من وحي الواقع : العلاقة بين التجسيم والتنوير وفتنة الدجال
27 يوليو، 2025
الماسونية والجمعيات الصهيونية

بقلم الدكتور الشيخ : محمد سعيد صبحي السلمو
( الأزهرى البابي الحلبي )
رأيت – وقد كنت أتمنى أن لا أرى – أن أكثر من يلهث اليوم وراء مشاهير “التيك توك”، هم فريقان متناقضان في الظاهر، متشابهان في الباطن: فريق من غلاة المجسّمة الذين يدّعون الانتساب إلى السلف، وفريق من دعاة التنوير الزائف، الذين لا يكاد أحدهم يفتح فاهه بكلمة إلا وكان فيها إنكار أو سخرية أو استخفاف
. ولا عجب، فهذان الفريقان وإن بدت بينهما المسافة بعيدة، إلا أن بينهما قاسماً مشتركاً خفياً: الاحتكام إلى الظاهر، والركون إلى التجربة، والتعويل على الحسّ دون العقل، والظنّ دون البرهان.
والأعجب من ذلك – بل الأحزن – أن أكثر أتباع هؤلاء من طلاب الجامعات، ومن المنتسبين إلى العلوم التحريبية والكليات الحديثة ، من طبٍّ وهندسة وفيزياء وكيمياء وما إليها.
وليس ذلك – في رأيي – إلا ثمرة من ثمرات التعليم الأكاديمي الذي نُكبنا به: تعليم يعلّم الطالب كيف يَحفظ، ولا يعلّمه كيف يَفهم؛ يملأ رأسه بالمعلومات كما تُملأ الجرّة بالماء، فلا تزيده كثرتها إلا بلادة، ولا تخرجه بعد التخرّج إلا كما دخل، لم يزدد إلا شهادةً تُعلّق على الجدار، لا علماً يُنير العقل، ولا فهماً يُحصّن النفس.
وقد رأينا كيف يسارع هؤلاء الطلاب إلى تلقّف أقوال وهابية تارة، وشحرورية تارة أخرى، لا لأن فيها عمقًا أو حجة، ولكن لأنها “بسيطة”! لأنهم يتوهمون أن الدين لا يعدو أن يكون بضع كلمات تُردَّد، أو عبارات تُنسَب إلى الفيزياء والتجريب، دون عناء البحث في أصول ولا فروع، ولا لغة ولا بلاغة، ولا منطق ولا فقه.
وهل في الأمر عجب؟!
فإن التعليم الجامعي قد علّمهم أن “الاختزال” فضيلة، وأن “البساطة” غاية، فإذا رأى أحدهم شيخا وهابيا يقول “هذا شرك، وهذا بدعة”، قال: ما أسهله من علم! ، وما أيسره من دين ليس فيه كثرة عبادة ولا مجاهدة نفس
وإذا سمع من أحدهم تفسيرا للقرآن بأدوات الفيزياء الحديثة، قال: ما أعمقه من اجتهاد! ولم يدرِ أن هذا الذي يسمعه ليس علماً، ولا اجتهاداً، وإنما هو العبث بعينه، يُزَيَّن لهم في صورة العلم، ويُصبغ عليهم بلون العقل.
ولم يكن الوهابي أو “الشحروري” في حاجة إلى كثير عناء حتى يقنع طالبا جامعياً بأنه أفقه من الغزالي، وأذكى من الرازي، وأعمق من الفخر! إذ يكفيه أن يقول: “العلماء السابقون لم يفهموا”، وأن يلوّح بكلمة “العلم الحديث”، فتنبهر بها العقول السطحية، وتصفق لها الأيدي الغافلة.
ثم يأتيك الطالب – وقد أُشرب في قلبه العُجب – فيظن أن المهندس والفيزيائي أقدر على فهم الوحي من أهل الشريعة أنفسهم! أوليس قد قرأ كتاباً في الفيزياء؟! أوليس قد شاهد مقطعا فيه “إعجاز علمي” مزعوم؟! فلماذا لا يكون هو المجتهد، وهو الإمام، وهو صاحب الكلمة في الحلال والحرام؟!
وما ذلك إلا لأن هذا الطالب قد اعتاد أن يُحشى عقله، لا أن يُربى. اعتاد أن يتلقى المعلومة جاهزة، لا أن يصنعها.
اعتاد أن يُقال له: “خذ، واحفظ”، لا أن يُقال له: “فكر، وابحث، واستدل”.
ولذلك كان من السهل على دعاة السطحية – من كل مذهب – أن يجدوا فيه تربة خصبة، وأذناً صاغية، وقلباً مبهوراً.
