الرئيسية» خطب منبرية » خطبة بعنوان ( الأوطان ليست حفنة من تراب ) لفضيلة الشيخ / ياسر عبدالبديع
خطبة بعنوان ( الأوطان ليست حفنة من تراب ) لفضيلة الشيخ / ياسر عبدالبديع
8 يونيو، 2025
خطب منبرية
خطبة بعنوان ( الأوطان ليست حفنة من تراب ) لفضيلة الشيخ / ياسر عبدالبديع
بتاريخ 17 من ذى الحجة 1446 هجرية – 13 من يونيو 2025 م
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ
الأوطان ليست حفنة من تراب
العُنْصُرُ الْأَوَّلَ : مَفْهُومٌ الْأَوْطَان
لَمْ تَكُنْ الْأَوْطَان حُدُودًا تَحْفَظْهَا أَوْ أَحْجَارًا تبنى أَوْ رَمْزًا نَعْرِفُه بِهِ لَيْسَ كُلُّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْأَوْطَان تُعْرَف بِالرِّجَال وَبِالْعَمَرَان وَبِإعْمَال الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالْإِبْدَاع
فَالْعَقْل نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَجَعَلَه مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَسِرّ التَّكْرِيمِ وَالتَّشْرِيفِ؛ فَهُو الْقُوَّةُ الْمُفَكِّرَةُ الَّتِي يُعْقَلُ بِهَا الْإِنْسَانُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ، فَيُمَيَّز بِهِ بَيْنَ الضَّارَّ وَالنَّافِعَ، وَالْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ، وَيَخْتَار بِهِ طَرِيقُ الْخَيْرِ، وَيَبْتَعِدُ عَنْ طَرِيقِ الشَّرّ.
وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ اللَّهُ الْحُفَّاظُ عَلَيْهِ، وَحَرَّمَ كُلَّ مَا يُذْهِبُهُ أَوْ يُخِلُّ بِوَظَائِفِهِ؛ مِنْ خَمْرٍ وَمُسْكِر، وَمُفْتِر وَمُخَدِّر، وَرَتَّب الشَّرْعُ الْحَدَّ وَالْعُقُوبَةَ عَلَى مَنْ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمُسْكِرَاتِ، الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِأَنَّهَا رِجْسٌ وَنَجِس، يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ بِتَنَاوُلِهَا فَيَذْهَب عَقْلِه، وَيُصْبِحُ بَعْدُ ذَلِكَ مَرْتَعًا خِصْبًا لِوَسَاوِسِه وَإِغْوَاءَاته، فَيَأْمُرُهُ بِالْمُنْكَرَات، وَيُحَرِّضَهُ عَلَى الْعَدَاوَات، وَيَصُدُّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَعَنْ عَمَلِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٩٠].
وَقَدْ كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحِلَّ لِلنَّاس الطَّيِّبَاتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَالْمُنْكَرَات، قَالَ تَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ ﴾ [الْأَعْرَاف: 157].
وَلَنْ تَجِدَ عَاقِلًا فِي الدُّنْيَا مُتَحَررا مِنْ شَهَوَاتِهِ وَأَهْوَائِة يُحْكَمُ عَلَى الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ بِأَنَّهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ، فَكُلّ الْعُقَلَاء مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسْكِرَاتِ بِكُلّ أَنْوَاعِهَا وَمُسْمِئَاتِهَا مَضَرَّةٍ بِالْبَدَن، مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْلِ، قَاطِعَة عَنْ الصِّلَةِ بِاللَّهِ، مَحْرَضه عَلَى الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكِرَاتِ، مِنْ زِنًا وَقَتْلُ وَسَرِقَة وَنَيْل مِنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَإِفْسَاد لِلْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ((لَا تَشْرَبُ الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ)) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ)) وَعِنْدَمَا جَاءَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ صُنْعِ الْخَمْر، نَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ)) فَنَسِتَطِيع إنْ نَقُولُ بِأَنَّ مِفْتَاح حَبّ الْأَوْطَان الْعَقْلِ السَّلِيمِ الْبَعِيدِ عَنْ كُلِّ شَرٍّ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَثْمَن الْأَشْيَاءِ عِنْدَ أَهْلِ الْفِطْرِ السَّلِيمَة: حَبّ الْبِلَادِ الَّتِي وُلِدُوا فِيهَا وَعَاشُوا عَلَى ثَرَاهَا، وَأَكَلُوا مِنْ خَيْرَاتٍ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِيهَا.
وَإِنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ قَدْ أَقَرَّتها شَرِيعَةُ الإِسْلَامِ، وَإِحَاطَتِهَا بِحُقُوق وَوَاجِبَات رِعَايَةٌ لِمَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا؛ فَقَدْ اقْتَرَنَ حَبّ الْبِلَادُ وَالدِّيَارُ عِنْدَ الْإِنْسَانِ بِحُبّ النَّفْسِ، كَمَا هُوَ وَصْفٌ الْقُرْانِ الْعَظِيمِ، يَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)[النِّسَاءِ: 66].
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- عِنْدَ قِصَّةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَرُجُوعِه بِأَهْلِه: “وَفِي الرُّجُوعِ إلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْوَار، وَتُرْتَكَب الْأَخْطَار، وَتُعَلَّل الْخَوَاطِر”.
وَفِي قَضِيَّةِ حُبُّ الدِّيَارِ وَمَحَبَّة الْبِلَاد يُخَاطِبُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، يُخَاطِبْهَا بِحُزْن وَشَوْق فَيَقُولُ: “مَا أَطْيَبَك مِنْ بَلَدٍ، وَمَا أَحَبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ أَخْرَجُونِي مِنْك مَا سَكَنَتْ غَيْرَك”(رَوَاه التِّرْمِذِيّ).
وَعِنْدَمَا أَرَادَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَهُ الْهِجْرَةُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَعَاشَ فِي أَرْضِهَا وَأَقَام، وَتَنْورت بِرِسَالَتِهِ.
قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعَبِّرًا عَنْ كَوْنِهَا بَلَدًا أَصْبَحْت مُقِرّ إقَامَتِه: “اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ”(رَوَاه الْبُخَارِيِّ).
وَفِي وَصْفِ خَيَّرَه خَلَقَ اللَّهُ بَعْدَ الرُّسُلِ، يَقُولُ – جَلَّ وَعَلَا – وَاصِفًا الصَّحَابَةِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ) [الْحَشْر: 8].
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ: اسْتِقْرَارِهِ فِي بَلْدَةٍ امِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، عَابِدًا رَبِّه، مُطِيعًا لِخَالِقِه.
يَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “مِنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ امِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَسَنَدُه حَسَن).
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: أَنْ حُبَّ الدِّيَارِ فِي الْإِسْلَامِ يَعْنِي: الِالْتِزَامَ بِقِيَم فَاضِلَةٍ، وَمَبَادِئَ زَاكِيَة. أَنَّهُ يَعْنِي: التَّعَاوُنِ عَلَى جَلْبِ عَلَى خَيْرٍ وَصَلَاحٍ لِلْبِلَاد وَأَهْلُهَا، وَدَفْعِ كُلِّ فَسَادٍ وَعَنَاء عَنْ الدِّيَارِ وَسَاكِنِيها. يَقُولُ – جَلَّ وَعَلَا -: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ)[الْمَائِدَةِ: 2].
إنْ حَبّ الْبِلَاد يَقْضِي بِأَنَّ يَعِيشُ كُلُّ فَرْدٍ مَعَ إخْوَانِهِ فِي بِلَادِهِ بِمَحَبَّة وَتَوَأَّد، وَتَرَاحُم وَتَعَاطُف؛ اسْتِجَابَةً لِقَوْلِهِ – جَلَّ وَعَلَا -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ)[الْحُجُرَات: 10]، وَلِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “مِثْلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ الوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ”(مُتَّفَق عَلَيْهِ).
أَنَّهُ الْحَبُّ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى التَّوَاصِي بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالتَّنَاصُح عَلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ الدِّيَار وَإِعْمَار الدَّارِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: (أَنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلَّا الَّذِينَ امَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[الْعَصْر: 2، 3].
وَرَسُولُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “الدَّيْنُ النَّصِيحَةُ” قَالَهَا ثَلَاثًا، قَالَ الصَّحَابَةُ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ”(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
أَخُوهُ الْإِسْلَامِ: إنَّهُ الْحَبُّ لِلْبِلَاد الَّذِي يَقْتَضِي الدِّفَاعِ عَنْ دِينِهَا وَعَنْ مَنْهَجِهَا وَثَوْابَتِهَا، وَالدِّفَاعِ عَنِ أَرْضِهَا وَمُقَدَّرَاتِهَا، كُلّ حَسَبِ قُدْرَتِهِ وَطَاقَتِه وَمَسْؤُولِيَّتَه، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ الْقُرْانُ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: (قَالُوا وَمَا لَنَا إلَّا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)[الْبَقَرَة: 246].
وَإِلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَهْدِف قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “مِنْ قَتْلِ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَتَلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَتَلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَتَلَ دُونَ نَفْسِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ”(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد، وَصَحَّحَهُ الْحُفَّاظِ).
إنَّهُ الْحَبُّ لِلْبِلَاد الَّذِي يَلْزَمُ أَفْرَادُ المُجْتَمَعِ أَنْ يَتَصَدَّوْا لِكُلّ مُخَطَّط يَنَالُ مِنْ مُقَدَّرَات الْبِلَاد وَمَصَالِحِهَا الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَعًا.
قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “مِنْ رَأْيِ مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْأَيْمَانِ”.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ الْمُنْكَرَات: الْوَسَائِل وَالْمُخْطِطات الَّتِي تَنَالُ مِنْ عَقِيدَةِ الْبِلَاد وَثَوْابَتِهَا، أَوْ تُنَالُ مِنْ مُقَدَّرَاتِهَا وَخَيْرَاتٍهَا، أَوْ تَزَعْزُع أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارُهَا.
عِبَادِ اللَّهِ: وَحُبِّ الْمُسْلِم لِدِيَارِه يَجْعَلُهُ مُلْزِمًا بِأَنْ يُحِبَّ لِبِلَادِه وَوُلَاتِهَا وَأَهْلُهَا مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ يَرْعَى مَصَالِحِهَا كَمَا يُحِبُّ وَيَرْعَى مَصَالِحِهِ الْخَاصَّةِ، وَمَنَافِعِه الذَّاتِيَّة.
قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “لَا يُؤْمَنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ”(مُتَّفَق عَلَيْهِ).
أَخُوهُ الْإِسْلَامِ: مِنْ مَفَاهِيمِ حَبّ الْبِلَادِ فِي الْإِسْلَامِ: أَنَّ يَحْرِصَ كُلٌّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ عَلَى كَفِّ الْأَذَى وَالضَّرَرِ عَنْ الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا.
فَفِي صَحِيحِ السُّنَّةِ: مِنْ حُقُوقِ الطَّرِيقِ: إمَاطَةِ الْأَذَى، وَقَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي التَّحْذِيرِ مِنْ وَضْعِ الْأَذَى فِي أَفْنِيَةِ النَّاس وَطُرُقِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ.
فَالْمُسْلِم مُطَالَبٌ فِي بِلَادِهِ وَلِأَهْلِهَا أَنْ يَكُونَ كَمَا وَجَّهَهُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: “الْمُسْلِمِ مِنْ سَلَمٍ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدُه”.
وَمِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الْكُبْرَى: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَار”.
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: وَمِنْ حُقُوقِ الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا عَلَى أَفْرَادِهِ: إنْ يُحَذِّرَ الْمُسْلِمَ مِنْ الْخِيَانَةِ لِبِلَادِه وَلَوْلَاتُهَا وَلِمُجْتَمَعِهَا، وَإِنْ أَقْبَح صُوَر الْخِيَانَة اسْتِغْلَال الْوَظَائِف وَالْمَنَاصِب لِلْمَصَالِح الشَّخْصِيَّة، وَمَنْ أَقْذَر إشْكَالُ ذَلِكَ الْفَسَادُ بِشَتَّى أَنْوَاعِه، خَاصَّة الْفَسَاد الْمَالِيَّ الَّذِي جَاءَتْ النُّصُوصُ بِالتَّحْذِير الْأَكِيد مِنْهُ، (وَمِنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[ال عِمْرَان: 161].
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”(رَوَاهُ الْبُخَارِىّ).
أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ: وَمَنْ حَقّ الْبِلَاد عَلَيْنَا: التَّعَاوُنِ مَعَ مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَ سِيَاسَة الْبِلَاد، بِالْعَمَل الصَّادِق مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّ طَاعَتَهُمْ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِنْ يَحْرِصَ كُلٌّ مِنَّا عَلَى لَمْ اللَّحْمَة وَوَحَّدَه الصَّفّ، وَجَمَعَ الْكَلِمَةَ، وَأَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مَجْنُدين لِحِمَايَة الْبِلَادِ مِنْ كُلِّ مُخَطَّط يَهْدِف لِلْإِضْرَار وَالْإِفْسَاد.
فَاتَّقُوا اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا-، وَقُومُوا بِوَاجِبَكُمْ نَحْوُ بِلَادِكُمْ؛ يَتَحَقَّقُ الْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَار.
