خطبة بعنوان ( ذم الإسلام للتعصب ) للدكتور محمد جاد قحيف
7 ديسمبر، 2025
خطب منبرية

خطبة بعنوان ( ذم الإسلام للتعصب )
للدكتور :محمد جاد قحيف
الحمد لله المعبود الأسمى ، العلي الأعلى، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، سيد ولد آدم يوم القيامة، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وتركنا على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعهم وسار على طريقهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا..
ابتلينا بداء خطير وشر مستطير لو ترك بلا علاج تسبب فى كثير من المشكلات والتشاحن وقطع الروابط بين أبناء البلد الواحد والوطن الواحد بل وأبناء العائلة الوحدة ، وإن شئت قلت دمر الأخطر واليابس ، إلا هو داء التعصب..
والتعصب لغة : من العصبية، وتعني نصرة الأقارب (العصبة) والتحزب معهم ظالمين كانوا أم مظلومين، والتعصب هو الدفاع عنهم وتأييدهم..
اصطلاحاً:
شعور داخلي: يرى المتعصب نفسه دائماً على حق ويرى الآخر على باطل بلا برهان..
ومن هنا فالتعصب هو التمسك الشديد والعمياء برأي أو فكرة أو انتماء (ديني، مذهبي، قومي، فكري) ورفض أي آراء مخالفة بشكل قاطع، مع الدفاع عنها بحماس مفرط دون دليل منطقي، وغالباً ما يصاحبه حكم مسبق وظلم للآخرين، وهو عكس التسامح والاعتدال ويؤدي إلى الفرقة والعداوة، ويُعرف أيضاً بأنه “مضاعفة الجهد عند نسيان الهدف”..
كما يعني الدفاع عن فكرة بطريقة عاطفية تتجاوز الحدود، مع عدم التسامح مع المعارضين..
العنصر الأول : التعصب مذموم في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة..
علّمنا ديننا الحنيف، الذي هو أساس الأخلاق والفضائل، أن التعصب مذموم في كل صوره، فالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يدعوان إلى الوحدة والتآلف، ونبذ الفرقة والاختلاف. قال تعالى: {وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} [آل عمران: ١٠٣] . فكيف يتسنى لنا أن ندّعي الانتماء إلى دين يدعو إلى الاعتصام بحبل الله جميعًا، ثم نقع في مستنقع التعصب المذهبي، أو الطائفي، أو حتى الكروي، الذي يفرّق بين الأشقاء ويوقع العداوة والبغضاء؟…
وفي سبب نزول الآية أخرج الشيخان من حديث جابر بْنَ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، (أي ضربه ورفسه برجله من قفاه)، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟”، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: “دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ”(صحيح البخاري 4622)..
والكسْع: ضرب الدبر باليد أو بالرجل..
قال القرطبي: “منتنة: أي: مستخبَثة، قبيحة؛ لأنَّها تثير الغَضب على غير الحق، والتقاتُل على الباطل، ثم إنها تجرُّ إلى النار، كما قال: “مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ”(المفهم: 9/ 326)..
قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: “وَأَمَّا تَسْمِيَته -صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ كَرَاهَة مِنْهُ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ التَّعَاضُد بِالْقَبَائِلِ فِي أُمُور الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا، وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَأْخُذ حُقُوقهَا بِالْعَصَبَاتِ وَالْقَبَائِل، فَجَاءَ الْإِسْلَام بِإِبْطَالِ ذَلِكَ، وَفَصَلَ الْقَضَايَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة. فَإِذَا اِعْتَدَى إِنْسَان عَلَى آخَر حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنهمَا، وَأَلْزَمَهُ مُقْتَضَى عِدْوَانه كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام أه”..
لقد كَانَتْ الْأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَوَقَدْ فَعَلُوا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ رواه البخاري (4907) ومسلم (2584) وتأملوا كيف استغل أعداء هذا الدين هذا الموقف العارض لتفريق الأمة وتحزيب بعضها على بعض.
فقد روى مسلمٌ في صحيحِه من حديث عن أبي هُريْرَةَ -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ»(صحيح مسلم 1848)، العصبيةُ هو الذي يغضب لعَصَبَتِه، ويُحامِي عنهم..
