خطبة الجمعة القادمة «الاتحاد قوة» للدكتور ايمن حمدى الحداد

خطبة الجمعة القادمة «الاتحاد قوة»
للدكتور :  ايمن حمدى الحداد

نص الخطبة

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، أظهر الحق بالحق وأخزى الأحزاب، وأتمَّ نوره، وجعل كيد الكافرين في تباب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله سيد الأولين والآخرين اللهم صلّ وسلِّم وبارك عليه حق قدره ومقداره العظيم وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين؛ أما بعد: فيا أيها المسلمون: إن الاتحاد هو طريق القوة والعزة والمنعة وإن الفُرقةَ لا ينتج عنها إلا الضعف وإن الكيانات الهزيلة لا مكان لها في عالم اليوم.

ولقد تحالفت قُوَى الشرِّ على أمتنا، وأصبح الصراع عنيف، والميدان واسع، والسلاح متنوِّع، ذلك لأنَّ الصراع بين الحقِّ والباطل قائم وقديم، ومستمرُّ إلى قيام الساعة، وأمتنا اليوم تعيش في معترك فتنٍ عظيمة متنوِّعة، وتواجه حروب شعواء من قبل أعدائها، ومعلوم أن سياسية العدو قائمة على مبدأ (فرق تَسد)، ولا سبيل لمواجهة تلك الحروب الشعواء إلا من خلال الاتحاد والإعتصام بإخوة الإيمان؛ قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(آل عمران: ١٠٣)،

وقال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾(الروم: ٣٢)، وعن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بيْنَ أَصَابِعِهِ»رواه البخارى.

وعن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى» رواه البخاري.

♦ أولاً: الفرقة والاختلاف من براثن الجاهلية؛ لقد قضي الإسلام على دعوى الجاهلية؛ فعن زيد بن أسلم قال: مر شاس بن قيس – وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله ﷺ من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية.

فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة -يعني الأنصار الأوس والخزرج- بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود وكان معه.
فقال له: اعمد إليهم فاجلس معهم فذكرهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل.
فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا.
وقال بعضهم لبعض: إن شئتم رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان.

وقالوا: قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الحرة فخرجوا إليها وتحاوز الناس على دعواهم التي كانت في الجاهلية.

فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه حتى جاءهم فقال: «يا معشر المسلمين الله الله.. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟!»،

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله ﷺ سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس.

فأنزل الله تعالى في ذلك: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(آل عمران:٩٨-٩٩)،

وأنزل في الأوس والخزرج: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(آل عمران: ١٠٠- ١٠١)، تفسير الطبرى
ولقد حذر القرآن الكريم المسلمين من كيد أعدائهم

وبين أنهم يحسدونهم على ما مَنّ الله عليهم من نعمة الإسلام والإيمان؛ قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾(البقرة: ١٠٩)، وقال تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾(النساء: ٨٩)،

وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» رواه أبوداود.
وعَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» رواه مسلم.

وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: اقْتَتَلَ غُلَامَانِ: غُلَامٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَغُلَامٌ مِنْ الْأَنْصَارِ؛ فَنَادَى الْمُهَاجِرُ ـ أَوْ الْمُهَاجِرُونَ ـ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ !! وَنَادَى الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ !! فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «مَا هَذَا؟! دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟! قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّ غُلَامَيْنِ اقْتَتَلَا، فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.قَالَ: فَلَا بَأْسَ؛ وَلْيَنْصُرْ الرَّجُلُ أَخَاهُ، ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا؛ إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ، فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ. وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ» رواه مسلم.

قال النووي: وَأَمَّا تَسْمِيَته ﷺ ذَلِكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ كَرَاهَة مِنْهُ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ التَّعَاضُد بِالْقَبَائِلِ فِي أُمُور الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا، وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَأْخُذ حُقُوقهَا بِالْعَصَبَاتِ وَالْقَبَائِل، فَجَاءَ الْإِسْلَام بِإِبْطَالِ ذَلِكَ، وَفَصَلَ الْقَضَايَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة. فَإِذَا اِعْتَدَى إِنْسَان عَلَى آخَر حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنهمَا، وَأَلْزَمَهُ مُقْتَضَى عِدْوَانه كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام.

