شيخ نجد (محمد بن عبد الوهاب)

المقال الاول من سلسلة رواية (قرن الشيطان)

للكاتب : محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي

فى هذه السلسلة من المقالات والتى نعرض فيها الى مصنفٍ بكر وهى رواية (قرن الشيطان) وهى اقرب ما تكون الى التحليل النفسى والوجدانى لشخصٍ هو من اكثر الاشخاص اثارة للجدل فى التاريخ الاسلامى ، وهو شيخ نجد “محمد بن عبد الوهاب” الذى رفعه انصاره الى مراتب الرسل والنبيين بل الى اسمى منها ، فلقد تعاملوا مع النصوص التى اثرت عنه كانها الوحى الالهى الذى لا يقبل نقداً ولا رداً ، فى حين انهم تناولوا الحديث الشريف بالفحص والتمحيص الذى لم يألفه علماء القرون الاولى فقد ردوا كثيرا من الاسانيد ومتون الحديث مما قبله اكابر علماء المسلمين كالبخارى ومسلم واصحاب الكتب الستة والسنن والمسانيد ، حتى انهم وصلوا بالتقديس لشخص محمد بن عبد الوهاب حداً قارب التأليه ففى حين انهم يحظرون ان تسيد النبى صلى الله عليه وسلم او ان تقرأ بردة البوصيرى مثلاً لانطوائها على تعظيم للنبى صلى الله عليه وسلم تعظيماً يخرجه عن البشرية ويرفعه الى فوق ذلك من مصاف الالوهية فى ظنهم ، ومع ذلك فهم يصفون محمد بن عبد الوهاب وشيخه الروحى احمد ابن تيمية بكل اشكال المحامد والثناء والاطراء مما لم يقبلوه على النبى صلى الله عليه وسلم.

ان هذه الرواية كنز ثمين فلقد نفذ فيها الكاتب من وجهة نظره الى اعمق نقطة فى نفس محمد بن عبد الوهاب ، وخاطب مكنون عقله الباطن ومكامن سره ، أثار عليه اسئلة وجودية ونقاشات فلسفية ومراجعات لمواقف سطرها فى كتبه وحمله عنه تلامذته وانصاره كانت سبباً فيما نعيشه الآن مما ترى بأم عينك.

لقد كتب كاتبنا الفذ هذه الرواية مؤثراً حسن الظن فى الشخصية وانها لم ترد الا الاصلاح وان كان ذلك الاصلاح قد خالطه شيئاً من الطيش وبعضاً من أمراض القلوب مثل العجب والأثرة مما يغفله انصار هذا المذهب بل لا يعترفون به بل وانهم يتهمون من يقول بوجود امراض القلوب وضرورة تزكيتها بالبدعة والاحداث.

لقد تجنب الكاتب ما اثير حول شخصية شيخ نجد من اتهامات بالعمالة للبريطانيين واعنى فى ذلك من جاء فى مذكرات الجاسوس البريطانى مستر همفرى ، فان ذلك لا يخدم سياق الرواية الشيق والتى جاءت كسلسلة حلقاتها من ذهب وفضة وجوهر مؤثراً ان تتم بشكلها المهيب الذى سيتوالى سرده على شكل مقالات تتشرف به مجلتنا فى نشره.

وفى الختام ، وكعادة الكاتب النبهان ـ وحقاً ان لكل نصيب من اسمه ـ فقد كتب تلك الرواية بقدر عظيم من الشجاعة والاقدام ، غير مبالٍ بأولئك الذين يحجرون على الرأى ويوجهون سهام النقد والتجريح لكل من انتقدهم او حتى خالفهم الرأى ، بل ويجعلون ممن انتقدهم غرضاً يتناولونه بألسنة حدادٍ لا تخلو من الطعن فى دينه وايمانه وكأنهم أرباباً وكًّلهم الله فى أخص أمره وهو المحاسبة على الايمان والاخلاص والمجازة عليهما فى حين انهما سرٌ بين العبد وربه.

وبعد هذه التوطئة نترككم مع كاتبنا الفذ وهو يعقب على روايته ويضع النقاط على الحروف لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد:

ليست هذه الرواية وثيقة، ولا بيانًا سياسيًا، ولا مرجعًا عقائديًا.