بل إن في بعض هؤلاء من يحب أن يُشار إليه بالبنان، فيركب موجة الفكر النسوي، أو “الحداثة القرآنية”، أو ما أشبهها من أفكار دخيلة، لا لأنها أفكار ذات قيمة، بل لأنها تثير الجدل، وتلفت النظر. فترى الفتاة الجامعية – وقد طال بها الانتظار، واشتد بها الشعور بالتهميش – تتبنى فكرة شاذة، وتكرّر كلمات مأثورة عن هذا أو ذاك، فإذا قيل لها: من أين لك هذا؟ قالت: “هذا من عند العلم، من عند العقل، من عند الواقع”. وما الواقع إلا ما أرادت هي أن يكون واقعاً.
وكذلك الشاب الجامعي، المغمور، الذي لا يُعرف له أثر، ولا يُؤبه له رأي، فإذا به يصبح “عالماً” في أيام معدودات، ما عليه إلا أن يقول: “أنا لا أقلّد”، أو “القرآن كافٍ”، أو “الفيزياء تفسّر كل شيء”، فيصفق له من لا علم عنده، ولا فقه لديه.
وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل الأعجب أن هؤلاء الجدد قد وجدوا في الفكر الوهابي ملاذاً، لأن التكليف فيه قليل، والظاهر فيه كثير، والتدين فيه يُقاس باللحية، لا بالسلوك، ولا بالخشية، ولا بمحاسبة النفس.
ذلك أن الفكر التجسيمي هو ابن المادة، لا يجاوز ظاهر الحسّ، ولا ينفذ إلى لُطْف الغيب، ولا يَرِقُّ إلى معاني الروح.
فهو مذهبٌ إذا قرأته وجدت فيه العقلَ موقوفًا على مِجهر، والنفسَ مسجونةً في مختبر.
فلا عجب أن يستميل أصحابَ العلوم التجريبية، الذين لم يُربَّ إيمانهم على الذوق ولا على الإشراق، بل على الحساب والعيان والتجريب، كأنما الغيب عندهم لا يكون حتى يُوزَن، والروح لا تُصدَّق حتى تُقاس!
وكما أن الفكر التجسيمي يجعل من ظواهر النصوص جسدًا بلا روح، فكذلك الفكر التنويري يُنكر الروح ليُثبت الجسد، ويُجافي الغيب ليُرضي العقل، فإذا هما، على اختلاف المظهر، يلتقيان في الجوهر: كلاهما ينكر الذوق، ويجفو السر، ويعبد التجربة، ويَفِرُّ من إيمان الفطرة إلى إيمان المادة.
وبهذا يصير السلفي المتجسّم والتنويري المادي وجهين لعملة واحدة، أحدهما يُقيم دينه على ظاهر لا روح فيه، والآخر يُقيم دنياه على عقل لا إيمان فيه، وكلاهما لا يرى من اليقين إلا ما يُمسك باليد أو يُقاس بالمسطرة.
ولهذا، فإن هذين التيارين: السلفيّ المتجسّم، والتنويريّ الماديّ، وقد بُنيا على الحسّ لا على الروح، وعلى المشاهدة لا على البصيرة، وعلى ما تراه العين لا ما يُوقِنه القلب — فسرعان ما تزلّ أقدامهما إذا اشتدّت الفتنة، ويخور عمادهما إذا أظلمت ساعةُ الابتلاء.
فإذا طلعت فتنة الدجّال، وهي فتنة العين والمشهد والخُدع المحسوسة، رأيتهم أولَ من يُفتَنون، لأنهم لم يُربَّوا على الغيب، ولا ذاقوا نور الإيمان، ولا صحبوا طريق الروح، بل جعلوا يقينهم فيما تُثبته التجربة، وتُشير إليه الأدوات!
فكيف يثبت من لم يُسلّم قلبه للحقّ إلا إذا رآه بعينه؟!
وكيف يصمد من لم يعرف أن لله آياتٍ لا تُدرك بالبصر، بل تُضيء في البصيرة؟!
أما ابتعاد الشباب عن منهج أهل السنة الأشاعرة والصوفية: فعند الأشاعرة والصوفية، فالدين جهاد مع النفس، ومراقبة دائمة، وسير في دروبٍ طويلة من التزكية والتخلية والتحلية، وذلك ما لا يصبر عليه مَن تعوّد السهولة، وركن إلى الراحة.
ثم جاءت وسائل الإعلام، ووسائل التواصل، فكانت الطامة.
فكما غلبت العوامَّ سياسةُ القطيع في الإعلام السياسي، فقد غلبت النخبةَ الجامعيةَ سياسةُ القطيع في الفكر الديني.
فأصبح هؤلاء “الأكاديميون” تابعين لا مستقلين، مقلدين لا مجتهدين، تقودهم الشاشات، وتوجههم الترندات، ويهتفون مع الهاتفين، دون أن يسأل أحدهم: ما الدليل؟ وما البرهان؟
هذا هو الواقع، وإنه لواقع مؤسف. ولكن الأسف وحده لا يكفي. فلا بد من إصلاحٍ يبدأ من الجذور، من طريقة التعليم، ومن احترام التخصص، ومن بناء عقل يميز بين الظاهر والباطن، وبين العلم والتزييف، وبين من اجتهد فأصاب، ومن قال على الله بغير علم.