ولنعلم أنه لم يأت التعصب بلفظه ومعناه في الكتاب والسنة إلا على وجه الذم، وأنه ضربٌ من الطبائع الجاهلية، التي لا تستوي ومكارم الإسلام ومصالحه، فقد قال الله -جل شأنه-: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)[الْفَتْحِ: 26]، وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله -عز وجل- قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية وفخرَها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكُونُنَّ أهونَ على الله من الجعلان، التي تدفع بأنفها النتن” (رواه أبو داود).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ الافْتِخَارُ بِالْقَبَائِلِ وَبِأَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَذَمِّ أَنْسَابِ النَّاسِ وَاحْتِقَارِ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِقَبِيلَتِهِ، فَتِلْكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَتِلْكَ هِيَ الْمُنْتِنَةُ الْأَثِيمَةُ، وَمِنْ أَشَدِّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمَ”، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهُ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: “وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ؛ فَادُعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ بِمَا سَمَّاهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-“(أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِي).
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ : الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ”.
وقَوْلُهُ: “الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ” وَالْقَبِيلَةِ وَالتَّعَاظُمِ بِذِكْرِ مَنَاقِبِ الآبَاءِ وَمَآثِرِهِمْ، عَلَى وَجْهِ الْمُفَاخَرَةِ وَالتَّعَاظُمِ وَالرِّفْعَةِ عَلَى الآخَرِينَ، وَذِلَكَ جَهْلٌ عَظِيمٌ؛ إِذْ لا شَرَفَ إِلَّا بِالتَّقْوَى كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)[سبأ:37]، وَقَوْلُهُ: “الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ”، أَيِ الْوُقُوعِ فِيهَا بِالذَّمِّ وَالْعَيْبِ أَوْ يَقْدَحُ فِي نَسَبِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ قَبِيلَتِهِ أَوْ جِنْسِيَّتِهِ أَوْ لَوْنِهِ. وَسَبَبُ التَّفَاخُرِ أَنَّ الطَّعْنَ هُوُ سُوءُ التَّرْبِيَةِ وَنَقْصِ التَّوْحِيدِ فِي الْقَلْبِ وَضَعْفِ جَانِبِ الْأُخُوَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ، لِأَنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإيمَانِ الْحُبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ…
وقد سار على نهج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- صحابتُه من بعده والتابعون لهم بإحسان، وقد استفاض عن الأئمة الأربعة؛ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، مع اختلاف في فروع الفقه ، أن كل واحد منهم لم يتعصَّب لرأيه، وأنه يتبرأ من الخطأ المخالِف للكتاب والسُّنَّة، ويضع قاعدة عامة يفهمها الحاضر لهم واللاحق، أنه إذا صح الحديث فهو مذهبه، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه لله-: “فمن تعصَّب لأهل بلدته أو مذهبه أو قرابته أو لأصدقائه دون غيرهم كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله -تعالى- معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن كتابهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وربهم إله واحد، لا إله إله هو، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون”، وقال أيضا: “كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن مِنْ نَسَبٍ أو بلدٍ أو جنسٍ أو مذهبٍ أو طريقةٍ فهو عزاء الجاهلية”..
وقال ابن القيم -رحمه الله-: “الدعاء بدعوى الجاهلية؛ كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب، والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بعض يدعو إلى ذلك، ويوالي عليه، ويعادي، فكل هذا من دعوى الجاهلية” ..
العنصر الثاني : التعصب لون من ألوان الكبر المذموم..
العصبِيَّةُ القبلية والحميَّةُ ٱلْجَاهِلِيَّة: قد تُوقِعُ العَبدَ فِي الكبر المذموم؛ وهذا يتنافى مع التواضع المأمور به شرعًا. ففي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ.)) فمن كان متواضعًا: فإنه لا يبغي على أحدٍ، وأنه لا يفخر على أحدٍ..
العصبِيَّةُ القبلية: قد توقع المرء في ظلم العباد ومنع الحقوق وبخس الناس أشياءهم ورد الحق والانتصار للباطل.
•ألم يمتنع إبليس من السجود لآدم بسبب نظرته لأصله الناري؟! فكيف يسجد للأصل الطيني؟! قال تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، وقال تعالى: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]..
