جذور التفكير الناقد في الإسلام : قراءة فلسفية تأملية في الأساس الديني للعقل النقدي


أ.د/ علي محمد عليان عبد الرازق الخطيب

أستاذ الفلسفة ورئيس مجلس قسم الفلسفة – كلية الآداب- جامعة المنيا

المقدمة:

بداية أرى أن التفكير الناقد يقدم في معظم الحقول الفلسفية والتربوية الحديثة والمعاصرة بوصفه ثمرة خالصة للحداثة؛ وكأنه لم يظهر إلا داخل الأطر الأكاديمية الراهنة والمؤسسات البحثية والمناهج التربوية التي بلورتها روح العصر الحديث وأطره المعرفية. وقد أسهم هذا التصور في تكريس صورة نمطية توحي بأن التفكير الناقد ظاهرة حديثة النشأة؛ وكأن العقل البشري لم يعرف منهج الفحص والاختبار والسؤال إلا منذ تشكل الأساليب الحديثة للتعليم العالي وظهور المقاربات التربوية الجديدة التي احتكرت تعريف التفكير الناقد.

ولعل ما رسخ هذا الوهم أن عددا غير قليل من الدراسات العلمية الحديثة يتعامل مع التفكير الناقد بوصفه مهارة مستجدة لا جذور لها، وكأنه قفز فجأة إلى الوعي المعرفي مع ظهور الورش التعليمية والتقنيات التربوية المعاصرة. وهذه الدراسات، حين تركز على البعد المهاري البحت، تعيد إنتاج تصور ضيق للتفكير الناقد، فتحصره في نماذج غربية حديثة دون أن تطرح الأسئلة الضرورية حول السياقات الأعمق التي تشكل عبرها العقل الإنساني في مساره التاريخي.

غير أنني أجد أن القراءة المتأملة تكشف أن هذا التصور يغفل مستويات أعمق من تاريخ الوعي الإنساني؛ إذ يهمل-عن قصد أو عن غفلة-الأطر الروحية والدينية التي مارست قبل قرون طويلة أنماطا راسخة من التفكير الفاحص والسؤال المتدرج والتدبر العميق. فالتراث الديني، وفي مقدمته التراث الإسلامي، لم يكن فضاء صامتا أو منغلقا كما يصوره الخطاب العلموي المتعجل، بل كان ميدانا حيا تتفاعل فيه أسئلة الإنسان مع الوحي، ويتجاور فيه العقل مع الإيمان، وتتشكل فيه اللبنات الأولى لممارسات نقدية واعية لا تقل عمقا عن تلك التي تحتفي بها الحداثة اليوم

ومن هنا أجد أن هذا التصور الحداثي يظل قاصرا، لأنه يختزل تاريخا طويلا من تشكل الوعي البشري في لحظة معرفية واحدة، ويتغافل عن الأساس الروحي والفلسفي العميق للتفكير الناقد. فالتجربة الدينية، وفي مقدمتها التجربة الإسلامية، مارست النقد والسؤال والمراجعة قبل أن يولد هذا المصطلح بقرون طويلة، ومهدت بصورة عملية لمناهج التفكر والنظر والاعتبار التي نحتفي بها اليوم تحت مسمى التفكير الناقد.

ومن ثم، وبعد الكشف عن محدودية التصور الحداثي للتفكير الناقد، تنبع أسئلة هذا البحث بصورة طبيعية وملحة؛ إذ لا يمكن للباحث، إذا أراد الإنصاف، أن يتجاوز ما تطرحه التجربة الدينية من إمكانات نقدية عميقة. وهكذا أجدني مدفوعا إلى طرح تساؤلات مركزية: هل للتفكير الناقد أساس ديني إسلامي؟ وكيف تتقاطع الممارسة النقدية مع الإيمان في بنيتها الداخلية؟ وهل يقف العقل والدين فعلا على طرفي نقيض كما تروج القراءات السطحية، أم أن العلاقة بينهما علاقة تكامل وتأسيس متبادل؟

وإن إعادة طرح هذه الأسئلة في هذا المقام ليست ترفا معرفيا كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل هي ضرورة علمية لفهم العلاقة الدقيقة بين العقل والإيمان؛ تلك العلاقة التي شوهت طويلا بفعل الرؤية الحداثية السائدة من ناحية، والقراءات الدينية التي تقف عند ظاهر النص من ناحية أخرى. كما تمثل هذه الأسئلة خطوة مهمة لتحرير التفكير الناقد من احتكاره الأكاديمي الضيق، وإعادته إلى جذوره الروحية العميقة الضاربة في عمق الوحي، وفي التجربة الإنسانية التي عاشها المسلمون عبر التاريخ بوصفها تجربة سؤال وتدبر، لا تجربة استسلام وطاعة عمياء.