وهذه رسالة إلى الأمة اعتصموا بكتاب ربكم وسنة نبيكم ﷺ وكونوا يداً واحدة واتحدوا تحت راية الإسلام التى جمعت تحتها كل الأجناس فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان عربياً وبلال رضي الله عنه كان حبشياً، وسلمان رضي الله عنه كان فارسياً، وصهيب رضي الله عنه كان رومياً، فوحد الإسلام بين قلوبهم وألف بينهم؛ قال تعالى: ﴿وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّـهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(الأنفال: ٦١- ٦٣)،

وصدق القائل؛
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
دعي القوم ينصر مدعيه
فيلحقه بذي النسب الصميم
وما كرم ولو شرفت جدود
ولكن التقي هو الكريم

♦ثانياً: الخلاف فى الرأي لا يُفسد للود قضية؛
إن من أخطر أسباب التفرق والنزاع تفشى الجهل بفقه الخلاف مما أوقع الكثيرون فى براثن التعصب الأعمى والحكم على مخالفيهم بالكفر أو الفسق وغير ذلك مما يدل على ضيق الأفق وعدم الإلتزام بأدب الخلاف!!
وواقع الفرق والجماعات التى تبنت العنف لا يخفى على أحد!!

عباد الله: إن المتأمل فى صفحات تاريخنا المشرق يجد أن أسلافنا الكرام رضي الله عنهم وهم أفقه الناس، وأعلم الناس كانوا حريصين على جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفهم، وغلق أي باب من شأنه أن يفرق بينهم ومن الشواهد على ذلك؛

– صلاة ابن مسعود خلف عثمان بن عفان رضي الله عنهما أربعاً؛ لله درك يا ابن مسعود لقد أدركت بسعة علمك وفقهك أن وحدة المسلمين أنفع لهم في العاجل والآجل؛ فعن عَبدُ الرَّحمنِ بنُ يَزيدَ أنَّهم كانوا مع عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضيَ اللهُ عنه بمِنًى، وهو وادٍ قُربَ الحَرَمِ المَكِّيِّ يَنزِلُه الحُجَّاجُ يومَ التَّرويةِ؛ الثامنَ مِن ذي الحجَّةِ، وذلك في زمَنِ خِلافتِه، فصَلَّوا أربَعَ رَكَعاتٍ ولم يَقصُروا الصَّلاةَ الرُّباعيَّةَ، فأُخبِرَ بذلك عَبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، فاستَرْجَع رَضيَ اللهُ عنه، يعني: قال: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعون، ثمَّ أخبَرَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه صلَّى وقَصَرَ الصَّلاةَ مع رَسولِ اللَّهِ ﷺ وأبي بكرٍ وعمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنهما -كلٌّ في عَهْدِه- وهمْ في حَجِّهم بمِنًى، فقَصَروا الرُّباعيَّةَ (الظُّهرَ، والعصرَ، والعِشاءَ) رَكْعتَينِ، ثمَّ قال رَضيَ اللهُ عنه: «فلَيْتَ حَظِّي مِن أَرْبَعِ رَكَعاتٍ رَكْعَتانِ مُتقَبَّلَتانِ»،

يعني: لَيْتَ نَصِيبي رَكْعَتانِ مُتقبَّلتانِ بَدَلَ أرْبَعِ رَكَعاتٍ، يُشِيرُ بذلك إلى فِعلِ عُثْمانَ رَضيَ اللهُ عنه، فكأنَّه يَقولُ: لَيْتَ عُثْمانَ صَلَّى رَكعتَينِ بَدَلَ الأربَعِ كما كان النبيُّ ﷺ وأبو بكرٍ وعُمَرُ رَضيَ اللهُ عنهما يَفعَلون، ومَقصُودُه: كَراهةُ مُخالَفةِ ما كان عليه رَسولُ الله ﷺ وصَاحِبَاه.

– ولما حج عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وكان بمنى يوم التروية صلى خلف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنهما فأتمَّ ابنُ مَسعودٍ أربَعًا خلْفَ عُثمانَ، كما عندَ أبي داودَ.