وصدق من قال:
الناسُ مِن جِهَةِ التِمثالِ اَكفاءُ
أَبوهُمُ آدَمُ وَالأُمُ حَوّاءُ
نَفسٌ كَنَفسٍ وَأَرواحٌ مُشاكَلَةٌ
وَأَعظُمٍ خُلِقَت فيها وَأَعضاءُ
وَإِنَّما أُمَّهاتُ الناسِ أَوعِيَةٌ
مُستَودِعاتٌ وَلِلأَحسابِ آباءُ
فَإِن يَكُن لَهُمُ مِن أَصلِهِم شَرَفٌ فالطين والماء..
•وتأمل: كيف حالت العصبية القبلية، بين أبي طالب ونعمة الهداية للإسلام؛ فمات على دين الآباء والأجداد..
اعلموا -يا رعاكم الله- أنه ما مِنْ متعصِّب إلا كان رائده الهوى، والهوى يعمي ويصم، وما رئي متعصب قط عُرِفَ بالعدل والإنصاف، ولا متعصب متحلٍّ بالحلم والأناة، ولا متعصب وسطي، إنما المتعصب إمَّعة مقلِّد، عاصب عينيه خلف هواه، ومن هو معجَب به، وهو -دون ريب- داء مُعدٍ، ونتاج عَدْوَاهُ إصابةُ المتعصب بالاضطراب تجاه الصواب، فيرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه، ويعيب على غيره ما هو واقع في أسوأ منه، إنه ما من امرئ إلا ولديه نقص من وجه، مهما بلغ في علمه وجاهه، ونَسَبِه ومذهبه، وكثيرون ممَّن يتجاهلون نقصَهم يجعلون دونَه ستارَ التعصب، ليُخفُوا من ورائه ما لا يريدون محلَّه إلا الكمال الزائف..
قال تعالى : {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [سورة الفرقان: 43]..
ولنتذكر أن الحب والولاء هو في الله فقط وليس معنى حديثي السابق أن لايعرف الشخص نسبه ولايبحث عن ذلك أو أن لايحب الشخص بلده وأهله وقبيلته فهذا من الحب الفطري الذي لايملكه الشخص إنما النهي عن الموالاة والمعادة والتقديم والتأخير على أساس عنصري فليفرق بين الأمري
والمتعصب عنصري والعنصرية لاتصدر إلا من شخص متكبر والكبر كبيرة من كبائر الذنوب كما دلت على ذلك النصوص الشرعية..
•وقد روي في بعض كتب التاريخ: أنه في سنة (ست عشرة للهجرة)، قدم جبلة بن الأيهم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتلقاه جماعة من المسلمين، ودخل في زي حسن، وبين يديه جنائب مقادة، ولبس أصحابه الديباج، ثم خرج عمر إِلى الحج في هذه السنة فحج جبلة معه، فبينما جبلة طائفًا إِذ وطئ رجل من فزارة على إِزاره، فلطمه جبلة فهشم أنفه، فأقبل الفزاري إِلى عمر وشكاه، فأحضره عمر، وقال: افتد نفسك وإلا أمرته أن يلطمك، فقال جبلة: كيف ذلك وأنا ملك وهو سوقة، فقال عمر: إِن الإسلام جمعكما وسوَّى بين الملك والسوقة في الحد. فقال جبلة: كنت أظن أني بالإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال عمر: دع عنك هذا. فقال جبلة أتنصر. فقال عمر: إِن تنصرت ضربت عنقك. فقال أنظرني ليلتي هذه، فأنظره، فلما جاء الليل سار جبلة بخيله ورجاله إِلى الشام، ثم صار إِلى القسطنطينية، وتبعه خمس مائة رجل من قومه، فتنصروا عن آخرهم، وفرح هرقل بهم وأكرمهم، ثم ندم جبلة على فعله ذلك وأنشد نادمًا:
تَنَصَّرتْ الأشْرافُ مِن عَارِ لَطْمةٍ * ومَا كَان فِيها لَو صَبَرْتُ لَهَا ضَرَرْ.
تكنَّفني فيها اللجاجُ ونَخْوةٌ * وبِعْتُ بها العَينَ الصَّحِيحةَ بالعَوَرْ.
فَيَا لَيْت أُمِّي لَم تَلِدْنِي ولَيْتَني * رَجَعْتُ إلى القَول الذي قَالَه عُمرْ.
