نصب المجازر للمسلمين باسم التوحيد
8 ديسمبر، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

المقال السادس عشر من سلسلة رواية (قرن الشيطان)
للكاتب / محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي
حين أُغلقت أبواب الدرعية بعد الاجتماع الأخير الذي ضم محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود وأتباعهما، لم يكن أحد يعلم أن الرياح التي هبّت في ذلك المساء ستحمل في طيّاتها بذور قرنٍ كامل من الحروب.
لم يكن الحلف مجرد التقاء فكري بين رجل دين ورجل سياسة، بل كان عهداً مكتوبًا على ظهور الخيل، ومدادًا على جلود الضحايا. وشيئًا فشيئًا، صار ما يُسمى بـ “الدعوة” حركة عسكرية، تحمل القرآن في يد، والسيف في الأخرى.
لم يكن محمد بن عبدالوهاب قد تجاوز الأربعين، لكن وجهه بدأ يُشبه وجوه القادة أكثر من وجوه الفقهاء. كان يتحدث بثقة آمر، لا معلم. يُصغي إليه رجاله كما يُصغي الجنود لأوامر الحرب، لا كما يُصغي التلاميذ لدروس التفسير.
في المجالس المغلقة، حين يُسأل عن التكفير، كان يرد باقتضاب: “من خالف التوحيد الحق، فلا شفاعة له.”
ولكن ما هو هذا “التوحيد الحق”؟ ومن يحدده؟ ومن يقيس به إيمان الناس؟
تحت عباءته العريضة، بدأت تتكاثر قوائم الأسماء. أسماء الشيوخ والصوفية، وحتى علماء الحرمين الذين كانوا يرفضون تكفير الناس بالظن والتأويل، وبدأت بعض العبارات تظهر على لسانه وتُدوَّن على هوامش كتبه:
“من لم يُكفّر المشرك، فهو مشرك.”
عبارة بسيطة، لكنها كانت المفتاح الذي فُتح به باب الدم.
لقد صار من الممكن ـ بل من الواجب ـ أن تُكفّر من لا يُكفّر، وأن تُقاتل من لا يُقاتل، وأن تُجبر الناس على أن يروا ما تراه، وإلا فإنهم من “المتأولين” أو “المرجئة” أو “الزنادقة المتستّرين بالإسلام”.
في إحدى الليالي، حضر مجلسًا ضمَّ بعض كبار رجال محمد بن سعود، ودار الحديث عن “فتح” بلدة قريبة في منطقة نجد، رفضت مبايعة الدولة الجديدة، ورفضت دخول “الدعوة”.
قال عبدالعزيز بن محمد بن سعود: “يا شيخ، القوم مسلمون، يصلّون ويصومون. ولكنهم لم يقبلوا بيعة الأمير.”
رد ابن عبدالوهاب دون تردد: “ألم نقل إن الطاعة لا تتم إلا بالإيمان الصحيح؟ إنهم يعبدون الله على غير بصيرة، ويتبعون أهواء آبائهم.”
قال أحد الحاضرين: “لكنهم يقولون: لا إله إلا الله.”
فأجابه بنبرة حادة: “كلمة التوحيد ليست تعويذة تُنطق، بل عقيدة تُفهم وتُنفَّذ.”
ثم ساد صمت طويل، قُطع بعبارته القاطعة:
“من لم يدخل في دعوتنا، فهو عدوها.”
وهكذا، أُعلنت الحرب.
بدأت السرايا تخرج من الدرعية تباعًا، وتحمل معها فتاوى التكفير قبل أن تحمل السيوف. وصارت كل بلدة تُفتح تُخيَّر بين ثلاثة:
1_ الدخول في الدعوة.
2_ الخروج منها.
3_ أو النار.
بلدة تلو أخرى، سقطت. وسُمّي السقوط “فتحًا”. وبدأت الرسائل تتوارد على محمد بن عبدالوهاب من شتى المناطق، يسأله فيها أتباعه:
– هل يجوز لنا أخذ الغنائم من المسلمين الذين قاتلونا؟ – هل يُقتل من يُظهر الإسلام ويرفض الدخول في الدعوة؟
وكانت أجوبته واضحة، وإن كُتبت بلغة ملغّمة:
“الموالاة لأهل الشرك شرك، ومن عادى أولياء الله فهو عدو الله.”
وفي دفاتره الخاصة، بدأ يُدَوّن خرائط ذهنية للأماكن التي لم تصلها الدعوة، ويضع علامات بجوارها:
“يُستتابون أولًا… فإن أبوا… تُرفع الرّايات.”
بدأ بعض أقربائه يشكون من صرامته، بل إن أخاه سليمان بن عبدالوهاب كتب ردًّا مشهورًا عليه بعنوان “الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية”، قال فيه:
“ما دعوتكم إلا فتنة، وما تبديعكم وتكفيركم إلا باب للشيطان إلى دماء المسلمين.”
