الأسرة وبناء المجتمعات الإنسانية

بقلم أ.د/ مها محمد عبد القادر أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر

تعد الأسرة اللبنةَ الأولى والأساسية في بناء المجتمع الإنساني، والركيزةَ التي تقوم عليها صرح الحضارة، فهي مؤسسة تربوية واجتماعية راسخة شكلت، المجالَ الأول الذي تتكون فيه شخصية الإنسان وتتشكل قيمه ومعاييره الأخلاقية والسلوكية، ومن خلالها يبنى النظام الاجتماعي والأخلاقي الذي يقوم عليه المجتمع بأسره، فرقي الأمم يقاس بدرجة تحضرها وأول معيار لهذا التحضر هو مكانة الأسرة في البناء الاجتماعي، ومدى نجاحها في أداء رسالتها التربوية والإنسانية، فمنذ وجد الإنسان على الأرض لم يعرف مؤسسة أكثر تأثيرًا وعمقًا في تشكيل مصائر الشعوب من الأسرة، فهي تقوم بوظائف متشابكة تتكامل فيها الأبعاد الوجدانية والتربوية والاجتماعية.

وتمثل الأسرة البيئةَ الأولى والحاضنةَ الأساسية التي يتذوق فيها الإنسان معاني الحب والرحمة، ويتعرّف على أصول التعاون والمسؤولية، ويستشعر دفء الانتماء والأمان، ففي أحضانها يتلقى الطفل الحماية والرعاية ويكتسب هويته الأولى، وتنغرس في وجدانه القيم النبيلة والسلوك القويم، بما يمهد له الطريق للانخراط الإيجابي في المجتمع، ومن ثم تتجلى الأسرة كمنظومة متكاملة للعلاقات الإنسانية، تقوم على التكافل والتضامن، وتؤسس لشبكة من الروابط التي تشكّل النسيج الاجتماعي في أبعاده كافة، وفيها يتعلم الفرد أسس العيش المشترك ومبادئ التعاون التي تؤهله لبناء علاقات سليمة ،وهكذا تغدو الأسرة نواة الاجتماع البشري ومنها تتفرع سائر مؤسسات العمران الإنساني، بما يحفظ للمجتمعات تماسكها واستقرارها ويضمن استمرارها عبر الأجيال.

وتعد الأسرة المدرسةَ الأولى التي يتلقى فيها الطفل أبجديات الحياة، ويخطو عبرها خطواته الأولى نحو التكوين الإنساني السليم، ففي أحضانها يتعلم اللغة، وتتشكل ملامح وجدانه، ويستوعب الضوابط الأخلاقية والاجتماعية، ويكتسب القيم والمعايير التي تكون أساس شخصيته وهويته، بما يؤهله ليصبح عضوًا فاعلًا في محيطه، وحين تنجح الأسرة في أداء هذه المهمة الجليلة، يحصد المجتمع ثمارًا يانعة تتمثل في أجيال سوية متوازنة نفسيًا وأخلاقيًا، واعية بحقوقها وواجباتها، قادرة على البناء والإبداع والإسهام في نهضة وطنها واستدامة حضارته.

ويتجاوز دور الأسرة وظيفة التربية اليومية إلى بناء الهوية الشخصية والثقافية للفرد؛ فهي التي تمنحه منذ طفولته شعوره العميق بالانتماء، وتربطه بجذوره التاريخية، وقيمه الدينية، ومعاييره الأخلاقية، ورصيده الحضاري، ومن هذا الرحم تنشأ لدى الإنسان الثقة بنفسه، والاعتزاز بخصوصيته الثقافية، والاستعداد للتفاعل الإيجابي مع الآخر من موقع الهوية الراسخة، وهنا تتجلى خطورة التحديات المعاصرة التي تحاصر الأسرة وتستهدف استقرارها، مثل العولمة الثقافية التي تروج لأنماط عيش وقيم مغايرة، وثقافة الاستهلاك التي تضعف الروابط الداخلية وتحول العلاقات إلى سلع، والاغتراب الاجتماعي الذي يعزل الفرد عن أسرته ومجتمعه، لذا فمن الضروري حماية الأسرة لحفظ وحماية للهوية الوطنية والإنسانية وضمان لاستمرار القيم والثقافة.

وتمثل الأسرة المصرية نموذجًا حيًا للصمود والصلابة في مواجهة التحديات المتلاحقة، فبرغم ما شهدته مصر عبر تاريخها الممتد من أزمات اقتصادية وتحولات اجتماعية وتغيرات سياسية عاصفة، ظلت الأسرة المصرية الركيزة القوية في حفظ الهوية الوطنية وصون القيم الأصيلة، ومن خلال هذا النسيج المتماسك نشأت أجيال متشبعة بروح الوطنية والانتماء، مؤمنة برسالتها التاريخية، قادرة على مواجهة التحديات ومساندة الدولة في مسيرتها التنموية، حاملةً على عاتقها مسؤولية الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره.