ويَا لَيْتَنِي أرْعَى الْمَخَاض بِقَفْرةٍ * وكُنْتُ أسَيرًا في رَبِيعَة أوْ مُضَرْ.
ويَا لَيْتَ لي بالشَّام أدْنَى مَعْيِشةٍ * أجْلِس قَومِي ذَاهِب السَّمْع والبَصَر.
أدِين بِمَا دَانُوا بِه مِن شَرِيعة * وقَد يَصْبِر العَوْد الكَبِير عَلى الدَّبَر..
العنصر الثالث : خطورة التعصب..
وبعد هذا البلاغ المبين نجد من يصنف المسلمين على حسب ألوانهم وقبائلهم وبلدانهم. وأهل البلد الواحد يسخر بعضهم من بعض ويفخر بعضهم على بعض فيفتخر ساكن المدينة على ساكن الريف والبادية وساكن الريف والبادية يسخر من ساكن المدينة وسكان المدن يفخر بعضهم على بعض والأبيض يزدري الأسود والأسود يزدري الأبيض وسكان البادية يفتخر بعضهم على بعض بأنسابهم وتجد القريتين المتجاورتين يفتخر بعضهم على بعض بلون أو نسب أو غير ذلك من أمور الجاهلية التي أبطلها الإسلام فاختل الميزان فأصبح عند البعض ميزان جاهلي فيحب ويوالي ويقدم ويؤخر لاعتبارات جاهلية أبطلها الإسلام من قرون.
عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ” رواه البخاري (30) ومسلم (1661) وتأملوا حال أبي ذر فقد أخطأ فهو كسائر البشر عرضة للزلل لكن لم وجهه النبي صلى الله عليه وسلم التزم الأمر ونبذ العنصرية..
فيا لله ما أقبح العصبية، وما أكثر ضحاياها، فكم من قتيل هلك تحت راية عبية، وكم من أسرة تفرَّقَت بسببها، وكم من مفارِق للجماعة احترق بنارها، وإذا كان في لقاء المتحاربين قاتِل ومقتول فإن المتعصبينِ المتقابلينِ كلاهما مقتول؛ نعم، كلاهما مقتول بسلاح التعصب المميت، والحق أن العقل الواسع لا يقابل التعصب الضيق، ولا غرو -عباد الله- فالعقل الواسع لا ينحني أمام ريح التعصب ولا يقع في خياله ..
إن من ملهيات الناس من قديم الزمن التعصب؛ سواء للعرق أو للون، أو للجنس، ونحوِها، وقامت حروب طاحنة على أساس التعصب المقيت، ولهذا جاء الإسلام محذرا من التعصب أيا كان، مبينا أن الناس كلهم من التراب؛ فلم التعصب؟
قال جل ذكره: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات:13]، وقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]، وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ)[آلعمران:103].
فهذه التعصبات تصد عن الدين، وتذيب الأخوة الإسلامية، حتى حذر منها النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد التحذير وذلك فيما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله البجلي قال -صلى الله عليه وسلم-: “من قتل تحت راية عِمِّية يدعو عصبيةً أو ينصر عصبية فقِتلة جاهلية”..
وحاصلُ الأمرِ عبادَ اللهِ: أن التعصب باب شر على العباد، وإذا فُتِحَ تعسر إغلاقه، وهو مذموم غير محمود، وإن كان المرء لا بد فاعلا فليكن تعصُّبُه لمكارم الأخلاق وجميل الخصال، والعَضّ عليها بالنواجذ، فذلكم -لَعَمْرُ اللهِ- التعصب الذي لا يُذَمّ، والتمسك الذي يُغبَطُ عليه صاحِبُه، والله المستعان، وهو الهادي إلى سواء السبيل..
العنصر الرابع : التعصب الرياضي
أصبح التعصب الرياضي أو الانتخابي حديث المجالس ، وبسببه يعادون ويوالون، ، فتجد المرء يجعل ناديه الذي يشجعه خَطًّا فاصلاً بين أصدقائه وأعدائه، بغض النظر عن ملته ومذهبه، ولربما وقع صدام وقتال من أجل ذلك، وكم أنفقت فيه من أموال؟!؛ فيا عجبي كيف جعلت الوسيلة غاية يقتتل عليها ومن دونها، تجد الرجل فتهابه من شكله وهندامه، وما إن يتكلم في الرياضة إلا وتسقط قيمته من عينك..