العُنْصُرُ الثَّانِي : الْعَقْلُ وَتَكْرِيم الْإِنْسَان
فَالْعَقْل نِعْمَة وَهَبَهُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَيَّزَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ بِهِ
فَقَدْ كَرَّمَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ وَفَضَّلَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ، خَلْقَهُ فَأَحْسَن خَلْقِه، وَكَرَمِه بِالِاسْتِعْدَادَات الَّتِي أَوْدَعَهَا فِطْرَتُه، هَيْئَة وَفِطْرَة تَجْمَعُ بَيْنَ الطِّين وَالنَّفْخَة، هَيَّأَ لَهُ مِنْ التَّسْخِيرِ مَا يَقُومُ بِهِ فِي وَظِيفَةِ الِاسْتِخْلَاف وَالتَّعْمِير، {وَسَخَّرَ لَكُمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الْجَاثِيَة: 13).
وَأَنَّ مَنْ أَهَمّ مُهِمَّات الِاسْتِخْلَاف وَالتَّعْمِير: إصْلَاح التَّفْكِير وَاسْتِقَامَتِه، وَضَبَط مَسَارِه فِي كُلِّ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ وَمَيَادِينها، وَمَنْزِلَةُ الْإِنْسَان وَقُوَّة تَفْكِيرِه تَظْهَر بِقَدْر أَعْمَالِه فَكَرِه، وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِ فِي عَقْلِهِ، وَمَدَى تَحْقِيقَهُ لِمَا يَنْفَعُهُ فِي دُنْيَاهُ وَاخِرَتِه.
الْعَقْل – حَفِظَكُمْ اللَّهُ – هُوَ أُسُّ الْفَضَائِلِ، وَيَنْبُوعُ الْادَابِ، هُوَ لِلدَّيْنِ أَصْل، وَلِلدُّنْيَا عِمَاد، وَلَيْس أَفْضَلُ مِنْ أَنَّ يَهَبُ اللَّهُ عَبْدَهُ عَقْلًا رَاجِحًا، وَتَفْكِيرِا مُسْتَقِيمًا.
الْعَقْلَ قُوَّةٌ وَغَرِيزَة اخْتَصَّ اللَّهُ بِهَا الْإِنْسَانُ، وَفَضَّلَهُ بِهَا عَلَى سَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ، الْعَقْلَ قُوَّةٌ مُدْرِكَة تَقُوم بِوَظَائِف كُبْرَى، مِنْ رَبْطِ الْأَسْبَابَ بِمُسَبَّبَاتِهَا، وَإِدْرَاك الْغَائِبِ مِنْ الشَّاهِدِ، وَالْكُلِّيَّات مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ، وَالبَدَهِيَّات مِنْ النَّظَرِيَّاتِ، وَالْمُصَالَح مِنْ الْمَفَاسِدِ، وَالْمَنَافِعَ مِنْ الْمَضَارِّ، وَالْمُسْتَحْسَنُ مِنْ الْمُسْتَقْبَح، وَإِدْرَاك الْمَقَاصِد وَحُسْن الْعَوَاقِب.
الْعَقْلُ نُورٌ مِنْ اللَّهِ يُمَيِّزُ بِهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَالْخَطَأ وَالصَّوَابُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالِاعْتِقَادَات وَالْعُلُوم وَالْمَعَارِف.
وَمِنْ اللَّطِيفِ – مَعَاشِر الإِخْوَةُ – : أَنَّ لَفْظَ الْعَقْلَ لَمْ يُرِدْ فِي الْقُرْانِ الْكَرِيمِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ مُشْتَقَّاتِه وَمُرَادِفُاتِه، كَقَوْلِهِ – عَزَّ شَأْنُهُ -: {مَا عَقَلُوهُ} (الْبَقَرَة: 75)، وَقَوْلُه: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} (الْمِلْكِ: 10)، وَقَوْلُهُ – عَزَّ شَأْنُهُ -: {وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ} (الْعَنْكَبُوت: 43)، وَقَوْلُهُ – تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: {أَنْ فِي ذَلِكَ لايَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النَّحْل: 67)، وَقَوْلُه: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} (يُوسُف: 2)، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} (الْأَنْعَام: 32)، {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (يَس: 68).
كَمَا جَاءَ مِنْ الْمُرَادِفَات: {أُولُو الْأَلْبَابِ} (الْبَقَرَة: 269)، وَأُولُو النَّهْيِ، {أَنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لأُولِي النُّهَى} (طَه: 54)، {لَايَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (الِ عِمْرَانَ: 190)، {أَنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق: 37)، {هَلْ فِي ذَلِكَ قُسِّمَ لِذِي حِجْرٍ} (الْفَجْرِ: 5).
