بلد الأزهر لا يليق بها هذا الانحدار: صرخة في وجه لغة المسلسلات وتجار الإسفاف


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

لم تعد الشاشة مجرد نافذة للترفيه أو وسيلة لإيصال الفن والدراما للمجتمع، بل تحوّلت في كثير من الأحيان إلى بوابة يومية لاغتيال الذوق، وتخريب الأخلاق، وتشويه الواقع، خصوصًا عندما نتأمل ما تبثه بعض المسلسلات والأفلام من مشاهد وعبارات ولفظيات تخدش الحياء العام، وتتنافى تمامًا مع طبيعة المجتمع المصري المحافظ، الذي ما زال يستند إلى إرث أخلاقي وديني عريق، يستمد نوره من منارة الأزهر الشريف.

في الماضي، كانت الدراما المصرية مرآة للمجتمع، تنقل آلامه وآماله، تسلط الضوء على الظلم والفقر والجهل بهدف الإصلاح، وتُقدّم القيم النبيلة في قوالب فنية راقية، فنشأنا على أعمال خالدة حفرت في الذاكرة عبارات تدعو للصدق والتسامح والكرامة. أما اليوم، فقد انقلبت الصورة؛ صارت الألفاظ السوقية والسباب الصريح والشتائم العلنية سيدة الموقف في أغلب الإنتاجات، دون مراعاة لطفل يشاهد، أو فتاة تستمع، أو أسرة تجتمع.

من المؤسف أن نرى في بلد الأزهر الشريف – ذلك الكيان العالمي الذي خرج منه العلماء والأدباء والدعاة – شبابًا يتحدثون بلغة الشوارع المبتذلة، لا لأنهم تربّوا على ذلك، بل لأنهم شاهدوا أبطال الدراما يكرّرونها دون حساب. صارت “قواعد السوق” هي الموجّه الأول لكتاب السيناريو والمخرجين، وباتت الجرأة الفارغة هي معيار النجاح، حتى لو خُدش الحياء العام وتفككت الأسرة وتسممت العقول.

تسربت العبارات البذيئة، وكأنها شيء عادي، إلى أحاديث الأطفال والمراهقين، وصار من الطبيعي أن تسمع في الشارع أو في المدرسة كلمات ما أنزل الله بها من سلطان. أين الرقابة؟ أين المسؤولية الاجتماعية؟ وأين النخوة التي كانت تمنع الكاتب أو المخرج أو الممثل من تقديم عمل يُسيء للمجتمع الذي ينتمي إليه؟!

باسم الواقعية، يُبرر العُري، ويُبرر العنف، ويُبرر الانحدار. وكأن مصر كلها أحياء عشوائية، لا أخلاق فيها ولا دين، وكأن شبابها كلهم مدمنون أو بلطجية، ونساؤها بلا حشمة ولا ضوابط. إنها خيانة بصرية موجهة ضد الحقيقة، وجريمة مكتملة الأركان بحق صورة الوطن، وخدعة تُروّج بأن الانفلات هو السائد، وأن التدين والتماسك مجرد استثناء.

ولا يتوقف الأمر عند العري والسباب والعنف، بل يتعداه إلى السخرية المقصودة والممنهجة من رموز المجتمع المحترمة. ففي كثير من الأفلام والمسلسلات، نجدهم يستهزئون بالمشايخ ويقدّمونهم في صورة الجهل أو النفاق، يسخرون من مدرسي اللغة العربية وكأن اللغة نفسها عيب أو عبء، ويعرضون المأذون وكأنه مهرج أو شخصية هزلية، بل ويتم التلميح بأن من يتمسك بالقيم أو بالمظهر المحافظ هو شخص منافق أو متخلّف. إنها حملة تشويه منظمة، تُحطّم القدوة، وتُفرغ القيم من مضمونها، وتدفع الشباب للتنصل من كل ما هو أصيل ومحترم.

كيف نقبل أن يتم عرض مشاهد تعاطي المخدرات كأنها “تريند شبابي”؟ كيف يُرَوج للبلطجة وكأنها بطولة؟ والأخطر، كيف تُستخدم عبارات مستفزة عن الدين ورجاله؟ ألم يفكر أحد في أثر هذه الأعمال على وعي المشاهد؟ هل يعقل أن يهاجم الفن القيم التي بناها المجتمع عبر قرون، ليخرج جيل لا يعرف للحياء معنى؟

هنا يقفز السؤال الذي يجب أن يُطرح بقوة: لمن يعمل هؤلاء؟ ومن المستفيد من صناعة هذا النوع من “الإعلام الملوّث”؟ هل من مصلحة الوطن أن يُهدم وجدانه وأخلاقه على يد من يزعمون الفن؟ هل من العقل أن تتحول الشاشة إلى سكين تُغرس في صدر القيم وتُفتت أركان الأسرة؟ إن من يُصر على تقديم هذا النوع من المحتوى لا يمكن أن يكون حريصًا على المصلحة العامة، بل هو في الأغلب أداة في يد من يريدون ضرب هوية مصر، وبث السموم في عقول أبنائها.

وراء كل هذه “الأعمال”، تقف شركات إنتاج لا ترى في الإنسان سوى سلعة، ولا في الفن سوى وسيلة للربح الرخيص، ولو على حساب خراب البيوت. شركات تتاجر بالإثارة، وتدفع بالشباب نحو الانفلات والانفجار، وتجعل من الانحلال بطولة، ومن الكذب شطارة.

إن مصر، وهي التي تحتضن الأزهر الشريف منذ أكثر من ألف عام، لا تستحق هذا الانحدار الأخلاقي والإعلامي. بلد علّم العالم معنى العلم والدين، لا يليق به أن تُغرقه الشاشات بلغة ساقطة وصور مُخجلة. نحن بحاجة إلى عودة قوية للدراما الهادفة، التي تزرع الحب، وتُعلي من قيمة الوطن، وتُحيي فينا الضمير.

والمسؤولية هنا جماعية: تبدأ من الكاتب الذي يملك قلمه، والممثل الذي له تأثيره، والمخرج الذي يُوجه الرؤية، والمشاهد الذي يجب أن يقول: لا! ثم تأتي الدولة، ممثلة في الرقابة والهيئات الإعلامية، لتضع حدًا لهذا العبث وتُشجع الإنتاج النظيف.

كفى عبثًا بعقولنا. كفى تلويثًا لأذواقنا. كفى خدشًا لحياء أمتنا. ليس الفن في أن تصدم الجمهور، بل في أن ترفعه. وليس الإبداع في أن تُقلد ما هبط، بل في أن تُعيد بناء ما تهاوى. نحتاج دراما تُشبه طه حسين، وتتنفس نجيب محفوظ، وتحمل في ملامحها رقي عبد الوهاب، وأصالة أم كلثوم، وخلق الشيخ الشعراوي.

نريد فنًا يعيد للأم قدسيتها، وللأب هيبته، وللمعلم مكانته، وللمسجد احترامه، وللوطن شرفه. نريد دراما تُعلّم أبناءنا لا أن تُضلهم، وتُهذب أرواحهم لا أن تُدمرها. فبلد الأزهر لا يليق بها إلا الطهر، ولا يستحق شعبها إلا الفن النظيف، الراقي، الذي يُسهم في البناء لا الهدم.