والرياضة المنضبطة بأخلاق الشرع أجازها الإسلام؛ فقد سابق النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الصحابة بالأرجل وبالخيول والجمال وبالرمي، وحث على كل ما فيه إعانة على الجهاد، ولكن كانت الرياضة وسيلة لذلك ولم تكن يوما من الأيام هدفا لهم يسعون لتحقيق الانتصارات وإهانة الآخرين، ولم يكونوا يوالون فيها ويعادون فيها؛ بل كانت مجرد وسيلة؛ فلم تكن تجرهم للسب والشتم أو الغش والحسد أو التهاجر والتقاطع، أخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: كانت ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العضباء لا تسبق، أو لا تكادُ تَسبقُ، فجاء أعرابي على قعود له، فسبقها فشق ذلك على المسلمين، حتى عرفه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: “حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعهُ”.
خطورة التعصب الكُروي
ظاهرة التعصب الكُروي تجاوزت حدود التشجيع الرياضي لتتحول إلى سلوك هدّام يُفرّق بين الأفراد، ويمزق النسيج المجتمعي، وأن هذا النوع من التعصب يقود إلى الانحدار الأخلاقي، والعداوات، بل وأحيانًا إلى العنف، ويتنافى مع تعاليم الإسلام التي تدعو إلى المحبة، والوحدة، ونبذ الفرقة، وهذا التعصب البغيض يؤثر على النشء، الذين يكتسبون قيمًا سلبية من بيئة التشجيع المسمومة، ولذلك ندعو الأسرة والمجتمع إلى تضافر الجهود التربوية، والدينية، والإعلامية للحد من هذه الظاهرة، وإعادة الرياضة إلى مكانها الطبيعي كوسيلة للترفيه، والتقارب، لا للشقاق والعداوة..
والتعصب الكروي ظاهرة مقيتة غزت مجتمعاتنا، وتغلغلت في نفوس الكثيرين، لم يعد مجرد حب لفريق أو شغف بكرة القدم، بل تحوّل إلى داء عضال يفتك بالقيم والأخلاق والمبادئ، ويهدد النسيج الاجتماعي بالتمزق، إنه سقم الروح وسمّ المجتمع الذي يتجاوز حدود المستطيل الأخضر ليترك بصماته السوداء على العلاقات الإنسانية، والأخوة الدينية.
إن خطورة هذا التعصب لا تكمن فقط في الشد، والجذب بين جماهير الفرق المتنافسة، بل تتعدى ذلك لتشمل الانحدار الأخلاقي الذي يصحبه، فكم من كلمات نابية قيلت، وكم من حرمات انتهكت، وكم من علاقات قطعَت، بل وكم من دماء أريقت، باسم “الحب” المزيف لنادٍ أو لاعب، هذا “الحب” المشوب بالغل والحقد، الذي يُعمي الأبصار عن الحق، ويصم الآذان عن صوت العقل والمنطق، وما صفحات التعصب الأعمى على منصات التواصل المجتمعي عنا ببعيد، فهي خير شاهد على هذا التدني الأخلاقي والقيمي.
والواقع خير شاهد أن التعصب الكروي يضرب بعرض الحائط كل مبادئ الأخوة الإنسانية والمجتمعية، فبدلًا من أن يكون التشجيع مناسبة للترفيه والتنافس الشريف الذي يُثري الروح الرياضية، يتحول إلى ساحة للحرب الكلامية والشتائم، بل وأحيانًا للعنف الجسدي، فيغيب العقل لدرجة المتعصب ينسى أن خصمه في التشجيع قد يكون جاره، أو صديقه، أو قريبه، أو حتى أخاه في الدين والإنسانية، لذلك كان التحذير من الجناب المحمدي المعظم، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ» [رواه مسلم]، فهذا هو المنهج الإسلامي في التعاملات الإنسانية، والذي يتلاشى أمام وهم الانتماء الأعمى لفريق، أو كراهية عمياء لفريق آخر.