أولًا: التفكير الناقد بين العقل والإيمان – نحو فهمٍ أكثر اتساعًا.

وبعد طرح الأسئلة التي تكشف محدودية التصوّر الحداثي للتفكير الناقد، يصبح من الطبيعي الانتقال إلى إعادة النظر في العلاقة التي كثيرًا ما صُوّرت بصورة مضلّلة: أي علاقة العقل بالدين. فغالبًا ما يُقدَّم التفكير الناقد في الكتابات المعاصرة بوصفه نشاطًا عقليًا يزدهر خارج الدين، أو في مواجهته، وكأن الإيمان حاجز يحول دون الفحص والتساؤل. غير أنني أجد أن هذه الصورة، عند التأمل، ليست إلا امتدادا لقطيعة معرفية غربية تبلورت في سياق صراع تاريخي خاص، ثم تسللت إلى وعينا العربي والإسلامي دون مراجعة. ومن ثم يصبح من الضروري إعادة تفكيك هذا التصور ومساءلة جذوره، حتى لا نظل نكرر رؤية وُلدت في سياق مغاير لخبرتنا الدينية والفكرية، ولا تعبّر عن حقيقة العلاقة العميقة بين العقل والإيمان في تراثنا.

أما في التجربة الإسلامية نفسها، فالصورة تختلف جذريًا؛ إذ لم يكن العقل يومًا عنصرًا منفصلًا عن الإيمان، ولا منافسًا له، بل كان جزءًا من بنيته الداخلية وشرطًا من شروط صدقه.

فالحجة أصل، والبرهان شرط، والمسؤولية المعرفية واجب لا يسقط عن الإنسان بمجرد انتسابه إلى منظومة دينية. ولهذا جاءت العلاقة بين العقل والإيمان في الإسلام علاقة تكامل لا تنازع وتفاعل لا إقصاء فالإيمان يوجّه العقل نحو المعنى والغاية ويقيه من التيه في العبث واللامعنى بينما يقوم العقل بدوره في صون الإيمان من الجمود والانغلاق على تفسيرات ضيقة ومن الوقوع في أسر التقليد غير الواعي وهكذا يتأسس الطرفان في إطار واحد من الإرشاد المتبادل إيمان يمنح العقل أفقا وبوصلة وغاية وعقل يحافظ على حيوية الإيمان وقدرته على التجدد والسؤال والانفتاح.

 ومن هنا لم يكن الدين دعوةً إلى الطاعة العمياء، بل دعوةً إلى نظرٍ يقود إلى يقين، وإلى تفكّر يُثمر فهمًا، وإلى مراجعة تُحرّر الإنسان من التسليم الوراثي. فالإيمان، في جوهره، ليس حالة استسلام سلبي، بل فعل اختيار معرفي؛ اختيار يمرّ عبر السؤال، والتمحيص، والوعي بالمسؤولية أمام الحقيقة. ولذلك فإن التفكير الناقد في الإسلام ليس وافدًا مستحدثًا، ولا دخيلًا على التجربة الدينية، بل هو جزء بنيوي من بنيتها المعرفية التي تجمع بين العقل والروح، بين الحجة والمقصد، وبين البرهان والهداية.

وبهذا المعنى، يغدو من غير الدقيق النظر إلى التفكير الناقد بوصفه اختراعًا حداثيًا، أو مهارة عقلية لا تنشأ إلا في البيئات الأكاديمية فحسب؛ فالمنهج، قبل أن يُدَوَّن في كتب الفلسفة والتربية، كان حيًا في صلب التجربة الدينية، يمارس وظيفة مزدوجة: حماية الإيمان من التحريف، وحماية العقل من الانغلاق.

ثانيًا: التجربة الدينية الإسلامية بوصفها ممارسة مبكرة للتفكير الناقد.