وَمِمَّا يَلْفِتْ النَّظَر – عِبَادِ اللَّهِ -: إِنَّ الْقُرْانَ الْكَرِيمَ رَبَطَ رَبْطًا وَاضِحًا بَيْنَ الْإِذْنِ وَحَاسَّة السَّمْع، وَالْعَيْن وَحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَالرَّجُل وَقَدْرِه الْمَشْي، وَالْيَدِ وَقُوَّةِ الْبَطْشِ، فِي مِثْلِ قَوْلِهِ – عَزَّ شَأْنُهُ -: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الْأَعْرَاف: 195).
أَمَّا الْعَقْلُ فَلَمْ يَرْبِطْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ بَلْ وَرَدَ بِاسْمِ وَظِيفَتِه الْمُدْرَكَة، وَلَيْس بِاسْمِهِ أَوْ الَتِهِ. وَكَانَ فِي هَذَا دَلَالَةٌ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنْ الْعَقْل يُمَثِّل مَجْمُوع أَدَوَات الْإِدْرَاكِ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَفُؤَاد وَقَلْب وَغَيْرِهَا، فَالْعَقْل مُرْتَبِط بِالْإِنْسَان كُلُّه، وَمُنْتَظِم لُحُواسه كُلُّهَا، فَهُوَ مِلْكُهُ وَظِيفِيَّة يَرْتَبِط وُجُودِهَا وَعَمَلِهَا بِوُجُود أَدَوَاتِهَا، وَعَلَى قَدْرِ حَسَن تَوْظِيف الْإِنْسَان لِهَذِه الْأَدَوَات يَكُون تَعَقُّلُهُ فِي الْأُمُورِ، وَنُضْجِه فِي الْإِدْرَاكِ، مِمَّا يَتَبَيَّنُ مَعَه ارْتِبَاط الْعَقْل بِالْأَحْدَاث وَالتَّصَرُّفَات.
عَبَّادُ اللَّهُ: وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ أَعْمَالَ الْعَقْلِ وَحُسْنِ اسْتِخْدَامُه بِيَدِ الْإِنْسَانِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَقَدَّمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلَيْتَأَخَّر، وَلَا يَكُونُ أَعْمَالُ الْعَقْلِ إلَّا فِي التَّفْكِيرِ وَالتَّذَكُّر، وَالِاعْتِبَار وَالتَّدَبُّر، وَالنَّظَر وَالتَّبَصُّر، وَالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَكُلِّ ذَلِكَ جَاءَ الأَمْرُ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ – عَزَّ وَجَلَّ – فِيهِ ايَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ – عَزَّ شَأْنُهُ -: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الْأَنْفَال: 21)، وَقَوْلُهُ – عَزَّ شَأْنُهُ -: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الْمَلِكِ: 10)، وَقَالَ تَعَالَى: {أَنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَقْلَ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَمَحَلِّ الْفَهْم، وَبِه اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَانُ مُرَادِ الشَّارِعِ، وَبِهِ حُسْنُ التَّصَرُّفِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَالْعَقْل مُكَلَّف تَكْلِيفًا صَرِيحًا بِالنَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَإِدْرَاك الْعَلَاقَات أَسْبَابًا وَمُسَبَّبَات، وَاكْتِسَاب الْعُلُوم، وَالنَّظَرُ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَالْمَنَافِع وَالْمَضَارّ، وَالْعَدْل وَالظُّلْم، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ يَسْتَفِيدُ مِنْ التَّسْخِيرِ لِلْقِيَامِ بِمُهِمَّةِ التَّعْمِير.
وَالْقُرْانُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَة مَلِيئَان بِالدَّلَائِل الْبُرْهَانِيَّة، وَالْأَقْيِسَة الْعَقْلِيَّة، وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ، وَحُسْن الْجِدَال، كُلُّ ذَلِكَ حَتَّى يَتَحَرَّرَ الْعَقْلِ مِنْ تَلْبِيسَات الْخُرَافَة، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَتَخْرَصَات الْكَهَنَة وَالْمُنَجِّمِين، وَالسَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ، وَالطِّيَرَة وَالْمُتَشَائِمِين، وَالتَّقْلِيدُ الْأَعْمَى لِمَا عَلَيْهِ الْابَاءُ وَالْأَسْلَاف؛ لِيَنْطَلِق إِلَى افَاقِ رَحْبَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الْعَقِيدَةِ الصَّافِيَة، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالْعَطَاء الْمُنْتَج، قَالَ – سُبْحَانَهُ -: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النَّمْل: 64)، وَقَالَ – عَزَّ شَأْنُهُ -: {قُلْ إِنَّمَا أَعْظَكم بِوَاحِدَةٍ إنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمّ تَتَفَكَّرُوا} (سَبَأ: 46)، وَقَالَ – عَزَّ شَأْنُهُ -: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (عَبْس:25- 32)، وَقَالَ – عَزَّ شَأْنُهُ -: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجِ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} (ق: 6- 8).