وإن تأثير التعصب الكروي بجانب ما سبق، خطورته على الأطفال الذين يرون في الكبار قدوة، يشبّون على هذا النمط من التفكير، حيث يتبنون هذا التعصب الأعمى كجزء لا يتجزأ من هويتهم، يتعلمون الكراهية، والبغضاء قبل أن يتعلموا المحبة، والتسامح، يسير بهم العمر وهم يعتقدون أن الانتماء لفريق معين يبرر لهم السباب والشتائم والاعتداء على الآخرين دون مراعاة للأدب المحمدي والذي ينص على: «لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ ولا الفاحِشِ وَلا البَذِيء» [رواه الترمذي]، فكيف يمكن أن ننتظر من جيل نشأ على هذه السموم أن يبني مجتمعًا متماسكًا قائمًا على قيم المحبة والتعاون؟..
بل إن هذا التعصب يتجاوز مجرد الانفعالات العاطفية، ليتحول إلى غزو للعقول، فكثير من المتعصبين، وبدلًا من أن ينشغلوا بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، يستهلكون جل أوقاتهم وجهدهم في متابعة أخبار فرقهم، وملاحقة تفاصيل المباريات، والدخول في جدالات لا طائل منها، فيصبح هذا التعصب شغلاً شاغلاً، يصرفهم عن واجباتهم الأسرية والمجتمعية، ويقعدهم عن تحقيق طموحاتهم الشخصية والعلمية في مجانبة صريحة لتلك القاعدة المحمدية المنيفة: «من حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُه مَا لا يَعْنيهِ» [رواه الترمذي وسنده صحيح]..
العنصر الرا بع :علاج الإسلام لمرض التعصب..
لقد كان الناسُ في عهدِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يتعصَّبُون لقبائِلهم وأنسابِهم، بل ويصِلُ الأمرُ إلى القتال، فعالج الإسلامُ هذه الظاهرةَ بطرُقٍ كثيرةٍ لانتشالِها من المسلمين، فأصَّل لهم العلاقةَ الحقيقيَّةَ للمسلِمين، وأنهم كالجَسَدِ الواحِدِ، وأنَّه “لا فضْلَ لعربِيٍّ على أعجميٍّ”(مسند أحمد 23536)، وأنَّ النُّصْرَة تكونُ للمظلوم كائنًا مَن كان، وعلَى الظَّالِم من أي قبيلةٍ هو، وليس النُّصرة للعَصَبة وهي الأقاربُ والقبيلةُ، وسَمَّاها الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- “عصبية”..
والعصبة الأقاربُ، ولهذا رَوى أبو داود من حديث عن بنت واثلة بن الأسقع، أنها سمعت أباها يقول: قلت: يا رسول الله ما العصبية؟ قال: “أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ”(سنن أبي داود)..
دين الإسلام أكد على أن الإيمان والعمل الصالح هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة، وليس الحسب والنسب• إِذْ لا شَرَفَ إِلَّا بِالإيمان والعمل الصالح؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: 37] وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ.)) قال النووي رحمه الله: “مَعْنَاهُ: مَنْ كَانَ عَمَله نَاقِصًا، لَمْ يُلْحِقهُ بِمَرْتَبَةِ أَصْحَاب الْأَعْمَال، فَيَنْبَغِي أَلَّا يَتَّكِل عَلَى شَرَف النَّسَب، وَفَضِيلَة الْآبَاء، وَيُقَصِّر فِي الْعَمَل.”
كما أكد هذا الدين على أن جميع المؤمنين تربطهم ربطة الأخوة الإيمانية وإن لم تكن بينهم أرحام وأنساب متقاربة. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]
•فعقيدة التوحيد تجمعنا، ودار الإسلام تؤوينا، ولا فخر لنا إلا بطاعة الله تعالى، ولا عزة ولا كرامة لنا إلا بالإيمان، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
إن كل الروابط يمكن أن توجد ثم تنقطع؛ إلا رابطة الدين.
•فهذا نبي الله نوح عليه السلام تنقطع بينه وبين ولده الروابط لأنه كافر؛ وتأمل قوله تعالى: {وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 45، 46]
ولا ننسى أن جميع الروابط والعصبيات تنتهي يوم القيامة. قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}
كما يجب أيها الإنسان أن تتذكر: أصل خلقتك
•فيا من تطعنُ في الأنساب وتفتخر بالأحساب، يا من حقّرت الناس وتنقصتهم، ألا تعلم حقيقتك؟! ألا تعلم أن أوَّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وتحمل في جوفك العذرة؟! قال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ} [المرسلات: 20]. فعلام الكبرياء وعلام التعالي.؟!