وبعد أن أوضحت طبيعة العلاقة بين العقل والإيمان في الإسلام أرى من الضروري كخطوة منهجية تالية الانتقال إلى تتبع الممارسات الدينية التي تجسد التفكير الناقد في صورته الأولى وذلك لأنني أعتقد أن التجربة الإسلامية لم تكن يوما تجريدا نظريا بل كانت ميدانا حيا مارس فيه الأنبياء والمؤمنون النقد والسؤال والتدبر باعتبارها مداخل إلى الحقيقة لا عوائق تحول دونها

  • سيدنا إبراهيم عليه السلام… النموذج المؤسِّس للنقد الوجودي.

أرى أن قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام تمثل مثالًا رائدًا على إعمال العقل داخل التجربة الدينية منذ فجر الوحي؛ ففي رحلته الوجودية مع الكوكب والقمر والشمس لا نجد انفعالًا عاطفيًا ولا خضوعًا تلقائيًا، بل نرى منهجًا نقديًا متدرجًا يمضي خطوة بعد خطوة نحو الحقيقة، يتأسس على ملاحظة دقيقة للظواهر، وشك منهجي يختبر الفكرة ولا يقبلها كما هي، واختبار واعٍ لمطابقة الظاهر للبرهان، ثم استنتاج عقلي يكشف محدودية الأشياء وينتهي إلى اختيار معرفي حر يرسّخ الإيمان ويقيمه على بصيرة. ومن هنا أفهم أن سيدنا إبراهيم عليه السلام لم يشك ليبتعد بل شك ليقترب ولم يمارس السؤال ليهدم بل ليبني يقينا يستند إلى نور العقل ووضوح الرؤية. ولذلك أرى أن التفكير الناقد في الإسلام يبدأ من سيدنا إبراهيم عليه السلام قبل أن يظهر في المناهج الحديثة أو في مسارات الجدل الفلسفي ؛لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام يمثل اللحظة التي يتجلى فيها العقل شريكا للإيمان لا خصما له.

 2- نقد التقليد الأعمى في القرآن الكريم.

وإذا انتقلنا من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى خطاب القرآن الكريم نفسه، نجد أن النص القرآني يقدم واحدة من أقوى صور الرفض للتقليد غير الواعي، من خلال قوله تعالى “بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ” (الزخرف، آية: 22). فهذه العبارة، التي تتكرر في مواضع متعددة، لا تدين الآباء، وإنما تدين الجمود الذي يجعل الإنسان أسيرًا لما وجد عليه غيره دون تفكير أو فحص.

فالقرآن الكريم يقرر مبدأ معرفيًا واضحًا، وهو أن المسؤولية الأخلاقية والمعرفية مسؤولية فردية، لا تورّث ولا تُكتسب بالاتباع الأعمى. ولهذا يصبح السؤال واجبًا، لا تجرؤًا، ويصبح الفحص ضرورة، لا خروجًا عن الطاعة؛ لأن الدين لا يريد تابعًا مقلدًا، بل يريد إنسانًا يعقل ما يقول، ويميز ما يعتنق، ويستطيع أن يدافع عن إيمانه بالحجة لا بالموروث.

3- التفكر والتدبر… دعوة دينية ومنهج معرفي.                         

وفي موضع آخر، لا يكتفي القرآن برفض التقليد، بل يتجاوز ذلك إلى الدعوة إلى ممارسة عقلية متكررة ومتعمقة تتجلى في التفكر والتدبر والتعقل والنظر والاعتبار. فهذه الأفعال ليست صيغا أخلاقية ولا عبارات وعظية، وإنما هي تأسيس لمشروع معرفي يجعل الإنسان فاعلا في علاقته بالكون والوحي والذات. فالتفكر ليس ترفا ذهنيا، بل هو فعل يفتح للوعي أفق الرؤية، والتدبر ليس مجرد تأمل ساكن، بل قراءة نقدية للظواهر والنصوص، والنظر ليس مجرد بصر، بل بصيرة تبحث عن الأسباب والحكمة والسنن. ومن خلال هذه المنظومة يضع القرآن على الإنسان مسؤولية عقلية تسبق المسؤولية التعبدية، مسؤولية أن يفكر وأن يختبر وأن يميز وأن يمارس نقدا واعيا يحميه من الخرافة ومن الاتباع الأعمى، لتصبح العلاقة مع الدين علاقة إدراك وبصيرة، لا تكرارا ولا استسلاما.

ثالثًا: العقل النقدي في التراث الإسلامي.