وقد تحولت الأسرة المصرية، بما تحمله من تقاليد راسخة وأعراف نابعة من الثقافة الوطنية، إلى مدرسة للوطنية والانتماء، ففي أحضانها يتعلم الأبناء منذ نعومة أظفارهم معاني التضحية والالتزام، ويكتسبون السلوك القويم، ويجدون القدوة الحسنة في الوالدين، وبذلك تصبح الأسرة مصدرًا دائمًا للقوة والصلابة في لحظات الفارقة التي شهدها الوطن، سواء في فترات النضال الوطني أو أثناء مسيرة البناء والتنمية الشاملة، وهذا الدور التاريخي للأسرة المصرية ارتبط بسياسات الدولة وجهودها، وشكل أساسًا لرؤية مصر المعاصرة في بناء الإنسان المصري، فالأسرة تغرس القيم والانتماء، والدولة توفر البيئة الداعمة للتعليم والرعاية الاجتماعية والتمكين الاقتصادي، فيتضافر الجهدان لصياغة أجيال قادرة على الإبداع والعمل بروح جماعية.

وإدراكًا من الدولة المصرية للمكانة التي تحتلها الأسرة في بناء الإنسان ونهضة المجتمع، تبنت الحكومة نهجًا استراتيجيًا يعزز مكانة الأسرة ويحميها من التحديات الاجتماعية والاقتصادية، فقد أولت الدولة اهتمامًا متزايدًا بسياسات الحماية والرعاية الاجتماعية، فأطلقت حزمة من المبادرات والبرامج الوطنية التي تستهدف دعم الأسرة وتمكينها اقتصاديًا واجتماعيًا، مثل برامج تكافل وكرامة، ومبادرات دعم المرأة المعيلة، ومشروعات تطوير البنية التحتية للخدمات الصحية والتعليمية بما يضمن حياة كريمة للأسرة المصرية.

ويمتد هذا الاهتمام من الدعم إلى تعزيز الوعي الأسري والتربوي من خلال وسائل الإعلام الوطنية، وتضمين المناهج الدراسية ما يعزز القيم الأسرية والانتماء الوطني، إلى جانب دعم مراكز الإرشاد الأسري وبرامج التأهيل المجتمعي، بحيث تصبح الأسرة بيئة آمنة وفاعلة في تنشئة أجيال قادرة على مواكبة العصر، متشبثة في الوقت ذاته بهويتها الوطنية وقيمها الحضارية، وبهذه الرؤية المتكاملة تلتقي جهود الدولة مع رسالة الأسرة في صياغة إنسان مصري متوازن، مبدع، ومؤمن بدوره في نهضة وطنه.

وتضع القيادة السياسية المصرية بناء الإنسان في صدارة أولوياتها الوطنية، بوصفه المحور الأهم في استراتيجية مصر 2030، باعتباره الأساس الحقيقي لأي نهضة مستدامة، وتمضي الدولة قدمًا في تطوير منظومات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، لتعزز قدرات الأفراد منذ الطفولة وحتى مرحلة الشباب، وتمكنهم من امتلاك المهارات والمعارف التي تؤهلهم للانخراط الفاعل في سوق العمل بروح الابتكار والمسؤولية.

وتنطلق هذه الرؤية من إيمانٍ عميق بأن الأسرة المصرية هي الحاضنة الأولى للتنشئة والتكوين، والركيزة الأساسية لصياغة شخصية الفرد وبناء وعيه وهويته، وانطلاقًا من هذا الإدراك، تعمل الدولة على دعم الأسرة وتمكينها لتؤدي رسالتها التربوية والاجتماعية على الوجه الأكمل؛ فتطلق البرامج الوطنية لحمايتها ورعايتها، وتوفّر بيئة مواتية للنمو الأخلاقي والمعرفي والصحي لأفرادها.

وهكذا تتكامل جهود الدولة والأسرة في صياغة نموذج وطني شامل للتنمية، يقوم على التمكين الاجتماعي والاقتصادي، وصون الهوية الثقافية والقيم الحضارية، والانفتاح الإيجابي على العالم، وبفضل هذا التكامل يتحقق بناء مجتمعات إنسانية متماسكة، وترسيخ للقيم والهوية، وإعداد أجيالٍ متوازنة وواعية ومبدعة، وواعدة متمسكة بجذورها وتقاليدها، قادرة في الوقت نفسه على المشاركة الفاعلة في صنع المستقبل والمساهمة في النهضة الوطنية والإنسانية.