فقِيل له: «عِبتَ على عُثمانَ، ثمَّ صلَّيتَ أربعًا؟! فقال: «الخِلافُ شرٌّ»،
أي: إنَّ الخِلافَ بيْنَ المسلِمينَ في ذلك المَوطنِ شرٌّ وأعظَمُ مِن الإصرارِ على الرَّكعتَينِ ومُخالَفةِ الإمامِ؛ إشارةً إلى جَوازِ الإتمامِ وإنْ كان خِلافَ الأَوْلى.

وهذا مَبدَأٌ عظيمٌ، وخاصَّةً في الأمورِ الاجتهاديَّةِ الَّتي تَحتَمِلُ أكثرَ مِن وَجْهٍ، وما لم يكُنِ الأمرُ تَوقيفيًّا عن رَسولِ اللهِ ﷺ،،

– ومن أقوال الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه الدالة على سعة علمه، وعلى أن الخلاف يسع الجميع قوله: «هذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر أحداً عليه ولا نقول: «يجب على أحد قبوله بكراهية، فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به»

– والإمام مالك بن أنس رضي الله عنه يأبى حمل الناس على رأي واحد؛ لقد عزم أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور على أن يَنسَخَ نسخاً من “الموطأ” ثم يبعث إلى كل مِصر من أمصار المسلمين بنسخة، فيأمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدونها إلى غيرها، وأن يَدَعوا ما سواها،،

فقال له مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ فإن الناس قد سبَقَت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وروَوا رواياتٍ، وأخَذَ كل قوم بما سبَق لهم، وعمِلوا به ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله ﷺ وغيرهم، وأصبح ردهم عما هم عليه شديدًا، فدَعِ الناس وما اختاروا لأنفسهم، فقال: لعمري لو طاوعتَني على ذلك، لأَمرتُ به،، تاريخ الطبرى.
ثم شاوَره أمير المؤمنين هارون الرشيد في أن يُعلِّق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة، كلٌّ يتَّبِع ما صحَّ عنده، وكل على هدى، وكل يريد الله تعالى، فقال: وفَّقكَ الله يا أبا عبدالله.

لقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يمتلك بعد نظر ورأياً سديداً مع تجرد وإخلاص لله رب العالمين.

– الإمام الشافعي ويونس الصدفي أنموذجاً؛ لقد
كان يونسُ بن عبدالأعلى أحدَ طلاب الإمام الشافعي رحمهم الله، واختلف يونس مع أستاذه الشافعي، فقام غاضبًا وترك الدرس ورجع لبيته، وفي الليل ذهب الإمام الشافعيُّ لبيت يونس، فقال له: يا يونس، تجمعنا مئاتُ المسائل وتُفرِّقنا مسألةٌ! يا يونس، لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات، فأحيانًا كسب القلوب أَولى من كسب المواقف، يا يونس، لا تهدم الجسور التي بنيتَها وعبرتها، فربما تحتاجها للعودة يومًا ما، اكره الخطأ دائمًا، ولا تكره المُخطئ، يا يونس، انتقد القول لكن احترم القائل؛ فإن مهمتنا أن نقضي على المرض، لا على المريض.

– بين الإمام أحمـد والشـافعي رضي الله عنهما؛ فعن عبد الله بن الإمام أحمد قال، قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي ، فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ فقال: يا بني: كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هـل لهذين من خلف أو عوض؟.

وعن صالح بن الإمام أحمد قال: لقيني يحيى بن معين فقال: أما يستحيي أبوك مما يفعل؟ فقلت: وما يفعل؟ قال: رأيته مع الشافعي والشافعي راكب، وهو راجل آخذ بزمام دابته. فقلت لأبي ذلك، فقال: إن لقيته فقل: يقول لك أبي: إذا أردت أن تتفقه فتعال فخذ بركابه من الجانب الآخر.