وبعد عرضنا لبعض الممارسات العقلية التي ظهرت في التجربة الدينية الأولى، يبدو من الطبيعي الانتقال إلى مرحلة أعمق في تاريخ الإسلام؛ مرحلة تشكّلت فيها مناهج نقدية راسخة طوّرها العلماء والمفكرون بوصفها امتدادًا لمشروع معرفي داخلي، لا استجابة لضغط خارجي ولا رغبة في معارضة. فالتفكير الناقد في هذا الإطار لم يكن فكرة مستعارة من منظومات أخرى، بل ضرورة داخلية اقتضاها حفظ النص، وصيانة العقيدة، وتجويد الفهم، وتطوير النظر، الأمر الذي رسّخ حضور العقل في مسار الاجتهاد وتطور الوعي الإسلامي عبر الزمن. ومن هذا المنظور تبدأ ملامح العقل النقدي في اتخاذ صورتها المؤسسية، حيث يشكّل علم الكلام أولى المحطات التي أصبح فيها العقلُ جزءًا من بنية الدفاع عن الإيمان.

  • علم الكلام… العقل بوصفه حارسًا للعقيدة.

إذا أردنا أن نتتبع اللحظة التي أصبح فيها العقل جزءا أصيلا من بنية الدفاع عن الإيمان، فإن الطريق يقود مباشرة إلى علم الكلام؛ ذلك الحقل المعرفي الذي مثّل أول محاولة إسلامية منظمة لتحويل العقل من مجرد أداة للفهم إلى قوة برهانية لحماية العقيدة وصونها من الاعتراضات والانحرافات. وعند قراءة تراث المتكلمين نجد أن أعلاما كبارا مثل إمام الحرمين الجويني (ت 1085م) وأبي حامد الغزالي (ت 1111م) وفخر الدين الرازي (ت 1209م) قد لجؤوا إلى الجدل والمنطق لا لهدم الدين بل لتحصينه من التأويلات المتطرفة والقراءات الناقصة والدعاوى التي تفتقر إلى البرهان. لقد مارس هؤلاء العلماء النقد بوصفه واجبا معرفيا يختبر الفكرة ويمتحن الدعوى ولا يقبل من الموروث إلا ما ثبت أمام الحجة، الأمر الذي جعل العقل في علم الكلام حارسا للإيمان لا معولا لإضعافه. ومن هنا تتبدد الصورة التي يروج لها الخطاب الحداثي عن صراع العقل والدين، إذ يتضح أن العقل في الإسلام لم يكن قوة متمردة، بل قوة مؤسسة تسهم في بناء الفهم وترسيخ اليقين.

2-علم الحديث… ذروة النقد الإسلامي.

وإذا كان علم الكلام قد كشف عن الدور البرهاني للعقل في حماية العقيدة وصياغة اليقين، فإن ميدان النقد الإسلامي يبلغ ذروته المنهجية في علم الحديث؛ ذلك العلم الذي يمثل واحدة من أدق الممارسات النقدية في تاريخ المسلمين بل وفي تاريخ الإنسانية كلها. فقد طوّر المحدثون منظومة فحص صارمة ومتكاملة استهدفت حماية النص النبوي من التحريف والتقول، وجعلت من النقد عملية منهجية لا اجتهادًا عشوائيًا. فمارسوا تفكيك الروايات وتمييز الصحيح من السقيم، وقيّموا الأسانيد من خلال دراسة عدالة الرواة وضبطهم، ونقدوا السلوك والضبط الأخلاقي للرواة، وقارنوا بين المتون لاكتشاف التعارض أو النكارة، وتحققوا من الاتساق العقلي واللغوي للنص. إنها منهجية دقيقة تشبه ما تسمّيه الجامعات الغربية اليوم بالنقد التاريخي ، غير أن علماء الحديث سبقوا إليها بقرون، وطبقوها بأدوات أكثر صرامة وانضباطًا. وهكذا يتضح أن الإسلام لم يكن دينًا تعبديًا فحسب، بل كان مشروعًا معرفيًا أنشأ واحدًا من أرقى المناهج النقدية في التاريخ، وأثبت أن حماية النص لا تتم بالتسليم، بل بالاختبار والمراجعة والوعي النقدي المتبصر.

3-ابن رشد… المصالحة الكبرى بين العقل والوحي.