لكن محمد ردّ عليه بكلمات أقسى:
“أخي سليمان لم يعرف التوحيد، ولو عرفه ما عارضه.”
وحين بلغه أن بعض أبنائه بدأوا يتململون من شدته، أرسل إليهم برسالة قال فيها:
“من وهن قلبه عن الحق، فليس منّي. ومن تراجع عن الطريق، فقد خان الله.”
في عام 1746، ارتكبت قوات الدولة الجديدة أولى المجازر الكبرى بحق سكان بلدة في نجد رفضت الدعوة، وأصرّ علماؤها أن لا يُكفَّر من يشهد الشهادتين.
دخل الجنود المدينة فجراً، وتقدمتهم رايات مكتوب عليها:
“لا إله إلا الله، محمد رسول الله، محمد بن سعود إمام المسلمين.”
أُحرقت البيوت، وقُتل الرجال، وسُبيت النساء. ثم رُفعت التقارير إلى الشيخ محمد، فقيل له:
– إن البلدة أُخضعت بالكامل.
فأجاب: “الطريق طويل، وما هذه إلا أول القلاع.”
منذ ذلك اليوم، بدأ الناس يتهامسون:
– هل هذه دعوة دينية، أم مشروع دولة باسم الدين؟
– هل ما يحدث هو جهاد، أم غزو؟
– من يجرؤ على الاعتراض، وفتوى القتل جاهزة؟
حتى بعض أتباع محمد بن سعود بدأوا يتململون. لكن التحالف كان قد ترسّخ.
وصار واضحًا أن الدعوة صارت تُساق برمح الأمير أكثر مما تُشرح بقلم الشيخ.
وفي مذكراته، كتب أحد الشهود من أهل الحجاز الذين عايشوا مرحلة الغزو:
“كانوا يدخلون القرى، فيأمرون الناس بالبيعة، فإن ترددوا، قُطعت أعناقهم. ثم يُقال: دخلوا في الإسلام. أي إسلام هذا؟ إسلام الدم أم إسلام القهر؟”
وفي أواخر العام، جلس محمد بن عبدالوهاب في مجلسٍ خاص، يتأمل في خريطة الجزيرة، واللون الذي بدأ يتمدد فيها.
قال في نفسه:
“ما أسرع ما يستجيب السيف حين يصمت القلب.”
ثم خطّ في دفتره:
“ربّما كنتُ أُقيم الدين… لكني فتحت بابًا لا يُغلق. فهل كنت عبدك أم سيفك؟ أم أداة في يد سلطان يبحث عن مجد؟”
كان الزمن قد بدأ يدخل نفق التوحّش.
ولم يكن أحد، حتى محمد بن عبدالوهاب نفسه، قادرًا على إيقاف الموجة.
لقد صارت الدعوة… دولة. وصار الخلاف… دمًا. وصار الصمت… خيان
البخور والمباخر:
في صباح بدا ساكنًا في ظاهره، لكنه يخفي في جوفه بركانًا متحفزًا، دخل محمد بن عبدالوهاب إلى مجلس خاص في قصر الدرعية، حيث كان عبدالعزيز بن محمد بن سعود في انتظاره، وحوله بعض كبار رجال الدعوة والسلطة. كانت رائحة البخور تملأ المكان، وأصوات خافتة تتردد كأنها صدى لصلوات لم تُفصح عن هويتها.
جلس محمد بن عبدالوهاب دون أن يحيي الجميع، كعادته التي غدت مألوفة: جموده في المجالس، حدة نظرته، وثقته التي تشبه الصمت حين يتحوّل إلى سيف.
قال عبدالعزيز: “وصلتنا رسائل من بعض أعيان حائل، يعرضون فيها الطاعة بشرط…”
قاطعه محمد: “الطاعة لا تُشترط، إنما يُعرض عليهم الإسلام كما أتى به النبي، لا كما رآه آباؤهم.”
صمتٌ لحظي.
تابع الأمير بصوت منخفض: “لكنهم يطلبون وقتًا، يريدون فهم دعوتنا.”
قال محمد وهو يضغط على سبابته: “لا وقت للشرح بعد الآن. من علم فقد قامت عليه الحجة، ومن جهل، فسوف نقيمها عليه بالسيف أو الكتاب.”
من خلف الستار، كان أحد أبناء الشيخ، حسين بن محمد، يراقب المجلس بصمت. كان يعرف والده جيدًا، ويعرف تلك النظرة التي لا تقبل التراجع. لكنه كان أيضًا شاهدًا على مجلس خاص قبل أيام، حين قال والده لأحد خاصته:
“إذا تباطأ الأمير، ذكّره أن لا سلطة له إلا بهذه الدعوة، فلتكن الطاعة لله، لا للقبيلة.”
كانت هذه الجملة وحدها كافية لتفجير المعبد القديم في نجد، حيث لا تزال القبائل ترى في المشيخة والعرف حكمًا فوق كل حكم.
