فرض المذهب الوهابى بين السلاح والتكفير
10 نوفمبر، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

المقال الثالث عشر من سلسلة رواية (قرن الشيطان)
للكاتب / محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي
كانت الرياح تلك الليلة أهدأ من العادة. درعية الطين والأشواك تنام، لكن الشيخ لم يعرف النوم. جلس على حصيره المنسوج من ليف النخل، مُتكئًا على كومة كتب، لا ليقرأ، بل كأنّه يسند رأسه إلى الماضي لعلّه ينام عنه. لكنه لم يستطع. فقد باتت الجدران تضيق عليه كأنها تطوف به، لا هو الذي يطوف.
في الأيام الأخيرة، كان الشيخ محمد قد دخل طورًا جديدًا من الدعوة؛ طورًا لم يعُد فيه الإصلاح شأوًا علميًا، ولا وعظًا ساذجًا، بل مشروعًا كاملاً من إعادة تشكيل الناس، وفرض “الصحيح” كما يراه.
لم تكن تلك الطفرة ناتجة فقط عن قوة الفكرة، بل عن تحوّل الشيخ من “داعية” إلى “مرجع”، ومن مرجع إلى “مُؤسّس”، ومن مؤسّس إلى ما يشبه النبي المصلح في نظر أتباعه. أصبح اسمه يُذكر في المجالس قبل اسم ابن سعود، وأحيانًا فوقه. وبات الناس يُقبلون على فتاواه، لا لأنها راجحة، بل لأنها “كلمته”، كأنما كل ما يخرج من محبرته هو نص إلهي غير قابل للمناقشة.
ومع كل هذا التعظيم، بدأ شيء في أعماقه ينمو ويأكله: هل أنا ما أقول؟ أم أصبحت أقول ما أريد أن أكون؟
كان يسير بين أزقة الدرعية الصغيرة، متأملاً وجوه الرجال الذين أصبحوا يُبايعونه على الولاء قبل أن يُبايعوا الإمام محمد بن سعود. بعضهم يُقبّل يده، وبعضهم لا يجرؤ أن يسأله عن آية أو حديث إلا بخوف.
وفي إحدى تلك الليالي، جلس إليه ابنه عبدالله، وكان أقرب أولاده إلى قلبه علمًا وفهمًا. قال له بصوت خفيض:
– “أبتِ، لقد كثر حديث الناس عنك. يقولون إنك تُقصي العلماء، وتكفّر المذاهب، وتلعن الصوفية، وتحرّض على من لا يتبع طريقتك، حتى لو كان مؤمنًا بالله وبالقرآن… ما ردّك؟”
كان جواب محمد صمتًا ثقيلًا، ثم قال:
– “الحق ثقيل، يا بني. ومن خالفني إنما خالف التوحيد لا شخصي.”
لكن عبدالله لم يسكت، وأضاف بصوت خافت:
– “ولكن… أليس في اختلاف الناس رحمة؟ ألم يقل الإمام مالك: كلٌ يؤخذ من قوله ويُرد إلا صاحب هذا القبر؟”
نظر إليه محمد مطولًا. أحسّ في ابنه نبرة نقد ناعمة… وخوفًا من أن تتحوّل دعوته إلى عقيدة لا تختلف كثيرًا عن ما حاربه.
في اليوم التالي، كتب محمد في دفاتره:
“أخاف أن أكون أُقيم التوحيد على أنقاض الأمة… وأبني العقيدة بجدران الكراهية.”
عاد الشيخ إلى مسجده الصغير في قلب الدرعية، فوجد في مجلسه المقرّبون: حسين بن غنام، والعبيد، وبعض أهل الوشم الذين هاجروا إليه طلبًا للعلم… أو للسلطة التي بدأت تلوح في الأفق. كان الحديث يدور حول غزوة جديدة يُعدّ لها الإمام محمد بن سعود، وهذه المرة ستكون ضد بلدة المجمعة، التي رفضت “البيعة على التوحيد”.
قال أحدهم: – “إن أهل المجمعة يتأولون، ويقولون إنكم تكفّرون الأمة برمّتها!”