وإذا كان علم الكلام والحديث قد رسخ البنية النقدية التي تحمي العقيدة والنص، فإن التجربة الرشدية تمثل الامتداد الفلسفي الأرفع لهذا المنهج، إذ بلغت بها العقلانية الإسلامية مستوى من النضج جعل المصالحة بين الحكمة والشريعة ممكنة ومثمرة معا. فـــ ابن رشد (ت 1198م) ينطلق من يقين راسخ بأن الحقيقة واحدة، وأن الطريقين اللذين يسلكهما المتكلم والفيلسوف لا يتصارعان، بل يتكاملان للوصول إليها، لأن كلاهما يعمل في أفق البحث عن المعنى والبرهان. ومن هنا تصبح رؤيته ليست مجرد موقف فلسفي، بل صيغة مبكرة لمفهوم التفكير الناقد كما نفهمه اليوم، حيث يعمل العقل داخل الإيمان لا خارجه، ويستند الإيمان إلى الفهم والتأمل لا إلى التكرار أو الجمود.

وفي هذا الإطار وقف ابن رشد موقفا وسطا بين اتجاهين متطرفين: اتجاه يريد إلغاء العقل باسم الدين، واتجاه يطمح إلى إلغاء الدين باسم العقل. فصاغ رؤية تجعل من البرهان والحكمة رفيقين للوحي لا خصمين له، وفتح بذلك أفقا فكريا يقدم الإسلام في إحدى أجمل صوره: دينا يؤمن بالحجة ويستوعب الفلسفة ويجعل من العقل شريكا للنص لا غريبا عنه. وهكذا يكتمل المشهد النقدي في التراث الإسلامي من خلال تلاقي علم الكلام والحديث مع الفلسفة في مشروع واحد يربط بين الإيمان والبرهان، ويجعل من التفكير الناقد ممارسة أصيلة في صميم التجربة الإسلامية.

رابعًا: التفكير الناقد في الواقع الإسلامي المعاصر.

وإذا كانت التحديات المعاصرة قد أعادت إبراز الحاجة إلى وعي نقدي يحمي الإيمان من التشويه والمجتمع من الانغلاق، فإن هذه الحاجة لا تبقى مجرد أطروحة نظرية، بل تتجلى في ممارسات يومية يباشرها الإنسان المسلم من موقع مسؤوليته الأخلاقية والدينية. فالتفكير الناقد اليوم ليس خروجا عن الدين، بل استعادة لجذره الأول ولعقل مؤمن يميز ويسأل ويفحص قبل أن يقلد أو يتبنى فكرة ما. ويمكن أن نلمس هذه الروح النقدية في صور متعددة من الواقع المعاصر:

  • حين يقف الوعي الأخلاقي في مواجهة الإرث الاجتماعي.

إن نقد العادات المتوارثة لا يبدأ بالصدام، بل يبدأ بسؤال بسيط يطرحه شاب صادق مع نفسه: هل ما نمارسه اليوم يعكس قيم العدل التي يدعو إليها الإسلام أم أننا نكرر ما وجدنا عليه آباءنا دون وعي؟ هنا لا يكون الشاب في موقع تحدي المجتمع، بل في موقع إعادة قراءة المألوف من زاوية أخلاقية أعمق. فبهذا الفحص الهادئ يتحول العرف من سلطة مهيمنة إلى ممارسة قابلة للتقييم والمراجعة.

  • حين تتحول التربية من تقليد راكد إلى اجتهاد رحيم.

وتبدأ الأساليب التربوية القاسية غالبًا بسؤال يتوقف عنده أبٌ أو مربٍّ بضمير يقظ: هل تُصلح القسوة أبناءنا، أم أن الرفق أقرب إلى الروح التي بُعث بها النبي المصطفى ﷺ؟ فهذه المراجعة ليست رفضًا للتربية، بل عودة إلى مقصدها الأصيل: أن تقوم على الرحمة لا على القهر. وهنا يغدو النقد التربوي امتدادًا لإيمان واعٍ، لا قطيعة مع الموروث.

  • حين يواجه المؤمن خطاب التشدد ببصيرة تميّز بين الوحي والبشر.

أما فحص الخطابات المتشددة، فيبدأ حين يسمع المؤمن دعوة إلى الكراهية أو الإقصاء، فيسأل نفسه: هل هذه لهجة الوحي، أم أنها اجتهاد بشري ملون بظروفه وتاريخه؟ إن قوة هذا السؤال لا تكمن في اعتراضه، بل في بصيرته؛ فهو نقد يحمي الدين من أن يُستخدم خارج سياقه الأخلاقي، ويميز بين خطاب السماء وصوت الأرض.