في السنوات الماضية، تحولت علاقة محمد بن عبدالوهاب بآل سعود من دعوة واحتضان، إلى تحكم وتوجيه. لم يكن مجرد رجل دين يُستشار، بل أصبح رجل دولة يوجّه، يحسم، ويُقصي.
أصبحت رسائله تُحمل إلى القبائل كفرمانات لا تقبل التأويل. فإن لم يبايع القوم على التوحيد وفق تأويله، سُمّوا مشركين، وجاز فيهم السيف.
في مجالس الأنس، حين يغيب الشيخ، كان بعض رجالات الدرعية يتندّرون:
– “أصبح الأمير عبدالعزيز أميرًا على الأرض… والشيخ محمد أميرًا على السماء!”
وكانت هذه النكتة، رغم مرارتها، تعبّر عن واقع لا يجرؤ كثيرون على المجاهرة به.
في تلك الليلة، جلس محمد في خلوته بعد انتهاء المجلس، وفتح دفتره الأسود الذي لا يطلع عليه أحد.
كتب:
“إن الله اصطفى هذا التحالف بيننا وبين آل سعود ليرفع به راية الإسلام. لكن إن خالطته شهوة ملك، أو رغبة سلطان، فسيكون علينا فتنة. اللين في مواضع الحزم، شركٌ في الدعوة. ومساومة أهل الباطل على بقائهم في الحكم، خيانة للدين.”
ثم تذكر ابنه عبدالله، الذي بدأ يكثر من السؤال.
– “يا أبي، أما تخشى أن يخلط الناس بينك وبين السلطان؟” – “لا أخشى من الناس يا بني، بل أخشى أن يختلط الحق بالهوى.”
– “لكن ألا ترى أن بعض من تقاتلهم، يصلّون ويصومون؟” – “دعوتهم لا تقف على ظاهر العمل، بل على التوحيد الذي لا يتلبس بشيء من البدعة.”
– “وهل البدعة تُقاتل؟” – “إذا أصرّ صاحبها، نعم.”
لم تكن هذه الأسئلة تعجب الشيخ. كانت تذكره بما عاناه مع أخيه سليمان بن عبدالوهاب، الذي ألف ضده كتابًا عنوانه: “الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية”، واتهمه فيه بالتسرع في التكفير، وادعاء تجديد الدين دون أهلية.
لقد كانت تلك المعركة الشخصية أكثر ألمًا له من معارك الدرعية.
في دفتره كتب:
“إن الدم إذا اختلط بالحبر، لا يعود ماءً يغسل الذنوب، بل حبرًا يكتبها.”
وفي اليوم التالي، بينما كان يراجع أوراق مراسلات جديدة إلى جنوب نجد، جاءه مبعوث خاص من الأمير عبدالعزيز:
– “الشيخ، إن أعيان نجران يطلبون مجلسًا، ويقولون إنهم مسلمون على مذهب آخر، لا على شرك.”
قال الشيخ دون تردد:
– “الإسلام ليس مذاهب، بل توحيد وسنة. ليرسلوا من يناظرنا، فإن غلبونا بالحق، تبعناهم، وإن غلبناهم، دخلوا في دين الله أفواجًا، أو في الحرب.”
كان يكرر هذه العبارة دائمًا، لكنها لم تكن تقنع الجميع.
في الطريق إلى نجران، وبين الرمال التي تميد كلما مرّ عليها السيف، كانت تتشكّل خريطة جديدة للجزيرة العربية، خريطة تحفرها المباخر كما السيوف.
رجال القبائل الذين كانوا يبايعون عن خوف، يخفون داخل عباءاتهم صور الأولياء والأذكار الشعبية. وحين يذهب وفد الدعوة، يعودون للقول: “هذا الدين الجديد، ليس دين آبائنا.”
وهكذا، كان البخور يعلو مع كل غروب، والمباخر تعود لتعبئة الفراغ بين الخوف والهوية.
في المساء، جلس محمد بن عبدالوهاب، وأمامه خريطة كبيرة للجزيرة، ومعه قادة الجهاد.
قال لهم:
– “نحن على مشارف زمن عظيم، سيُبدل الله فيه هذه الأرض من أرض قبائل متناحرة إلى دولة توحده وحده. لكن هذا لن يتم إلا بتطهيرها من كل أثر للشرك.”
قال أحدهم: “ومتى نتوقف؟”
فأجاب: “حين تعلو كلمة الله في كل بيت.”
لكن في أعماقه، كان سؤالٌ ينهشه:
“وحين تعلو كلمتي أنا… من الذي سيراجعني؟”
هكذا كانت الدعوة، في نظر كثيرين، قد تحوّلت إلى مرآة يرى فيها الشيخ ذاته.
فهل كانت النار التي أضاءت الطريق، تحرقه أيضًا؟