العُنْصُرُ الثَّالِث : مُقَوِّمَات بِنَاء الْأَوْطَان:
لَا شَكَّ أَنَّ بِنَاءَ الْأَوْطَان وَقِيَامِهَا وَازْدِهَارها وَتَبِوَاهَا مَكَانَهُ بَيْنِ الْبُلْدَانِ لَيْسَ بِأَمْرٍ هَيِّن، وَلَا هُوَ شَيْءٌ يَقُومُ بَيْنَ عَشِيَّة وَضُحَاهَا، وَإِنَّمَا جُهُود تَبْذُلْ، وَدِمَاء تُرَاق، وَأَمْوَال تُنْفِق، وَعُلِم وَتَخْطِيط، مَعَ سَلَامَةِ قَصَد وَصُدِّق نِيَّة، وَعُلُوّ هَمَّه.. كَمَا أَنَّ بِنَاءَ الْأَوْطَان لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّخْطِيط الْمُحْكَم وَالْبِنَاء الْفِعَال، وَاِتِّخَاذ جَمِيعَ الْوَسَائِلِ وَالْأَسْبَاب لِقِيَامِهَا.
وَلَكِنْ هُنَاكَ مُقَوِّمَاتِ وَأُسُسِ عَامِهِ لَا يَقُومُ أَيْ مُجْتَمَعٍ إِلَّا بِهَا، وَلَا تَرْتَفِعُ أَيْ أَمَةِ إلَّا بِوُجُودِهَا وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْمُقَوَّمَات:
الْعِلْمِ
وَهُوَ السِّلَاحُ الْأَوَّلُ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعَات بَلْ وَالْحَضَارَات.. وَلَيْس لِلْمُجْتَمَع حَاجَةَ إلَى شَيْءٍ أَقْوَى مِنْ حَاجَتِهِ لِلْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيم.
فَبِالْعِلْم يَكْتَشِف الْإِنْسَان أَسْرَارِ الْكَوْنِ وَنَوَامِيسه، وَ يُسَخِّرُهَا لِخِدْمَةِ نَفْسِهِ وَمُجْتَمَعِه.
وَبِالْعِلْم تَصْنَع الْحَيَاةِ الْكَرِيمَةِ الرَّاقِيَة، وَيَقْضِي عَلَى الْأُمِّيَّةِ وَالْجَهْل وَالْفَقْر وَالْجُوع وَالْمَرَض.
وَبِالْعِلْم يَكْسِب النَّاس الْمَعْرِفَة بِالْحُقُوق وَالْوَاجِبَات. وَبِه مَفَاتِيح التَّخَلُّصِ مِنْ الْأَزَمَات وَالْمُشْكَلَات. وَبِالْعِلْم وَالْإِيمَان يَرْفَع صَاحِبِهِمَا فَرْدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً ( يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ امَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) [ الْمُجَادَلَة : 11 ].
وَالْإِسْلَامُ وَالْقُرْانُ يَدْعُوَان الْمُسْلِم لِلْعِلْم، وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْانِ دَعْوَة لِلْمَعْرِفَة وَالْعِلْم وَالتَّعَلُّم وَاَلَّتِي تَكْتَسِب بِالْقِرَاءَة وَالْكِتَابَة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلِمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[الْعَلَق: 1 – 5].
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْعِلْمِ هُنَا الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ الدِّينِيّ فَقَطْ، وَإِنَّمَا كُلٌّ عِلْمٍ نَافِعٍ مُفِيد يُسْهِمُ فِي التَّقَدُّمِ الْحَضَارِيِّ وَالْإِثْرَاء المَعْرِفِيّ، وَيُقَوِّي وَيُعَزِّز قَدْرِه الْمُجْتَمَعِ.. سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ أَوْ الْعُلُومِ الْمَادِّيَّةِ التَّجْرِيبِيَّةِ كَالطِّبّ وَالْهَنْدَسَة وَالِاقْتِصَاد وَالتِّجَارَةِ، أَوْ الْعُلُومِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّة. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ اكْتِسَاب هَذِهِ الْعُلُومِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الْكِفَائِيَّةِ الَّتِي تُطَالَبُ الْأُمَّةِ بِهَا فِي مَجْمُوعِهَا.
وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِسُؤَال الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْعِلْمِ، وَتَعَوَّذ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ عِلْمِ لَا يَنْفَعُ فَقَالَ (اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمِ لَا يَنْفَعُ)[رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، فَبِالْعِلْم نَزْرَع مَا نَأْكُلُ، وَنَصْنَع مَا نَلْبَسُ، وَنَنْتج دَوَاءنا وَسِلَاحَنَا وَحَاجَاتِنَا، وَإِلَّا ظَلِلْنَا عَالَةً عَلَى الْغَيْرِ مُحْتَاجِين إلَيْهِمْ، نَئِنّ مِنْ وَطْأَتُهُمْ، وَنَعِيش تَحْت رَحْمَتِهِمْ.
الْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لَا عِمَادَ لَه .. .. وَالْجَهْل يَهْدِم بَيْت الْعِزُّ وَالشَّرَفُ
الْعَدْلِ
وَ”الْعَدْل أَسَاس الْمِلْكَ”.. وَبِهِ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ.. هَذِهِ قَاعِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ اسْتَقَرَّتْ عِنْدَ السَّاسه وَالْعَامَّةُ وَثَبَتَتْ بِالْوَاقِع وَالتَّارِيخ، وَسُنَّة كَوْنِيَّة رَبَّانِيَّةٌ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ دَوْلَة مُسْلِمَةً أَوْ دَوْلَةٍ غَيْر مَسْلَمَةَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)[الرَّحْمَنِ: 9]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (أَنْ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[النَّحْلِ: 90]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[رَوَاهُ مُسْلِمٍ].
فَمَنْ جَعَلَ الْعَدْل أَسَاس مِلْكِه قَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَعَظُمَتْ دَوْلَتِه، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ جَعَلَ أَسَاس دَوْلَتِه الظُّلْم، وَتَضْيِيعِ الْأَمَانَةِ وَإِهْدَار الْحُقُوقِ لَمْ تَبْقَ دَوْلَتِه، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: “أَنَّ اللَّهَ يَنْصُر الدَّوْلَة الْعَادِلَة وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَة الظَّالِمَة وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَة”.
وَ ذَكَرَ ابْنُ خَلْدُونَ فِي مُقَدِّمَتِهِ فَصْلًا بِعِنْوَان ”الظُّلْم مُؤَذِّن بِخَرَاب الْعُمْرَان”، بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ الظُّلْمَ إذَا انْتَشَرَ، خَرَّبَتْ الْبِلَادَ، وَاخْتَلّ حَال الْعِبَاد.
وَكَتَبَ بَعْضُ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَيْهِ :أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ مَدِينَتَنَا قَدْ خَرِبَتْ، فَإِنَّ رَأْيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقْطَعَ لَهَا مَالًا يَرُمَّهَا بِهِ فِعْلُ!؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: “أَمَا بَعْدُ: “قَدْ فَهِمْت كِتَابِك، وَمَا ذَكَرْت أَنَّ مَدِينَتِكُمْ قَدْ خَرِبَتْ، فَإِذَا قَرَأْت كِتَابِي هَذَا، فَحَصَّنَهَا بِالْعَدْلِ، وَنَقِّ طُرُقَهَا مِنْ الظُّلْمِ، فَإِنَّهُ مَرَمَّتِهَا وَالسَّلَام”.
وَكَتَبَ إلَيْهِ وَإِلَى خُرَاسَانَ يَقُولُ: «إِنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ قَوْم سَاءَتْ رَعِيَّتِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يُصْلِحُهُمْ إِلا السَّيْفُ وَالسَّوْط، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْذَنَ لِي فِي ذَلِكَ». فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: «.. أَمَا بَعْدُ: فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُك تَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ قَدْ سَاءَتْ رَعِيَّتِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يُصْلِحُهُمْ إِلا السَّيْفُ وَالسَّوْط، فَقَدْ كَذَبْتُ، بَلْ يُصْلِحُهُمْ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَابْسُطْ ذَلِكَ فِيهِمْ وَالسَّلَام».
وَالْعَدْل قِيمَة مُطْلَقَة مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ حَالٍ وَمَنْ كُلِّ أَحَد:
مَطْلُوبٌ مِنْ الرَّاعِي مَعَ رَعِيَّتِهِ فَيَكُونُ بِهِ أَوَّلَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ (إِمَامٌ عَادِلٌ).. وَمَنْ الرَّعِيَّةِ مَعَ بَعْضِهِمْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)[النِّسَاء:135).