  • حين تصبح المعلومة الدينية أمانة تستوجب التثبّت.

والتثبت من الروايات الدينية قبل نشرها فعل نقدي لا يقل أهمية؛ فعندما يسمع شخص قصة أو حديثا فيبحث عن صحته قبل إعادة إرساله، فإنه يمارس امتدادا حقيقيا لمنهج المحدثين. فالتثبت هنا ليس مهارة رقمية عابرة، بل التزام معرفي يجعل النقل مسؤولية لا رد فعل عشوائيا، ويعكس عمق الحس النقدي الذي بناه التراث الإسلامي عبر قرونه.

وهكذا، تغدو هذه الأمثلة الحياتية تجليات واضحة لأن التفكير الناقد في الواقع الإسلامي المعاصر ليس خروجا عن الدين ولا تمردا عليه، بل عودة إلى جوهره الأخلاقي وروحه الحية. إنه يعيد للعقل مكانته كحارس للوعي وموجه للسلوك، فلا يهدم بل يبني، ولا يضعف الإيمان بل يصونه، ولا يقود إلى التفلت بل إلى الفهم العميق والالتزام الواعي.

خامسًا: كيف يلتقي الدين مع التفكير الناقد؟ – نحو نموذج معرفي متكامل.

وبعد هذا العرض الواسع للنصوص، والنماذج الدينية، والممارسات التراثية والمعاصرة، تبرز أمامي حقيقة معرفية رئيسة: إن العلاقة بين الإسلام والتفكير الناقد ليست علاقة تضاد أو صراع كما يذهب بعض الخطابات الحداثية، وليست علاقة ذوبان أو إلغاء كما تفترض بعض القراءات التقليدية، بل هي علاقة تكامل عميق يؤسّس لنموذج معرفي متماسك تتساند فيه الروح والعقل دون أن يلغي أحدهما الآخر.

فالدين، في جوهره، لا يأتي ليقيّد حركة العقل أو يحجبه عن النظر، بل يمنحه البوصلة الأخلاقية التي توجه طاقته وتحدد مساره، وتمنعه من الانزلاق إلى العبثية أو إلى الشك العدمي الذي يُفقد الحياة معناها وغائيتها. وفي المقابل، يقدم التفكير الناقد للدين أدوات الفحص والتحقق، ويقيه من التحول إلى جمودٍ أو إلى سلطة تُمارَس باسم المقدّس دون برهان. فالعقل الناقد هو الذي يميّز بين النص ومقاصده، بين الرسالة الربانية واجتهاد البشر، بين ما هو ثابت وما هو متغير، فيمنع الدين من أن يتحول إلى أداة قهر أو إلى تكرار فارغ.

وهكذا، حين يتصالح العقل مع الإيمان في رؤية شاملة وواعية، لا يعود الدين قيدًا للعقل، ولا يصبح العقل تهديدًا للدين، بل يتكاملان في مشروع إنساني يحرر الفرد من التبعية والتقليد، ويمنحه القدرة على بناء ذاته ضمن جماعة أكثر وعيًا وتسامحًا. إن هذا التكامل لا يهدف إلى إلغاء الفروق أو صهر الإنسان في قوالب جاهزة، بل إلى صناعة وعي حي، قادر على رؤية ما بعد النص، وما وراء العادة.

ومن هذا المنطلق أجد أن هذا النموذج المتكامل يعيد ترتيب العلاقة بين الروح والعقل، ويؤسس لحداثة إيمانية، لا حداثة قطيعية؛ ولعقلانية رحيمة، لا عقلانية متعالية. وبذلك يتبين لي أن التفكير الناقد لا يواجه الدين، بل يستقر في قلبه، وأن الدين لا يلغيه، بل يمنحه مقصدًا وغاية، ليصبح الاثنان معًا أساسًا لنضج الإنسان وامتلاء وعيه.

وإذا كان الإنسان في هذا التصور يتوقف عن توارث الإيمان بلا بصيرة، فإنما يتقدم نحو تدين ينبثق من عمق الذات، ويؤمن بأن السؤال ليس خصمًا للإيمان، بل أحد أجنحته. هذه جدلية لا تلغي الطرفين، بل تكملهما في رحلة بحث عن إنسانية أكثر اكتمالًا، ورؤية أكثر عدلًا، وصوت أكثر صدقًا في مواجهة العالم.