فقال محمد بن عبدالوهاب وقد ارتفع صوته: – “ومن ترك ما أنزل الله واتبع آباءه وأهواءه، فقد كفر! نحن لا نُكفّر الناس بأسمائهم، بل بأفعالهم، ومن جهر بالشرك جهرنا بتكفيره.”
لكنّ الغريب أن الجلسة لم تهتف بعد هذا الكلام. سادها الصمت. كأنّ الجميع أحسّ أن القارورة قد انكسرت، وأنّ اللغة لم تعد لغة الإصلاح بل الإدانة.
في المساء، أرسل له أحد أشراف المجمعة، وكان من طلبة العلم، رسالة تقول:
ـ “يا شيخ نجد، إنك بدأت كداعية وانتهيت كمُحاكم. ما الفرق اليوم بينك وبين من اتهمتهم بالخرافة؟ كلّكم يزعم أنه يملك طريق الله وحده.”
لم يُجب على الرسالة، لكنه قرأها أكثر من مرة، وهمس بينه وبين نفسه:
– “لو أنني تركت الناس على جهلهم، لضاع الدين. ولو أنني أمسكت يدي عن السيف، لما نصرني أحد. لكنني حين جمعت بين القلم والسيف، تفتّت قلبي.”
في تلك الفترة، بدأ الشقاق بينه وبين بعض أقرب الناس إليه. أخوه سليمان بن عبدالوهاب، الذي كان قد كتب رسالة بعنوان “الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية”، يصف فيها محمدًا بأنه “مبتدع في باب التكفير، ومتجاوز لحدود الشريعة في الفتوى.”
لم يكن الشقاق بين أخوين فقط، بل كان تمزقًا بين مدرستين:
مدرسة ترى في الإسلام رحابة الخلاف وتعدّد المذاهب.
وأخرى لا تعترف إلا بظاهر النصوص وبمنهجها في التطبيق، وتُكفّر كل من خالفها بحجة التوحيد المحض.
ولم يكن محمد يجهل ما يقال عنه في الحجاز، أو بين علماء الشافعية والمالكية والحنفية. كان يعرف أن الأزهر كفّه، وأن فتاوى الحرمين أُرسلت إلى الدرعية تحذّر الناس من دعوته، وتصفها بأنها خطرٌ على وحدة الأمة.
لكن الرجل لم يتراجع. كتب في إحدى رسائله إلى والي الحجاز:
ـ “نحن لا نُحدِث دينًا جديدًا، بل نُعيد الدين كما كان. من زعم أنّنا نُكفّر المسلمين فهو كاذب، نُكفّر من عبد غير الله، ومن جعل للنبي أو الولي أو الحجر حقًّا من حقوق الله.”
لكن السؤال الذي كان يؤرقه لم يكن في الخارج… بل في قلبه:
ألم أكن أنا من نصب نفسي حاكمًا على “الصحيح”؟
ألم أُقصِ كل من خالفني، لا بالحجة بل بالتأويل؟
في إحدى ليالي التأمل، سأل نفسه:
– “من أنا؟ هل أُصلح الدين، أم أُحكم باسمه؟ هل أنا نبيّ خفيّ، أم فقيه خائف؟”
تذكّر رحلته إلى البصرة، كيف طُرد من المساجد لأنه سأل أكثر مما يجب.
تذكّر كيف قال له أحدهم:
– “من يظن أنه وحده على الحق، فقد عبد نفسه من دون الله.”
في تلك الليلة، لم يكتب في دفتره. بل خرج إلى صحن المسجد، وجلس على التراب، ووضع يده على قلبه، كأنه يُحاول أن يطمئن إليه.
لم يُشعل شمعة، بل ترك الظلمة تحتضنه.
ولأول مرة، طاف حول ذاته، لا ليجد الله… بل ليجد نفسه.
مرآة الكفر :
كانت الظلمة قد لفّت الدرعية، لا فقط في السماء، بل في القلب. الليل ساكن، إلا من نباح كلاب بعيدة، وصوت مؤذن يتردد خافتًا من مسجد الشيخ محمد، كأن الأذان نفسه يخجل من صداه.
