لا أحد يناديك من أجل مصلحتك إلا الأذان


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي

إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

في عالمٍ امتلأ بالضوضاء، وتزاحمت فيه الأصوات ما بين نداء الشهوات وصخب المصالح ومغريات المادة، يبقى صوت الأذان هو النداء الوحيد الذي لا يطلب منك شيئًا، بل يعطيك كل شيء. نداء لا يريد منك مالًا ولا جاها، ولا يسعى إلى منفعة شخصية أو هدف دنيوي، إنه النداء الخالص لله، الذي يدعوك إلى السكينة، إلى الطهارة، إلى السلام الداخلي، إلى بابٍ لا يُغلق أبدًا.

حين يُرفع الأذان، تشعر أن الدنيا تتوقف لحظة، كأن السماء تفتح نوافذها، والملائكة تصغي، والقلوب الصادقة ترتجف بخشوع. هو نداء متكرر، لكنه لا يُمل، لأنه يذكّرك كل يوم أنك عبد لله، وأنك مهما ابتعدت، هناك صوت يناديك برفقٍ وحب: “حيّ على الصلاة… حيّ على الفلاح”.

كم من أصوات نسمعها في حياتنا تدعونا إلى طريقٍ ما، لكن أغلبها يحمل في طياته مصلحة لصاحبها. هذا يريد رضاك، وذاك يسعى لمكانة، وآخر يناديك لأنك وسيلة. وحده الأذان لا يريد منك إلا أن تُقبل على ربك، لا مصلحة له في حضورك، ولا غاية إلا صلاحك، إنه نداء الرحمة الذي يسعى لإنقاذك من ضجيج الدنيا إلى هدوء الآخرة، من صخب الأسواق إلى نور المساجد، من لهو الحياة إلى عمق العبادة.

تأمل الكلمات التي تملأ الفضاء خمس مرات كل يوم:
“الله أكبر” … إنها إعلان أن كل شيء دون الله صغير، وأن كل ما يشغلك عن الصلاة لا يستحق أن يؤخرك عن خالقك.
“أشهد أن لا إله إلا الله” … شهادة تتجدد في اليوم خمس مرات لتذكّرك بالميثاق الأول، يوم قال الله: ﴿ألست بربكم قالوا بلى﴾.
“أشهد أن محمدًا رسول الله” … إقرارٌ بأن الهداية جاءت إليك كاملة، وأن من تدعوه ليس مجهولًا، بل هو نبي الرحمة الذي علّمك طريق الفلاح.
ثم تأتي الدعوة الأجمل: “حي على الصلاة” … أي أقبل، أقبل إلى الطمأنينة، إلى الراحة، إلى مناجاة من لا يمل سماعك.
و”حي على الفلاح” … نداء النجاح الحقيقي، لا نجاح المال ولا الجاه، بل نجاح القلب في الوصول إلى ربه.

تلك الكلمات ليست مجرد أصواتٍ في الهواء، إنها إشارات سماوية تُرسل إلى أرواحنا المرهقة. فكم من قلبٍ مكسور وجد في الأذان شفاءه! وكم من ضالٍ عاد إلى رشده حين سمعه! وكم من غافلٍ بكى عند سماعه بعد طول غياب!

الأذان لا يختار وقتًا مناسبًا لك، بل يوقظك في لحظات انشغالك لتتذكر ما خُلقت لأجله. لا يجامل، ولا يساوم، ولا يتأخر. إنه صوت الحق، يدعوك في الصباح حين تشرق الشمس على يومٍ جديد، وفي الظهر حين تشتد الحياة، وفي العصر حين يهدأ النشاط، وفي المغرب حين تنحني الشمس مودعة، وفي العشاء حين يغمر السكون الأفق.
خمس رسائل يومية من السماء، تذكّرك أنك ما زلت على قيد الإيمان، وما زال باب العودة مفتوحًا.

الأذان ليس صوتًا فقط، بل هو وعد. وعد بأن كل خطوة نحو المسجد تُكتب لك حسنة، وأن كل انتظارٍ للصلاة عبادة، وأن كل دمعة تذرفها في السجود تُرفع بها درجاتك.
حين تسمع الأذان، تذكّر أن هذا الصوت سيتوقف يومًا ما عن الوصول إلى أذنيك، وأن المآذن ستبقى ترفع النداء لغيرك، بينما أنت تنام تحت التراب. فهل لبّيت النداء وأنت حي، قبل أن يُرفع الأذان على قبرك فلا تقدر أن تجيب؟

إنها لحظة صدقٍ مع النفس:
من الذي يناديك في حياتك حقًا؟
ومن الذي يريد نجاتك دون مقابل؟
ومن الذي يدعوك إلى السعادة الخالدة بلا مصلحة؟
لن تجد إلا الأذان.

ذلك الصوت الذي يبدأ بـ”الله أكبر” وينتهي بـ”لا إله إلا الله” هو خريطة حياتك كلها. بدايتها بالتكبير، أي أن تجعل الله أكبر من كل شيء، ونهايتها بالتوحيد، أي أن لا ترى في الكون إلا وجهه سبحانه.

فإذا أذن المؤذن فاعلم أن الله يدعوك بنفسه، كما قال النبي ﷺ:

> “إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين”
لأن الشيطان يعلم أن من استجاب للأذان قد خرج من قبضته.

فيا من تتثاقل عن الصلاة، اعلم أن الذي يناديك لا يريد إلا مصلحتك. لا يطلب منك مالًا، ولا يشغلك عن دنياك إلا ليطهّرك منها لحظات، لتعود إليها بقلبٍ أنقى.

ويا من تسمع الأذان ولا تجيب، تذكّر أن هناك من يسمعه في بلادٍ لا يُرفع فيها الأذان إلا سرًا، فيبكي شوقًا لصوتٍ تسمعه أنت ولا تتحرك له.

اجعل الأذان نداءك الدائم، فكلما سمعت “حي على الصلاة”، قل في نفسك: لبّيك يا رب، لبّيك يا من تناديني من أجل مصلحتي، لبّيك يا من تدعوني لتغفر لي.

إن الأذان ليس مجرد مقدمة للصلاة، بل هو بداية حياة.
هو بوابة النور التي تفتح كل يوم، وخطاب السماء للأرض، ورسالة المحبة الإلهية التي لا تنقطع.

فليكن جوابك لهذا النداء العظيم: “اللهم اجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعل قلوبنا تحيا مع كل أذان، ولا تحرمنا لذة القيام بين يديك يوم ينادي المنادي من مكان قريب”.

لأن لا أحد يناديك من أجل مصلحتك… إلا الأذان.