عباد الله: إن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وعلى الرغم من أننا تربينا على تلك الجملة، إلا أن هناك من لا يلتزم بأدب الحوار وقد يصل الأمر إلى رمى المخالف بالنفاق أو الكفر وهذا المسلك واضح عند بعض التيارات المعاصرة!!
ولقد اختلف أسلافنا الكرام رضي الله عنهم، لكن اختلافهم في الرأي لم يكن سبباً لافتراقهم!! إنهم اختلفوا لكنهم لم يفترقوا.
لأن وحدة القلوب كانت أكبر من أن ينال منها شيء.
إن أزمتنا فى أفكارنا التى بَعُدت عن هدى الكتاب والسنة المطهرة،
إن مشكلتنا في التعصب الأعمى وعبادة الذات،
ومغالاة بعض الجهال فى مشايخهم فيرونهم على مطلق الصواب ويرمون غيرهم بالضلال!!

والحق أن الخلاف يسع الجميع، ولا يُفسد للود قضية.

فاتقوا الله عباد الله: واحذروا التفرق والتشرذم لأن ذلك يصب فى مصلحة أعدائكم ويضعف من قوتكم.

أقول قولي هذا واستغفر الله لى ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا عباد الله: إن الاعتصامَ بحبل الله المتين هو الحِصنُ الحصين، والحِرزُ المتين؛ قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾(الشورى: ١٣)،

♦ثالثاً: مخاطر الفُرقةِ وأضرارها؛ إن الاتحاد والتوافق بين المسلمين أصل الدّين، والاختلاف بينهم أول الفساد ورأس الزّلل، وكما تجب الموافقة في الدين والعقيدة تجب الموافقة في الرأي والعزيمة؛ قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(الأنعام: ١٥٣)،

أي: الطُّرُقَ المخالفةَ لهذا الطريق، ﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ أي: تُضِلُّكم عنه، وتُفَرِّقُكم يميناً وشمالاً، فإذا ضَلَلْتُم عن الصراط المستقيم، فليس ثَمَّ إلاَّ طُرُقٌ تُوصِلُ إلى الجحيم.
– الفُرقةُ والاختلاف تكون سبباً في استحواذ الشيطان على العبد؛ فعن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ» رواه الترمذي.

– الفُرقةُ والاختلاف من سَنن بني إسرائيل؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال رسول الله ﷺ: «ليأتينَّ على أمَّتي ما أتى على بني إسرائيل حَذوَ النَّعلِ بالنَّعلِ، حتَّى إن كانَ مِنهم من أتى أُمَّهُ علانيَةً لَكانَ في أمَّتي من يصنعُ ذلِكَ، وإنَّ بَني إسرائيل تفرَّقت على ثِنتينِ وسبعينَ ملَّةً، وتفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ ملَّةً، كلُّهم في النَّارِ إلَّا ملَّةً واحِدةً، قالوا: مَن هيَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: ما أَنا علَيهِ وأَصحابي» رواه الترمذي.

– الفُرقةُ والاختلاف من عمل الشيطان؛ لقد يئس الشيطان من إيقاعِ المسلمين في الكفرِ، ولكنَّه لا ييأسُ إطلاقاً من إثارةِ الأضغانِ، ونفخِ الأحقادِ، والتحريشِ بينهم؛ فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال رسول الله ﷺ: «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ» رواه مسلم.

إن الشيطان لعنه الله يشرفُ بنفسِه على عملياتِ التفريقِ، ومهامِّ التحريشِ التي يكلّفُ بها جنودَه؛ فعن جابر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ إبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ علَى الماءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَراياهُ، فأدْناهُمْ منه مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: فَعَلْتُ كَذا وكَذا، فيَقولُ: ما صَنَعْتَ شيئًا، قالَ ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: ما تَرَكْتُهُ حتَّى فَرَّقْتُ بيْنَهُ وبيْنَ امْرَأَتِهِ، قالَ: فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنْتَ» رواه مسلم.

– الفُرقةُ والاختلاف من داء الأمم السابقة؛ فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «دبَّ إليكُم داءُ الأمَمِ قبلَكم الحسَدُ والبغضاءُ هيَ الحالِقَةُ لا أقولُ تحلِقُ الشَّعَرَ ولكن تحلِقُ الدِّينَ والَّذي نفسي بيدِهِ لا تدخُلوا الجنَّةَ حتَّى تؤمِنوا ولا تؤمِنوا حتَّى تحابُّوا أفلا أنبِّئُكُم بما يثبِّتُ ذاكُم لكم أفشوا السَّلامَ بينكُم» رواه الترمذي.

– الفرقة والاختلاف من أخطر أسباب الهزيمة والذلة؛ قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(الأنفال: ٤٦)

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: أطيعوا، أيها المؤمنون، ربَّكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تخالفوهما فى شيء؛ ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾

يقول: ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم “فتفشلوا”، يقول: فتضعفوا وتجبنوا “وتذهب ريحكم.
– والفُرقةُ والاختلافُ تكون سبباً في هلاك الأُمم؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سَمعتُ رجُلاً قرأ آيةً، وسمِعتُ النَّبيَّ ﷺ يَقْرَأُ خِلافها، فَجِئتُ به النبيَّ ﷺ فأخبرتُهُ، فَعرفْتُ في وَجههِ الكَراهيةَ، وقال: «كِلاكُما مُحْسِنٌ، ولا تَخْتَلفوا؛ فإنَّ مَن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» رواه البخارى.
– والفُرقةُ تكون سبباً في حرمان الخير والفضل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «تفتح أبوابُ الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفرُ لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيُقال: أنظِرُوا هذين حتى يصطلحا، أنظِرُوا هذين حتى يصطلحا، أنظِرُوا هذين حتى يصطلحا» رواه مسلم.

– والفُرقةُ تكون سبباً لبعد العبد عن رضا الله عز وجل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله يرضَى لكم ثلاثًا ويكرهُ لكم ثلاثًا، يرضَى لكم: أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصِموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحوا من ولاَّه الله أمرَكم. ويكرهُ لكم: قيل وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعةَ المال» رواه مسلم.

– والفُرقةُ تكون سبباً في الضلال؛ فعن حذيفة رضي الله عنه قال: «كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللهِ ﷺ عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بهذا الخَيْرِ، فَهلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ شَرٌّ؟ قالَ: نَعَمْ، فَقُلتُ: هلْ بَعْدَ ذلكَ الشَّرِّ مِن خَيْرٍ؟ قالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلتُ: وَما دَخَنُهُ؟ قالَ: قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بغيرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بغيرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ منهمْ وَتُنْكِرُ، فَقُلتُ: هلْ بَعْدَ ذلكَ الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ علَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قالَ: نَعَمْ، قَوْمٌ مِن جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، فَما تَرَى إنْ أَدْرَكَنِي ذلكَ؟ قالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ، فَقُلتُ: فإنْ لَمْ تَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ؟ قالَ: فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ علَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ علَى ذلكَ» رواه مسلم.

– ويكفى الفُرقة شراً أنها من أسباب محق الخير ورفع البركة؛ فعَن عُبادةَ بنِ الصَّامت، قال: خرج النَّبي ﷺ ليخبرنا بليلة القدر، فَتلاَحى رجلانِ مِن المسلمين، فقال: «خَرجْتُ لأُخبرَكمْ بلَيلةِ القدْر، فَتَلاحَى فُلانٌ وفلانٌ، فَرُفعتْ، وعسى أَنْ يكُونَ خَيرًا لكم، فالتمِسُوها فِي التَّاسِعَة، والسَّابعةِ، والخامسةِ» رواه البخارى.

– وهناك أضرار كثيرة تلحق بالمجتمعات التى تقع فى براثن الفرقة والاختلاف كانتشار الظلم والفساد، وتأخر التنمية والتقدم، وتبدد الطاقات في صراعات داخلية، وكذلك تؤدي الفرقة إلى عدم الاستقرار في المجتمع، وتزيد من حالة الفوضى والاضطراب، وتؤدى الفرقة إلى تدهور الأخلاق والقيم، وزيادة انتشار السلبية واليأس.
فاتقوا الله عباد الله: وحافظوا على وحدة صفكم وكونوا على قلب رجل واحد.

اللهم احفظ مصر واجعلها سلماً سلاماً، أمناً أماناً، واحفظ عليها وحدة شعبها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وأقم الصلاة

كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
الجمعة ٢٣ من محرم ١٤٤٧ هجرياً
الموافق ١٨ من يوليو ٢٠٢٥ ميلاد