وأن تتذكر: وساوس الشيطان، فإنه يريد أن يوقِع بين الناس الوقيعة والبغضاء. في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الشَّيطان قد يَئِسَ أن يَعْبُدَه المُصَلُّون في جَزيرة العَرب، ولكن في التَّحْرِيشِ بينهم.)) قال ابن الجوزي رحمه الله: “ومن تلبيس إبليس عليهم: أن يكون لأحدهم نسب معروف فيغتر بنسبه.
وفي أوقات الفتن: كن مِفتاحًا للخير مِغلاقًا للشر، ولا تتكلم إلا بالخير. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جُعِلَ مَفَاتِيحُ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ.)) [رواهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.]..
وفي السيرة النبوية استبَّ رجل يهودي مع رجلٍ مسلم في سوق من أسواق المدينة وهما يتبايعان سلعة، قَالَ المسلم: “لا وَالَّذِي اصطفى مُحَمَّدًا عَلَى البشر”، فَقَالَ اليهودي: “لا وَالَّذِي اصطفى موسى عَلَى البشر”، فلطم المسلم اليهودي، فجاء اليهودي شاكيًا إِلَىٰ النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فعل هٰذَا المسلم، وهو معدود من الصَّحَابَة، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -ناصر الحق، غير متعصبٍ لصاحبه، قَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى بن عمران» فإني أفيق يوم القيامة، «فإن النَّاس يُصعقون يوم القيامة فأفيق، فإذا موسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم أنه جوزي بصعقة الطور؟»..
معالجة التعصب الكروي
أما معالجة هذه الآفة تتطلب تضافر الجهود، التي تبدأ من التربية الأسرية التي تغرس في الأبناء قيم التسامح والاحترام المتبادل، وتوعيهم بخطورة التعصب بمختلف أشكاله، ثم يأتي دور المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية في تعزيز هذه القيم، ونشر الوعي بمخاطر التعصب الكروي على الفرد والمجتمع، فيجب علينا جميعًا أن نعود بالرياضة إلى طبيعتها باعتبارها وسيلة للترفيه والتقارب، وليست أداة للشقاق والفرقة.
فلنتذكر دائمًا أن الانتماء الأسمى هو لديننا وأمتنا ووطننا، وأن حب الخير للجميع، والتعاون على البر والتقوى، هو ما يحقق لنا السعادة في الدنيا والآخرة، فليست كرة القدم إلا لعبة، والتعصب لها مرض، فلنتخلّص من هذا المرض، ولنعد إلى رُشدنا، ولتتآلف قلوبنا، ولنكن أمة واحدة متماسكة، تُرسي دعائم المحبة والسلام، وتنبذ كل أشكال التعصب والفرقة…
وختاماً:
فَاحْذَرُوا الْفِتَنَ وَاحْذَرُوا دُعَاتَهَا وَاحْذَرُوا مِنَ النَّفْخِ فِيهَا، وَاحْذَرُوا مِنْ إِشْعَالِ نِيرَانِهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ وَقُودَهَا وَمَادَةَ إِشْعَالِهَا هِيَ كَلِمَةٌ وَقَصِيدَةٌ وَرِسَالَةٌ وَقِصَّةٌ وَذِكْرُ أَفْعَالٍ قَدِيمَةٍ وَمَعَارِكَ وَحُرُوبٍ فَانِيَةٍ، أَمَّا دُعَاتُهَا فُهُمْ غَوْغَاءُ النَّاسِ وَسُفَهَاؤُهُمْ وَبَعْضُ الشُّعَرَاءِ وَالرُّوَاةِ وَالْكِتَابِ غَيْرِ الْمُوَفَّقِينَ مِنَ الذِينَ وَلَغُوا فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَقْلَامِهِمْ وَعَلَيْهِمْ وِزْرُ هَذِهِ الْفِتَنِ وَتَبِعَاتِ هَذَا النَّتَنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آثَامِ أَتْبَاعِهِمْ شَيْئاً.. اللهم اهدنا لأحسن الاخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت ..