كيف أصبحت “الوهابية” جهازًا أيديولوجيًا؟
1 ديسمبر، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

المقال الخامس عشر من سلسلة رواية (قرن الشيطان)
للكاتب / محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي
بعد الرحيل.. قبس لا يخبو:
كان صمت الصحراء بعد وفاة الشيخ محمد بن عبدالوهاب يشبه خفوت الطبول بعد معركة طاحنة؛ لا يعني أن السيف قد غُمد، بل إن الدم لا يزال يقطر منه في صمت. لم تكن وفاة الشيخ إلا خاتمة فصل لاختبار طويل، فالدعوة التي نمت من بذرة في العيينة، واشتدت في الدرعية، لم تمت بموت صاحبها، بل أخذت شكلاً آخر: مؤسسة دينية مسلحة.
في الأيام التي تلت وفاته، اجتمع كبار أبنائه وتلامذته، ومنهم عبد الله، وعبد الرحمن، وحسين، وجمع من القضاة والمتشددين، في ما يُشبه “مجلس خلافة فقهية”، أرادوا من خلاله الحفاظ على وصية الشيخ، أو على الأقل ما يرونه وصية له. لكن الحقيقة أنهم لم يكونوا يسيرون على وصيته الأخيرة التي كتبها بخط غير ثابت في أيامه الأخيرة، بل على خطِّه القديم، ذلك الذي كان يتقد حماسة، لا حكمة. كانت الرسالة الأخيرة للشيخ التي دُفنت معه في صدره، لا في دفاترهم.
قال عبد الرحمن ذات مساء في مجلس صغير أقيم على شرف ذكرى وفاة أبيه:
“الدعوة أكبر من رجل. وما قام به والدنا لم يكن له وحده، بل لنا من بعده. نحن الأوصياء على التوحيد، وإن تنازلنا اليوم عن الحزم، غدًا سيُعاد بناء القباب على القبور، وستعود الصوفية ترقص في حلقات الضلال.”
لكن أحد طلبة الشيخ، وكان قد لزم شيخه في أيامه الأخيرة، تمتم بصوت خافت:
“الشيخ نفسه في آخر أيامه، ندم على حدة دعوته… قالها لي أكثر من مرة: “ما أردت للأمة أن تتناحر على التأويل.”
نظر إليه عبد الرحمن باشمئزاز، وقال:
“أمّا نحن، فما نزال على يقين لا يتزعزع. الشرك لا يُجامل، والبدعة لا تُهادن، والحزم في الدين من أصل الدين.”
هكذا بدأت مرحلة ما بعد الشيخ: دعوة بلا مراجعة، ونصوص بلا سياق، وتلاميذ رأوا في أنفسهم امتدادًا لمعصوم، لا حملة إرث إنساني قابل للخطأ والصواب.
في تلك المرحلة، ومع تزايد زحف الدولة السعودية الأولى بقيادة عبدالعزيز ثم ابنه سعود، أصبحت “الوهابية” جهازًا أيديولوجيًا متكاملاً؛ لا فقط مذهبًا فقهيًا، بل منظومة سياسية دينية تستند إلى شرعية دينية مطلقة.
كان أول عمل بارز بعد وفاة الشيخ، هو إعادة مراجعة كل كتبه وتنقيحها وإعادة نشرها، لكن ليس كما كتبها هو، بل كما أراد أبناؤه وتلامذته أن تُفهم.
تم حذف بعض رسائله الأخيرة، التي أبدى فيها ليونةً تجاه المختلفين، ومنها قوله في إحدى رسائله إلى علماء الشام:
“ولا نكفّر أحدًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لمجرد الدعاء بغير الله، إن لم يعتقد أن المدعو هو الإله.”
حُذفت هذه العبارات من طبعات لاحقة لرسائله، لأنها تُضعف ذريعة التكفير، وتُسقط مشروعية العنف. لقد خاف أبناؤه من أن تنهار البنية السلطوية التي شيدت على الخطاب الحاد، فاختاروا التضحية بوصايا الأب من أجل الحفاظ على الدولة التي أصبحت تعتمد على “توحيد القهر” لا “توحيد الرفق”.
في نفس الوقت، بدأت سلسلة من المحاكمات الشعبية التي استهدفت كل من لم يذعن كليًا لفهم الدعوة كما رسمه أتباع الشيخ، لا الشيخ ذاته.