خاتمة

وبعد هذه الرحلة التي تتبعنا فيها النصوص الدينية، والتجارب الفكرية، والممارسات التراثية، ثم توقفنا بتأمل أمام وقائع الزمن المعاصر، تتكشف أمامي- بوصفي باحثًا في الفلسفة- صورة متوازنة وأكثر وضوحًا للعلاقة بين الإسلام والتفكير الناقد. إنها علاقة لا تقوم على الصراع أو التبعية، بل على التساند والتكامل.

فالتحليل السابق يقودنا إلى حقيقة لا يمكن تجاوزها: التفكير الناقد ليس غريبًا عن الدين، ولا وافدًا عليه من خارج سياقه، بل هو جزء أصيل من بنيته المعرفية وروحه الأخلاقية. فالمنهج الذي بدأ بسيدنا إبراهيم عليه السلام حين سأل وتساءل، واستقر في القرآن الكريم برفض التقليد الأعمى، وبلغ ذروته مع علماء الحديث في التحقق والتدقيق، ثم اتسع في أعمال المتكلمين والفلاسفة- هو نفسه الذي تقوم عليه اليوم مهارات التفكير الناقد وإن اختلفت المصطلحات وتنوعت الأدوات.

وأرى أن هذه الرؤية ليست بناءً نظريًا فحسب، بل نهجًا تؤكده شواهد الحياة اليومية. فعندما يقف شاب ليميز بين عادة اجتماعية مجافية للعدل وقيمة أخلاقية دعا إليها القرآن، فإنه يمارس فحصًا نقديًا يثبت يقظته الأخلاقية. وحين يتوقف أب غاضب ليسأل نفسه: “هل أتصرف الآن تحت تأثير الغضب، أم وفقًا للقيم التي أؤمن بها من رفق ورحمة؟” فإنه يمارس محاسبة النفس، وهي فضيلة أصيلة في الإيمان. وحين يسمع أحدهم خطابًا يُقدَّم على أنه “من الدين”، فيتساءل قبل التسليم: “هل يعكس هذا الخطاب مقاصد الدين وقيمه الأصيلة، أم هو اجتهاد بشري قد يُصيب أو يُخطئ؟” فإنه يمارس نقدًا معرفيًا يحرر الدين من إساءة التأويل. وحتى حين يمتنع شخص عن إعادة نشر حديث أو رواية عبر مواقع التواصل قبل التأكد من صحتها، فإنه يُحيي منهج أهل الحديث في زمن تضج فيه الشائعات، مؤكدًا أن التفكير الناقد ليس مجرد مهارة حديثة، بل فضيلة دينية أصيلة.

وفي النهاية، يتضح لي أن الإسلام، بروحه وتاريخه، لا يُواجه التفكير الناقد، بل يستدعيه ويؤسسه، ليجعل من الإيمان فعلًا حرًا ومسؤولًا، ومن الإنسان كيانًا واعيًا قادرًا على الاختيار والبناء.

 وهكذا تكشف الوقائع الصغيرة في حياة الناس أن التفكير الناقد ليس موقفًا فلسفيًا مجردًا؛ بل ممارسة يومية يعيش بها الإنسان إيمانه بوعي، ويتخذ بها قراراته بأمانة، ويجعل بها عقله شريكًا لا تابعًا. وبناء على ذلك، أؤكد أن التفكير الناقد يستند إلى أساس ديني عميق، تمامًا كما يستند إلى أساس عقلي وفلسفي؛ فكلاهما يشكلان جناحي الوعي الإنساني. وإن الإنسان لا يكتمل إلا إذا جمع بينهما: مؤمنًا بعقله، وعاقلًا في إيمانه. فالإيمان الذي لا يسنده العقل يتحول إلى عادة تُكرّر دون وعي، والعقل الذي لا تهذبه القيم يتحول إلى أداة بلا بوصلة.

أما حين يلتقيان، فإنهما يحرران الإنسان من الخوف، ومن التعصب، ومن التبعية، ويمنحانه القدرة على أن يعيش الحقيقة لا أن يرددها؛ وأن يؤمن عن بصيرة لا عن عادة؛ وأن يفكر بدافع البحث، لا بدافع الشك الذي يُربك صاحبه. ومن هنا، فإن التفكير الناقد في السياق الإسلامي ليس مشروعًا حداثيًا مطموس الجذور، بل هو امتداد طبيعي لرحلة الإنسان المسلم في فهم ذاته، وإيمانه، وعلاقته بالعالم. إنه دعوة لأن تكون الكلمة سواء، والحجة واضحة، والقلب حاضرًا، والعقل شريكًا… فلا تعارض بين إيمان صادق وعقل ناقد؛ بل إن الحقيقة لا تُنال إلا باجتماعهما.