هي – ببساطة – محاولة للكتابة عن الإنسان حين يلبس عباءة الفكرة، فتأكله، ويمضي لا هو بقي، ولا هي بقيت كما كانت.

هي رواية عن السؤال حين يتحوّل إلى سيف، وعن الحلم حين يتضخم حتى يُفقِد الحالم ذاته.

حين بدأت هذه الرواية، لم أكن أبحث عن إدانة، ولا عن تبرئة.

كنت أبحث عن الإنسان.

عن محمد بن عبدالوهاب كما يمكن أن يكون، لا كما قُدّم إلينا.

عن الرجل الذي اجتهد فأخطأ، أو اجتهد فأصاب، أو اجتهد وترك النار تحرق من خلفه بلا مراجعة.

عن من قيل فيه ما لم يقله، وفُعِل باسمه ما لم يأذن به، ثم صمت، أو مات، أو طُمر اسمه تحت تراب السياسة.

ما كتبتُه هنا ليس دفاعًا عن أحد، ولا طعنًا في أحد.

بل محاولةٌ لأن نستعيد حقّنا في أن نسأل:

من هذا الذي نردده في مناهجنا وخطبنا وفتاوينا دون أن نقرأه حقًا؟

من هذا الذي سُمي “شيخ الإسلام”، ومُنع نقده، حتى غدا مقدّسًا أكثر من النبي عند بعضهم؟

من هذا الذي بدأ من بُرَيدة، ومات في الحمام، بعد أن صارت دعوته إمبراطورية عقائدية فوق خريطة الخليج، وحولها أنهار من الدماء؟

إن أخطر ما يمكن أن يحدث لأمة، أن تُقدّس رجلًا ثم تُشيطن الآخرين باسمه.

أن تكتب التاريخ برصاصة، وتكفّر الحاضر بحبر ماضٍ لا يُمحى.

وفي كل سطر من هذه الرواية، كنت أحاول أن أكتب لا عن “الوهابية” بوصفها مذهبًا فقط، بل كحالة ذهنية، ونفسية، وروحية.

عن فكرة أُطلقت من قمقم التوحيد لتعيد تشكيل العالم، ثم لم يسأل أحد: إلى أين نمضي؟

عن فتوى تهدم قبرًا اليوم، وتُبيد مدينة غدًا.

عن طهارة تذبح باسمها فتاة، ونقاء عقيدة يجزّ رقبة طفل لأنه تبسّم عند مزار.

وما أخطر الدعوة حين تفقد قلبها.

وما أقسى التوحيد حين يُنسى فيه الإنسان.

لقد أردتُ من هذه الرواية أن أضع القارئ لا في موقع الخصم أو المؤيد، بل في موقع الناظر إلى المأساة من أعلى،

ليراها بوصفها تراكمًا من اختيارات البشر، لا وحيًا سماويًا نزل بقطعياته.

ليدرك أن لا أحد، مهما كان، فوق النقد، وأن أكثر المقولات فتكًا، هي التي تُزيَّن بثوب “السنة”، بينما لا أصل لها في جوهر الدين.

إن محمد بن عبدالوهاب، الذي مات في الحمامات، كما ورد عن أكثر من رواية، لم يكن نبيًا، ولا رسولًا، ولا قديسًا.

بل كان رجلًا من لحم ودم، له ما له، وعليه ما عليه.

ربما أراد الخير، لكنه لم يضبط خطواته.

وربما نوى الإصلاح، لكن سياطه سبقت نياته.

وربما آمن بالله، لكنه كفر بالبشر.

ولعله – لو عاد – لبكى على ما فعله من بعده ورثة الظن، الذين حوّلوه من مفكر إلى صنم، ومن مصلح إلى سيف، ومن داعية إلى نذير شؤم.

ولعلّه – لو رأى النار التي أُشعلت باسمه – لقال:

“اللهم إني بريءٌ من هؤلاء، كما كان المسيح بريئًا ممن قتلوا باسمه.”

لا تموت الأفكار السيئة بموت أصحابها،

لكننا حين نُعيد قراءتها بشجاعة، نكسر دورتها.

ولا تتطهّر الدعوات بالصراخ،

بل بالمراجعة، بالاعتراف، بالندم، وبالإنصاف.

ولا ينهض مجتمعٌ خائفٌ من سؤال الحقيقة.

