مَوَازِينُ السَّمَاءِ : حِينَ يَتَكَلَّمُ العَدْلُ وَيَفِيضُ الفَضْلُ

بقلم الشيخ :  أحمد إسماعيل الفشني
من علماء الأزهر الشريف

الحمدُ للهِ القَيُّومِ، الَّذِي قَامَتْ بِعَدْلِهِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَخَضَعَتْ لِحُكْمِهِ الرِّقَابُ، وَجَعَلَ الرُّجْعَى إِلَيْهِ لِيَفْصِلَ بَيْنَ العِبَادِ. وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، صَاحِبِ الشَّفَاعَةِ العُظْمَى يَوْمَ الوُرُودِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَهْلِ التُّقَى وَالجُودِ.

أَيُّهَا السَّادَةُ الكِرَامُ،

إِنَّ النَّفْسَ البَشَرِيَّةَ تَتُوقُ بِفِطْرَتِهَا إِلَى العَدْلِ، وَتَنْفِرُ مِنَ الظُّلْمِ. وَلَكِنَّ عَدْلَ الدُّنْيَا قَدْ يَشُوبُهُ النَّقْصُ، وَقَدْ يُفْلِتُ المُجْرِمُ فِيهَا مِنْ عِقَابِهِ، أَوْ يُبْخَسُ المُحْسِنُ فِيهَا حَقَّهُ. هُنَا، تَأْتِي آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ، لِتَضَعَ النِّقَاطَ عَلَى الحُرُوفِ، وَتُطَمْئِنَ كُلَّ قَلْبٍ بِأَنَّ الحِسَابَ الخِتَامِيَّ بِيَدِ مَنْ لَا يَغْفُلُ وَلَا يَنَامُ.

يَقُولُ رَبُّنَا جَلَّ فِي عُلَاهُ: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ (النَّجْم: 31).

إِنَّهَا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ إِخْبَارٍ، بَلْ هِيَ “قَسَمٌ إِلَهِيٌّ” مَضْمُونُهُ أَنَّ المُلْكَ كُلَّهُ للهِ، وَأَنَّ الغَايَةَ مِنْ هَذَا المُلْكِ هِيَ إِقَامَةُ هَذَا الجَزَاءِ.

أَيُّهَا السَّادَةُ الكِرَامُ: لَطَائِفُ العَدْلِ وَالفَضْلِ

دَعُونَا نَغُوصُ فِي أَعْمَاقِ هَذِهِ الكَلِمَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ لِنَسْتَخْرِجَ دُرَرَهَا:

 * الدِّقَّةُ فِي المُقَابَلَةِ: قَابَلَ اللهُ بَيْنَ “الإِسَاءَةِ” وَ “الإِحْسَانِ”، وَلَمْ يَقُلْ “الَّذِينَ كَفَرُوا” وَ “الَّذِينَ آمَنُوا”، لِيَشْمَلَ الجَزَاءُ كُلَّ عَمَلٍ؛ فَكُلُّ إِسَاءَةٍ لَهَا جَزَاءٌ، وَكُلُّ إِحْسَانٍ لَهُ ثَوَابٌ.

 * عَدْلُ “البَاءِ” فِي (بِمَا عَمِلُوا): هَذِهِ البَاءُ هِيَ بَاءُ “السَّبَبِيَّةِ” وَ “المُقَابَلَةِ”. أَيْ أَنَّ عِقَابَ المُسِيءِ يَكُونُ بِمِقْدَارِ عَمَلِهِ السَّيِّئِ فَقَطْ، لَا ظُلْمَ وَلَا زِيَادَةَ. إِنَّهُ مِيزَانُ الذَّرَّةِ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.

 * فَضْلُ “البَاءِ” فِي (بِالْحُسْنَى): أَمَّا هُنَا، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ. لَمْ يَقُلْ “بِمَا عَمِلُوا” كَمَا قَالَ مَعَ المُسِيءِ، لِأَنَّ عَمَلَ المُحْسِنِ -مَهْمَا عَظُمَ- لَا يُوَازِي نِعَمَ اللهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِذَاتِهِ الجَنَّةَ. إِنَّمَا الجَزَاءُ هُنَا “بِالْحُسْنَى” أَيْ بِالطَّرِيقَةِ الحُسْنَى، وَهِيَ الفَضْلُ وَالزِّيَادَةُ وَالجَنَّةُ الَّتِي فِيهَا مَا لَا عَيْنَ رَأَتْ.

أَيُّهَا السَّادَةُ الكِرَامُ: “الَّذِينَ أَحْسَنُوا”… مَنْ هُمْ؟

الإِحْسَانُ هُنَا لَيْسَ مُجَرَّدَ تَرْكِ المَعَاصِي الظَّاهِرَةِ، بَلْ هُوَ مَقَامٌ رَفِيعٌ، وَصَفَهُ الحَقُّ فِي الآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا مُبَاشَرَةً: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ (النَّجْم: 32).

إِنَّهُمْ بَشَرٌ يُخْطِئُونَ، قَدْ يَقَعُونَ فِي “اللَّمَمِ” (الصَّغَائِرِ)، لَكِنَّهُمْ لَا يُصِرُّونَ عَلَيْهَا، وَسُرْعَانَ مَا يَعُودُونَ إِلَى رِحَابِ “وَاسِعِ المَغْفِرَةِ”. إِحْسَانُهُمْ لَيْسَ عِصْمَةً، بَلْ هُوَ “تَوْبَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ” وَمُرَاقَبَةٌ دَائِمَةٌ للهِ.

لَقَدْ بَكَى سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ زَوْجَتِهِ، فَبَكَتْ لِبُكَائِهِ. فَقَالَ لَهَا: “مَا يُبْكِيكِ؟” قَالَتْ: “رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ”. قَالَ: “إِنِّي ذَكَرْتُ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾، فَلَا أَدْرِي أَأَنْجُو مِنْهَا أَمْ لَا؟!”.

هَذَا هُوَ حَالُ المُحْسِنِينَ؛ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ رَغْمَ إِحْسَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ جَلَالَ مَنْ يُعَامِلُونَ.

خَاتِمَةٌ: بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجَاءِ

إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ، يَا سَادَةُ، تَجْعَلُ المُؤْمِنَ يَطِيرُ إِلَى اللهِ بِجَنَاحَيْنِ:

جَنَاحُ “الخَوْفِ” مِنْ عَدْلِهِ إِنْ أَسَاءَ، فَيَرْتَدِعُ عَنِ الظُّلْمِ وَالمَعْصِيَةِ.

وَجَنَاحُ “الرَّجَاءِ” فِي فَضْلِهِ إِنْ أَحْسَنَ، فَيَنْشَطُ لِلطَّاعَةِ وَيَسْتَبْشِرُ بِالخَيْرِ.

فَلْنُحَاسِبْ أَنْفُسَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ نَقِفَ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلْنَسْأَلْهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ الحُسْنَى.

وَبِاللهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.