في بريدة، حُكم على أحد القُرّاء بالجلد لأنه قال إن زيارة قبر النبي ليست بدعة، بل سنة محببة.
وفي الزلفي، أُحرقت كتب للإمام الغزالي، بدعوى أنها تروّج للقبور والصوفية.
وفي حائل، طُرد أحد المعلمين لأنه كان يُدرّس في فصله أشعار الحلاج وابن الفارض.
إنها مفارقة حزينة: محمد بن عبدالوهاب الذي حفظ ديوان المتنبي في صغره، أصبحت مدرسته تحرق الدواوين.
أما عن عائلته، فقد كان لكل فرد منهم شأن. عبد الله بن محمد، وهو أكبر أبنائه، تولى مهمة نشر كتب والده، وكان أقلهم حدة، لكن لم يجرؤ على مخالفة السياق العام. أما حسين، فكان أكثرهم تشددًا، واعتبر نفسه الوريث الحقيقي للدعوة، وقاد حملات تكفير واسعة في منطقة نجد، حتى أُطلق عليه لقب “مبضع التوحيد”.
أمّا بناته، فقد أُبعدن عن المشهد، إلا من روايات محدودة تُشير إلى أن إحداهن كتبت رسالة تنتقد فيها بعض أتباع والدها، لكن الرسالة ضاعت.
وأما زوجته، التي لازمته في أواخر عمره، فقد روت لإحدى جاراتها أنها كثيرًا ما سمعته يتحدث في الليل إلى نفسه، ويقول:
“هل كنتُ داعيةً لله؟ أم لنفسي؟”
الدرعية في تلك الفترة أصبحت قلعة وهابية كاملة. كان كل بيت يُراقب، وكل لفظ يُتابع. وانتشرت فتاوى تُبيح قتل من يُخالف تأويلهم للدين.
القصائد الدينية اختفت، وظهرت أشعار الحرب، مثل:
“جئنا بسيف الله في التوحيد نغضبُ
كل من قال يا ولي! دمه يُسكبُ”
وما إن سمعها أحد أبناء الشيخ، حتى بكى، وقال:
“ما هكذا أرادها أبي… كان ينهى عن الشعر، لكنه ما أراد أن يُقال باسم التوحيد ما يُشبه التتر.”
أما العالم الإسلامي خارج نجد، فبدأ ينظر بقلق لهذه الظاهرة.
في دمشق، كتب الشيخ الدحلان ردًا قاسيًا على دعوة محمد بن عبدالوهاب، ووصفها بأنها “فتنة لا تقل عن فتن الخوارج”.
وفي القاهرة، استُقبل بعض الفارين من بطش الوهابية، ورووا كيف أن الأتباع كانوا يُكفّرون العلماء، ويمنعون الموالد، ويجلدون من يُمسك سبحة.
وفي بغداد، كتب شاعر مجهول:
“في نجد نارٌ باسم دينٍ موقدة
لكنها تُشعلُ قلوبًا موحّدة تكفّرنا، وتدّعي فتحًا مبينًا
أمّا المحبةُ، فهي منها مُبددة”
وفي الحجاز، كانت الأمور أكثر حرجًا. فقد بدأ نفوذ الدولة السعودية يمتد، وحين دخلوا مكة، مُنع الطواف حول القبر، وأُلغيت التقاليد التي استمرت قرونًا.
لكن المفارقة الأعظم، أن كثيرًا من الحجاج من المغرب والهند وأندونيسيا، بدأوا يعودون إلى بلادهم بقصص عن “دين جديد” اسمه الوهابية، دين لا يرحم، لا يتسامح، ولا يرى في المسلمين سوى مشركين محتملين.
هكذا، أصبحت صورة محمد بن عبدالوهاب بعد موته، لا صورة العالم الفقيه، بل صورة القائد الروحي لثورة فقهية بلا قلب.
ولم يكن ذلك مصادفة.
فكل ما فعله أتباعه، لم يكن محاولة لفهمه، بل لتكراره بصورة أشد وأصلب، دون اعتبار لتراجعه، أو ندمه، أو خشيته في آخر أيامه.
لقد صنعوا منه تمثالًا ذهنيًا جامدًا، لا يعترف بأنه بشر، ولا يخطئ.
ولم يكن في نجد من يجرؤ على أن يسأل السؤال البسيط الذي سألته ابنته الصغرى ذات مساء:
“أبي قال لي مرةً: الدين حب قبل أن يكون خوفًا. فلماذا صار كل ما بعده خوفًا فقط؟”