثمان: “ألم يكن هناك من يقوم بهذا العمل سواك؟”
فأجاب عمر: “ومن يقوم مقامي في الحساب يوم القيامة؟”
ودعاه عثمان إلى الراحة حتى تنكسر حدة الهجير، فقال عمر ودموعه تسيل:
“عُد إلى ظلك يا عثمان”، ومضى لسبيله، فنظر إليه عثمان بتأمل حتى غاب عن عينيه، وقال:
“لقد أتعبتَ الذين سيجيئون بعدك يا عمر”
(خالد محمد خالد، 1974، ص 345–346)