كان محمد بن عبدالوهاب جالسًا في زاوية مسجده، مفترشًا عباءته القديمة، مطرق الرأس. لم يكن يقرأ، ولا يكتب، بل يحدّق في فراغٍ داخليٍّ أعمق من سواد الليل.
لقد بدأت الأصوات تتعالى، ليس من خصومه فحسب، بل من داخل أوساطه.
بعض تلاميذه المقرّبين كانوا يتهامسون فيما بينهم:
– “هل نُكثِر التكفير؟”
– “هل غلب على الشيخ الغضب حتى بات لا يرى إلا خطًا واحدًا في الدين؟”
– “هل سقط من كان مرشدًا في فخ من أراد أن يكون حاكمًا؟”
قبل أشهر، كان الشيخ محمد قد أرسل رسالة شديدة اللهجة إلى قاضي الزلفي، يُنكر فيها عليه قوله بجواز التوسّل بالنبي ﷺ.
كتب فيها:
ـ “إنك إن فعلت فقد جعلت رسول الله واسطة، وما الوسائط إلا شركٌ مكشوف.”
لكن القاضي ردّ عليه برسالة مؤثرة، فيها من الأدب ما لم تُخفِه المرارة:
“يا شيخ محمد، إنك لا تترك لنا إلا طريقين: إما أن نكون على ما ترى، أو أن نُعلن أنفسنا مشركين. فأين فقه الاختلاف؟ وأين أدب الخلاف؟ أليس من علامات أهل العلم: الرحمة بالخلق؟”
قرأ الشيخ الرسالة مرارًا. ثم مزّقها. لكنه لم يستطع تمزيق ما استقرّ فيها من المعنى.
منذ أن أعلن الإمام محمد بن سعود ولاءه للشيخ، أصبحت دعوة التوحيد سيفًا مشرعًا، لا مقالة فحسب. فدخلت القرى تحت راية “لا إله إلا الله” مختلطة بالدم.
في عيينة، في الحريق، في المجمعة، في شقراء، كانت رسائل الشيخ تسبق الغزو، تطلب البيعة على “التوحيد النقي”، فإن أبطأ الناس، جاءهم السيف.
وقد برّر هو ذلك مرارًا، قائلًا لتلاميذه:
“ما كانت الدعوة لتقوم في أرضٍ فرّطت في التوحيد إلا بالقوة، كما فعل النبي في فتح مكة.”
لكن تلك المقارنة كانت تُسكت التلاميذ، لا تُقنعهم.
في تلك الأيام، كان أخوه سليمان بن عبدالوهاب قد عاد يكتب، هذه المرة لا فقط للرد، بل للتاريخ.
كتب في إحدى رسائله:
“إن أخي محمدًا إنما استبدل بدعة ببدعة، وغلظة بأخرى. وما كل مخالف مشرك، وما كل عاميّ ضالّ.”
ولم يكن سليمان وحده، بل أرسل إليه مفتي الحنفية بالبصرة، وسادات من علماء مكة، وفاس، والقاهرة، وكلهم يشكون من الحدة في التكفير، ومن استسهال إخراج المسلم من ملّته، فقط لأنه زار قبرًا، أو استغاث في دعائه.
لكنّ الشيخ محمد، وقد أصبح رأس السلطة الدينية في الدولة السعودية الناشئة، بات يرى أن التراجع خيانة للتوحيد، وأن الصمت عن البدعة شركٌ مغلّف، لا يقل عن الشرك الجلي.
في مجلس خاص، جلس إليه الأمير عبدالعزيز بن محمد بن سعود، وقال له:
– “يا شيخنا، لقد كثرت الحروب. وقُتل رجال كثيرون، بعضهم من أهل القبلة. ألا ترى أن نخفف قليلًا من الإنكار؟ أن نلجأ إلى التعليم، بدل القتال؟”
فأجابه محمد بن عبدالوهاب:
– “إن السكوت عن المنكر منكر. والدين لا يقوم إلا على الصراحة. والناس إن لم يُجبروا على التوحيد، ظلّوا في الشرك عاكفين.”
قالها وكأنّه يقطع حبل النقاش بسكين الإيمان.