ولا تزدهر حضارة تخشى أن تقول: “أخطأنا.”

لهذا كتبت.

ولذلك صمتُّ حين كان يجب أن أصرخ، وصرختُ حين كان الصمت عبودية.

لا لأجل محمد بن عبدالوهاب،

ولا لأجل خصومه،

بل لأجل الإنسان،

ذلك الكائن الذي يصنع الإلهة، ثم يُسحق باسمها.

فإذا كنتَ قد قرأت هذه الرواية حتى نهايتها،

فاعلم أن ما تراه فيها ليس سيرة شخص،

بل مرآة لأمةٍ،

تحتاج أن تنظر إلى نفسها في الضوء، لا في الظل.

“وما كانت الحكايات تُروى عبثًا، بل لتَفضحَ ما خبّأه التاريخ خلف عباءته، وتُنصِف أولئك الذين ابتلعتهم الرمال دون أن يُدوِّن أسماءَهم أحد.”

ونترككم ايها السادة القراء مع اجزاء هذه الرواية وفصولها:

مقدمة الرواية:

حين يكتب التاريخُ نفسَه، يتزيّا بما تيسّر من ثياب المنتصرين؛ يُخفي عِظامَ المذبوحين تحت بساط الرواية الرسمية، ويخيطُ الوقائع بخيوطٍ من نار وماء، يجمّل بعضَها، ويطمس بعضَها، ويترك الباقي نهبًا للشك والخيال.

ولكن حين نكتب نحن التاريخ، لا نُسلم رقابَنا للسكين، بل نُمسكُ بالنصل ذاته، ونشقُّ ذاكرة الرمل لنعثر على بذور الحقيقة تحت أنقاض التقديس.

هذه الرواية ليست اختلاقًا، ولا خيالًا محضًا، ولا تحاملًا يُمليه الغضب. إنها محاولة جادة لالتقاط رائحة الحقيقة، تلك التي هربت من كتب الفقه، وارتجفت في بطون السير، وتلعثمت بين رُكام الأدلّة.

أكتبُها لا لأجل النقاش، بل لأجل الضمير الذي لم تعد تُقنعه الروايات المنقوصة، ولا المرويات المحنَّطة في قوالب التبجيل.

في قلب الجزيرة، حيث الصحراء تُنصت، والقبائل تتناسل من لهب الغزو، ولدَ رجلٌ سيُعرف لاحقًا بأنه مؤسس “حركة”، ولكن الحقيقة أنه كان رافع قرنٍ، ليس ككل القرون، بل كما وصفه النبي العربي في نبوءةٍ أرهقها التأويل: “من نجد يطلع قرن الشيطان.”

فمن هو  محمد بن عبدالوهاب؟

أهو مصلح سلفي أحيا السنّة كما يزعم أتباعه؟

أم هو نبيُّ نارٍ، شقّ التوحيد سيفًا، واختزل الدين في السمع والطاعة، وأشعل العنف في قداسة التكفير؟

وهل كانت الوهابية حركة دينية محضة؟ أم أداةً سياسية في يد آل سعود، للتمكين والتوسّع تحت راية التوحيد وسيوف الإبادة؟

ما الذي جرى في قلب نجد؟

كيف بُنيت إمبراطورية الدم تحت أقدام الحنابلة؟

كيف استحالت الدعوة إلى دولة؟

وكيف تواطأ الخارج مع الداخل في صياغة شرق أوسطٍ جديدٍ، كان “قرن الشيطان” فيه أحد أسنّة الطعن الكبرى في خاصرة الأمة؟

هذه الرواية ليست وثيقة اتهام، لكنها أيضًا لا ترتدي قفازات الاعتذار.

إنها سيرة وُلدت من رحم الشك، ورضعت من صدر التاريخ، وتعلمت أن تنبش، لا أن تسلِّم.

سأروي لكم القصة كما جرت، لا كما تمنّت السلطة أن تُروى.

سأحكي لكم عن “الرجل”، و”العقيدة”، و”التحالف”، و”السيف”، و”الرمال التي شربت دماء الألوف تحت راية التوحيد”.

قرن الشيطان ليست مجرد رواية… إنها نداء يقظة، ومواجهة مع ذاكرةٍ أُريد لها أن تصمت.

وإن كانت الحقيقة تقتل، فأكرم بها من رصاصة.