المتحف المصري استلهام العبر من إرث الحضارات


بقلم أ.د/ مها محمد عبد القادر أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر

يمثل المتحف المصري، القابع في قلب القاهرة، أحد أبرز المعالم التاريخية والثقافية التي تحتضن إرث الحضارة الفرعونية العريقة، فهو صرح أثري، وذاكرة تاريخية لمسار الإنسان على الأرض، ومرجع لا يقدر بثمن لفهم تطور الفكر البشري عبر آلاف السنين، ويتجلى دوره بوصفه فضاءً للتأمل والتدبر في سنن الله الكونية، واستلهام العبر من التجارب الإنسانية القديمة بما يعزز الوعي الديني والثقافي لدى الزائر.

ويعد المتحف المصري قلب الوعي الثقافي والتاريخي لمصر، حيث يضم داخل قاعاته إرثًا حضاريًا ممتدًا يرتبط بنشأة المجتمعات وتطورها، ومن ثم فإن زيارة المتحف رحلة تعليمية وفكرية وروحية، تتيح للزائر الانفتاح على تاريخ الإنسانية، والتأمل في سنن الله الكونية، وإبداع وابتكار الإنسان في بناء الحضارات، وربط هذا التاريخ بالقيم القرآنية والأخلاقية التي ترشد العقل والضمير.

ويوضح التجول بين أروقة المتحف للزائر عبقرية المصري القديم في البناء والتنظيم والهندسة والفنون، وفي قدرته على التخطيط لمجتمع مستقر ومنظم، وتستدعي هذه التجربة التأمل في السنن الكونية التي دعا القرآن إلى التفكر فيها، قال تعالى ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ﴾، (الأنعام: 11)، كما تمنح المعابد والتماثيل والمومياوات والبرديات المعروضة فرصة فريدة لفهم التدرج المعرفي في العلوم والهندسة، وإدراك أهمية التخطيط والتنظيم في حياة المجتمعات القديمة.

 كما تكشف عن دور العقل البشري في مواجهة تحديات الحياة اليومية وبناء حضارة متماسكة، وهي بذلك دروس عملية لا تزال صالحة للإنسان المعاصر، حيث توضح إنجازات الحضارات الكبرى كيف يمكن بناء مجتمع مستقر، وإدارة الموارد، ورعاية الأفراد، وبالتالي يصبح المتحف المصري معملًا حيًا لفهم القوانين الكونية والتدبير الإنساني، في انسجام تام مع المنهج القرآني الذي يربط بين العلم والتفكر والخلق، قال تعالى ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ (سورة البقرة: 31)، وهكذا تكون رسالة المتحف دعوة دائمة للمعرفة، ورحلة متجددة نحو الحكمة، وفهم أعمق لمسار الإنسان في الكون.

ويشير القرآن الكريم إلى فرعون كشخصية فردية متكبرة ومستهترة بأوامر الله، وليس كرمز لشعب أو حضارة بأكملها، فقد تناولت الآيات بكتاب الله عز وجل أفعاله الظالمة، كما في قوله تعالى (فَغَرَقْنَا فَرْعَوْنَ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا) (سورة الأعراف: 136(، كما لم يحرم القرآن أو يصف الحضارة الفرعونية، بما تحتويه من علوم وفنون وبنية اجتماعية، بأنها كافرة أو مذمومة، وهذا يفرض ضرورة التمييز بين الشخص الظالم أو العصيان الفردي وبين المجتمع أو الحضارة بأكملها، كقاعدة أساسية للفهم الصحيح للدين والتاريخ.

وغالباً ما يؤدي الخطأ في الحكم على الحضارات القديمة إلى غياب التعليم النقدي، وتداخل المعلومات المغلوطة، وعدم القدرة على التفريق بين العقيدة والسلوك الفردي، بينما الإسلام كدين شامل يتيح للإنسان التعلم واتخاذ العبر من الحضارات السابقة مع الالتزام بالقيم الأخلاقية، حيث يعتبر التاريخ مصدرًا للدرس والعبرة وليس للحكم على الشعوب بأكملها، وبذلك يدعو الإسلام إلى الوسطية والسماحة في التعامل مع الثقافات المختلفة، مع الاستفادة من المعرفة والخبرات الإنسانية المتراكمة دون التعصب أو الحكم الجزافي على المجتمعات التاريخية.

وتعد زيارة المتحف منصة تعليمية متكاملة تسهم في بناء الوعي الحضاري وتعزيز القيم الأخلاقية والمهارات العملية لدى الطلاب؛ حيث تمنحهم فرصة مباشرة للتعامل مع الشواهد المادية للتاريخ، واكتساب مهارات التثبت من المعلومات من خلال مقارنة الروايات المتداولة بالمصادر الأصلية المعروضة، وتحليل النقوش والوثائق والقطع الأثرية لاستنباط الحقائق وتمييزها عن التفسيرات غير الدقيقة والمغلوطة، مما يرسخ الوعي النقدي وينمي القدرة على مواجهة الشائعات والأخبار الزائفة، كما ترسخ الزيارة قيم العدل والرحمة عبر إبراز دورهما في بناء الحضارات واستقرارها، وربط هذه القيم بما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية من توجيهات تدعو إلى الإنصاف، واحترام الحقوق، وحفظ الكرامة الإنسانية، وإتقان العمل.

وتكشف معروضات المتحف عن أساليب إدارة الموارد والعمل الجماعي في الحضارات القديمة، مبينة كيف أسهم احترام الحقوق، والتنظيم الرشيد، والتعاون في استمرار هذه المجتمعات وازدهارها، وتساعد هذه المعروضات في فهم العلاقة بين السلوك الأخلاقي والنهضة العمرانية والاجتماعية، وإدراك أهمية المسؤولية الجماعية والإدارة الحكيمة في بناء حاضر أفضل، كما تمنح الزيارة الطلاب مساحة للمقارنة بين الحضارات المتعاقبة، وتحليل أسباب النهوض والانهيار، وتنمية مهارات الملاحظة والتدوين، والقدرة على صياغة الأسئلة البحثية، كما تعزز الانتماء للتراث الوطني عبر الاطلاع على إسهامات مصر التاريخية في الحضارة الإنسانية، فتتحول زيارة المتحف إلى تجربة تربوية شاملة تنمي شخصية ناقدة، مبدعة، وواعية بتراثها الحضاري، وقادرة على توظيفه لفهم الحاضر وصناعة المستقبل.

وتسهم زيارة المتحف في تنمية الحس الجمالي والتذوق الفني لدى الأفراد، حيث تتيح لهم التفاعل المباشر مع روائع الفنون والعمارة والنقوش التي خلفتها الحضارات المختلفة، مما يعزز إدراكهم لقيمة الإبداع الإنساني عبر العصور، كما تنمي هذه التجربة الخيال وتوسع المدارك، وتدرب الطلاب على قراءة الرموز البصرية وفهم الرسائل الثقافية الكامنة في الأعمال الفنية، كما تعزز الزيارة مهارات التواصل والعمل التعاوني من خلال الأنشطة الجماعية، والنقاشات وإعداد مشاريع بحثية مشتركة، ما يدعم روح الفريق وينمي مهارات العرض والتفسير، كما تشجع الزيارة على احترام التنوع الثقافي عبر الاطلاع المباشر على تفاعل الحضارات وتبادلها للمعرفة، فتغرس قيم التسامح والانفتاح، وتؤكد أن التراث الإنساني حصيلة مساهمات مشتركة متشابكة مع هويتنا وخصوصيتنا الحضارية.

ولقد قامت الحضارة الإسلامية على مبدأ التفاعل الإبداعي مع الحضارات الإنسانية السابقة، فاستفاد المسلمون من التراث اليوناني في الفلسفة والطب، ونقدوه ووسعوه وكانوا محققين وممحصين ومطورين له، كما برزت مدارس فلسفية متوافقة مع العقيدة الإسلامية، حيث أفادوا من الفرس الخبرات الإدارية والقانونية لتطوير نظم الدولة، ومن الهند الرياضيات والفلك لتأسيس الجبر وتحسين الجداول الفلكية، ومن مصر والرومان العمارة والهندسة، فامتزجت المعارف المحلية مع الرؤية الإسلامية، في بناء المساجد والمدارس والخانات والقصور، مما أخرج طرازًا معماريًا فريدًا، وهذا التفاعل الحضاري كان بمثابة عملية إحياء وتجديد، استطاعت بها الحضارة الإسلامية أن تعيد تشكيل المعرفة الإنسانية وتدفعها إلى آفاق أرحب، وهو ما جعلها واسطة العقد بين الحضارات وركيزة أساسية في تاريخ التطور الإنساني.

ونؤكد أن صون الهوية وبناء الوعي الحضاري مسؤولية متجددة تتوارثها الأجيال، فحين يدرك الإنسان قيمة الإرث الإنساني، ويفهم سنن الله في الأمم والعمران، ويربط بين الماضي والحاضر ويتطلع إلى المستقبل، ويصبح أكثر قدرة على اختيار طريقه وإسهام فعال في نهضة أمته، وهكذا تظل آثار الحضارة شاهدة على مسيرة الإنسان، ودعوة دائمة للتفكر والعمل، وبوابة للوعي تعيد تشكيل علاقة الإنسان بتراثه، مانحة إياه حكمة تقوده إلى غد أكثر وعيًا، وأعمق معرفة، وأصلب بناء.