ومع اتساع الدولة، اتسعت أيضًا قائمة “الضالّين”.
ففي نجد، أصبح يُنكر على الموالد النبوية، والذكر الجماعي، والتوسل، وزيارة القبور، ومجالس الصوفية، وأعياد العامة، وتعظيم الأولياء.
وأصدر فتاوى في تكفير:
من شدّ الرحال لزيارة قبر النبي.
من طلب شفاعة من غير الله.
من أقام حضرةً صوفية.
من استغاث بولي.
من نذر لغير الله.
من بنى مسجدًا على قبر.
من كتب التعاويذ، أو لبس حجابًا.
من سمع موسيقى، حتى ولو “لطمأنينة النفس”!
وكل واحدة من هذه، اعتبرها بابًا للشرك، لا ذنبًا صغيرًا، بل مدخلًا إلى النار.
ثم بدأت أصداء التشدد تصل إلى بيوته.
فقد نقل له أحد خدمه أن ابنه عليًا قد راح يستمع سرًا إلى مجلس صوفيٍّ عند أحد رجال الدرعية، فاستدعاه.
– “هل ما سمعته عنك صحيح؟”
قال علي: – “نعم يا أبتِ. سمعتهم يذكرون الله، ويبكون، ويخشعون. لم أسمع شركًا.”
– “وما أدراك؟ البدعة في نيتك لا في نيتهم.”
– “لكن ألم تكن القلوب تعرف؟”
– “القلوب تُضل يا بني. لا تُؤخذ العقيدة من دمعة، بل من الدليل.”
وفي إحدى ليالي شتاءٍ جاف، وقف الشيخ محمد أمام المرآة، وقد بات جسده نحيلاً، وصوته أخفض مما كان، لكنه ما زال يُحملق في عينيه.
قال لنفسه:
– “لماذا أصبحت الوجوه من حولي أكثر خوفًا مني، لا احترامًا؟
هل صرتُ أنا، الذي قضيت عمري في محاربة الأصنام، صنمًا جديدًا؟
هل عدت أرى الله كما أراه أنا فقط، لا كما يراه الناس؟”
أحد تلاميذه، رجل اسمه أحمد بن حسن، تجرأ وقال له في أحد المجالس:
– “يا شيخ، هل لنا أن نختلف معك دون أن نُتهم في توحيدنا؟”
فأجابه بحدة:
– “إن اختلفت مع التوحيد، فقد كفرت. وإن اختلفت معي في جزئية، فعليك بالدليل.”
– “لكن… من يملك الدليل غيرك، ما دمنا لا نجرؤ أن نناقشك؟”
صمت المجلس.
كان كأنّ أحدهم صرخ: “لقد لبست العمامة، فصارت تاجًا.”
كتب في دفتره تلك الليلة:
“ما أصعب أن تكون داعية… ثم تُصبح حكمًا. وما أوجع أن يُقدّمك الناس كإمام… فتغدو نبيًّا في قلوبهم، دون أن تطلب. وما أخطر أن تُمسك سيف التكفير، ثم لا تجد من يُذكّرك بأنك بشر.”
في اليوم التالي، زار قبرًا قديمًا خارج الدرعية، كان لأحد علماء نجد القدامى، الذي يقال إن الشيخ قرأ له في صغره.
وقف عنده، ونظر إلى النقش البالي على الحجر.
قال:
– “لم يكن صاحبك صوفيًا، ولا مشركًا، ولا مبتدعًا…
لكنه لم يكن أنا.”
ثم تمتم:
– “هل المشكلة في الدين؟ أم في طريقتي؟
هل خُدعت بالحقيقة؟ أم صنعت وهمًا وسميته توحيدًا؟
وهل سأترك بعد موتي أمة موحّدة… أم فرقة تقول: الكفر مرآته محمد؟”
وهكذا، في تلك الليلة، لم يُنكر قبرًا، ولم يُكفّر ساكنه، ولم يُحذّر الناس من الشرك.
بل جلس… ووضع يده على الحجر… كأنّه يطلب منه شيئًا.
لا بركة، ولا شفاعة… بل اعترافًا.
اعترافًا بأن الحجارة أحيانًا… أصدق منّا.