وَيَكُونُ مَعَ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ وَالْمُحِبّ وَالمُبْغِض (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا)[الْمَائِدَة:8]. وَمَعْنَى الْايَةِ: “وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضِكُمْ لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى أَنَّ تَحِيفوا عَلَيْهِمْ أَوْ تَظْلِمُوهُمْ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْدِلَ حَتَّى مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِين”.
فَالْعَدْل لَازِم لِقِيَام الْأَوْطَان وَبَقَائِهَا، وَالظُّلْم مُؤَذِّن بِهَلَاكِهَا وَفَنَائِهَا.
وَقَدْ أَوْضَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا وَجَلَاه فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَمَا أَرَادَ أَنْ يَشْفَعَ فِي الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَشْفَعُ فِي حَدِّ مَنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى؟ ثُمَّ قَامَ، فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفَ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]
الاجتماع ووحدة الصف
قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].
أمر من الله تعالى بالاجتماع والاعتصام بدين الله، فبالاجتماع تصلح دنياهم، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، مما يؤدي إلى الضرر العام. [تفسير السعدي بتصرف].
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم قام بالمؤاخاة بين المسلمين، وبوضع وثيقة تضبط العلاقة بين فئات الوطن المختلفة من المسلمين واليهود والمشركين لتضمن عدم التنازع والشقاق، وتنظم طريقة التعايش في سلام ووفاق وتكاتف في حماية الوطن الواحد.
ولما بدت بعض ظواهر الاختلاف بين المهاجرين والأنصار في القصة المشهورة سارع إلى وعظهم وردهم إلى صوابهم وقال: (دعوها فإنها منتنة)[متفق عليه].
وكان يدعو إلى كل ما يقوي روابط المحبة والألفة بين المسلمين.. فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شيء إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ) [رواه مسلم].
فالاجتماع والوحدة والائتلاف وعدم الاختلاف من أهم الخطوات في بناء الأوطان وازدهارها.
بناء الإنسان
لأنه محور كل تقدم حقيقي وسبب حفظه واستمراره، فبناء البشر قبل بناء الحجر، إذ لا قيمة لأي بنيان إذا هدم الإنسان.. ولا قيمة لعمارة المباني والمنشآت إذا ساكنها وعامرها خراب..
فلابد من بناء المواطن بناءً شاملاً متكاملاً: عقديا، وعلميا، وخلقيا، وبدنيا، وثقافياً واجتماعيا ليتمكن من منفعة نفسه ووطنه.
وهذا ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم من البناء لأصحابه.. فكان يربيهم على العقائدِ الصحيحة، والمبادئ القويمة، والأخلاق الحميدة، والأقوال السديدة، والأفعال الرشيدة، فكانوا أكملَ خلقِ الله على الإطلاق.
قصة سور الصين
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺭﺍﺩ ﺍﻟﺼﻴﻨﻴﻮﻥ ﺍﻟﻘﺪﺍﻣﻰ ﺃﻥ ﻳﻌﻴﺸﻮﺍ ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻥ، ﺑﻨﻮﺍ ﺳﻮﺭ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻭﺍﻋﺘﻘﺪﻭﺍ ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﺴﻠﻘﻪ ﻟﺸﺪﺓ ﻋﻠﻮﻩ، ﻭﻟﻜﻦ ..! ﺧﻼﻝ 100 ﺳﻨﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﺑﻌﺪ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺗﻌﺮﺿﺖ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﻟﻠﻐﺰﻭ ﺛﻼﺙ ﻣﺮﺍﺕ ! ﻭﻓﻰ ﻛﻞ ﻣﺮﺓ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺟﺤﺎﻓﻞ ﺍﻟﻌﺪﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺔ ﻓﻰ ﺣﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﺧﺘﺮﺍﻕ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺃﻭ ﺗﺴﻠﻘﻪ ..! ﺑﻞ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺓ ﻳﺪﻓﻌﻮﻥ ﻟﻠﺤﺎﺭﺱ ﺍﻟﺮﺷﻮﺓ ﺛﻢ ﻳﺪﺧﻠﻮﻥ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺒﺎﺏ.
ﻟﻘﺪ ﺍﻧﺸﻐﻞ ﺍﻟﺼﻴﻨﻴﻮﻥ ﺑﺒﻨﺎﺀ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﻭﻧﺴﻮﺍ ﺑﻨﺎﺀ من يحرسه.
الدُّعَاءِ
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ
وَأَقُمْ الصَّلَاةُ