صهاينة تحت التراب


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي

إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

حين يظنّ الإنسان أن القوة المادية وحدها تصنع البقاء، يغيب عنه أن للتاريخ قوانينه، وللأرض شريعتها التي لا تُظلم عندها الدماء. والصهاينة منذ أن دنّسوا أرض فلسطين ظنّوا أن آلة الحرب ستحميهم، وأن المذابح ستمكّن لهم، وأن قتل الأطفال وتشريد النساء طريقٌ نحو “الأمن الأبدي” الذي حلموا به في أوهامهم. لكن الأرض تعرف أصحابها، والتاريخ لا يرحم الغزاة، والسماء لا تنسى صرخات المظلومين.

لقد حفر الصهاينة بأيديهم قبورهم منذ اللحظة التي وضعوا فيها أقدامهم فوق تراب فلسطين، ظنوا أنهم سيغرسون دولة على أنقاض القرى، وأنهم سيقيمون مجداً على جثث الأبرياء، لكنهم لم يدركوا أن كل شهيد فلسطيني هو بذرة حياة جديدة، وأن كل بيتٍ هدموه صار شاهدًا على زيف ادعائهم بالإنسانية. فمهما حاولوا أن يطمسوا الحقائق، فإن دماء الأطفال التي سالت على أرض غزة والضفة ستبقى أقوى من إعلامهم وأكاذيبهم.

تحت التراب يرقد اليوم آلاف الصهاينة الذين قادهم الغرور إلى مواجهة شعبٍ لا يُقهر، شعبٍ آمن بأن الأرض تُستعاد بالصبر والإيمان لا بالخذلان. وفي كل مرة يعلن فيها العدوّ انتصاره، يظهر له من تحت الأنقاض طفل يرفع راية فلسطين من جديد، وكأنّ الأرض نفسها تُنجب مقاومة جديدة كل يوم، ترفض أن تُدفن معها الكرامة.

المدن التي دمّروها، والبيوت التي سَوّوها بالأرض، باتت اليوم تُحدّثهم من تحت التراب قائلة: “ظننتم أنكم قتلتم الحياة، فإذا بالحياة تنتصر في كل دمعة أمٍ فلسطينية، وفي كل نظرة طفلٍ تحدّى الدمار بابتسامة”.

هم اليوم يعيشون في رعبٍ دائمٍ لا يراه أحد، ينامون ولا يطمئنون، يخافون من ظلالهم، لأنهم يعلمون أن من تحت التراب في غزة من ينتظرهم بصبرٍ لم يعرفوه، وبإيمانٍ لا يملكونه. لقد أصبح الخوف رفيقهم، والكوابيس جيرانهم، والأرض التي ظنّوها وطنًا تحولت إلى مقبرة لأوهامهم.

كلّ صهيونيٍّ دفن في رمال فلسطين، ليس مجرد جثة، بل صفحة من صفحات العدوان التي طُويت. ومع كل جنديٍّ يسقط، تسقط معه خرافة “الجيش الذي لا يُقهر”، وتعلو في المقابل راية الذين لا يملكون إلا الإيمان والحجارة، لكنهم يملكون أعظم ما يمكن أن يُملك: اليقين بأن الله لا يخذل المظلومين.

لقد تحوّل التراب في غزة إلى شاهد عدل، يضم بين حباته من خانوا الإنسانية، ومن باعوا ضمائرهم، ومن ظنّوا أن دماء الفلسطينيين بلا ثمن. لكنه أيضًا يحتضن الشهداء الذين جعلوا من موتهم حياةً لأمتهم، ومن صبرهم درسًا للأحرار في كل مكان.
والواقع اليوم يقول بوضوح إن نهاية الصهاينة ليست خيالاً أو أمنية، بل حقيقة تتجلى يوماً بعد يوم. فالمقاومة التي كانت تُتهم بالمغامرة، أصبحت اليوم رمزاً للعزة، بينما الكيان الذي كان يُقدَّم للعالم كـ”واحة ديمقراطية” لم يعد سوى كيانٍ مذعورٍ محاصرٍ بالشك والخوف.
الزمن تغيّر، والموازين انقلبت، ولم تعد الطائرات ولا القنابل كفيلة بإخماد صوت الأرض. فإسرائيل التي ظنّت نفسها قوة لا تُهزم، أصبحت اليوم تحفر خنادقها بيدها، وتخاف من مواجهة مقاتلٍ يخرج من بين الأنقاض.

وسيبقى التاريخ شاهداً على أن الظلم لا يدوم، وأن من بنى مجده على أنقاض غيره لا بد أن يُهدم، وأن “التراب” الذي يظنون أنه نهاية هو في الحقيقة بداية عدلٍ ربانيٍ لا يتوقف. فاليوم، حين نقول “صهاينة تحت التراب”، فإننا لا نعني فقط من دُفنوا بأجسادهم، بل نعني أيضًا من ماتت قلوبهم، ومن دفنوا ضمائرهم، ومن انتهى ذكرهم إلا كلعنةٍ على صفحات التاريخ.

وسيبقى الشعب الفلسطيني واقفاً رغم الألم، يزرع الأمل مكان الركام، ويكتب بدمائه أن هذه الأرض لا تقبل الغاصبين، وأن كل من اعتدى عليها، مهما طال ظلمه، سيكون مصيره الحتمي تحت التراب.