وانطلاقًا مما عرضته من نصوص دينية، وتجارب تراثية، وأمثلة واقعية تُبرز حضور التفكير الناقد في التجربة الإسلامية، أرى أن تعزيز هذا الحضور يحتاج إلى جملة من التوصيات العملية والمعرفية التي يمكن تطبيقها على أرض الواقع دون توتر أو صدام.

أولًا، من الضروري إدماج البعد الديني الإسلامي في تعليم مهارات التفكير الناقد داخل المؤسسات التعليمية، بدلًا من اختزاله في نماذج غربية محضة. فقد أثبتنا أن الجذور الإسلامية للتفكير الناقد واضحة في القرآن والسنة والتراث، وهي كفيلة بأن تقدم نموذجًا أصيلًا لتعليم التفكير الناقد، يسمح للطلاب أن يمارسوا النقد داخل إطار ثقافتهم وقيمهم. ويمكن تحقيق ذلك عبر إدراج نصوص مثل قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وقيم التفكر والتدبر، ونقد التقليد، إضافة إلى الاستفادة من منهج أهل الحديث في التثبت من الروايات كمنهج تطبيقي للتحقق من المعلومات.

ثانيًا، من المهم أن يتبنى الخطاب الديني المعاصر منهجية نقدية تساعد على مواجهة التقليد الأعمى والتطرف، دون أن تتعارض مع الثوابت الشرعية. والمقصود ليس الدعوة إلى خطاب صدامي أو عدائي، بل إلى خطاب يُعيد الدين إلى جوهره الأخلاقي الداعي للتحرر من الجهل والتقليد. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تدريب الدعاة والمعلمين على مهارات الحوار، وطرح الأسئلة، وتعزيز القيم القرآنية التي تحث على التثبت والتحري، مثل قوله تعالى:
“وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا “(الإسراء: 36) وهذه الآية تؤكد ضرورة عدم اتباع شيء بغير علم. وإن مثل هذا الخطاب يسهم في بناء بيئة صحية لا يجد فيها التطرف أرضًا خصبة، ولا يستمر فيها التقليد غير الواعي، لأن كلاهما ينمو في غياب النقد والوعي

. ثالثًا، أوصي باستخدام التجارب القرآنية والنبوية والتراثية كنماذج تعليمية لتدريب الطلاب على مهارات الفهم، والتحليل، والمساءلة. فالقرآن الكريم زاخر بنماذج نقدية واعية، مثل نموذج سيدنا إبراهيم عليه السلام في حواره مع قومه بحثًا عن الحق، وموقف سيدنا موسى عليه السلام في مواجهة الظلم، وحوار الملائكة عليهم السلام حين تساءلوا عن الحكمة من خلق الإنسان. وكذلك نجد في السنة مواقف نقدية ذكية، كاعتراض سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على تحديد الصداق، أو مناقشة الصحابة رضي الله عنهم لبعض الاجتهادات النبوية في ضوء المصلحة العامة.

بناءً على ذلك، يتضح لي أن هذه النماذج ليست مجرد سرد قصصي أو تاريخي، بل تمثل أدوات فاعلة لتشكيل عقلية ناقدة توازن بين الإيمان والتفكير، وبين التسليم للنص والتمحيص العقلي. فهي تؤكد أن السؤال والبحث جزء أصيل من الإيمان، لا مناقض له، وأن النقد لا يهدف إلى تقويض العقيدة، بل إلى ترسيخ الوعي، وتحقيق فهم أعمق وأصدق للدين والإنسان معًا. وبهذه التوصيات، نكون قد وضعنا أساسًا عمليًا لتعزيز حضور التفكير الناقد داخل التجربة الإسلامية من الداخل، دون تمزيق الهوية أو التفريط في القيم.

وقد يسألني سائل، ويقول: كيف يمكن تطبيق ذلك عمليًا؟ فأقول له بكل اطمئنان وثقة: إن هذه إن هذه التوصيات ليست مجرد أفكار نظرية أو رؤى معلّقة في الهواء، بل هي خطوات قابلة للتحقق إذا وُضعت على طريق الفعل عبر إرادة واعية، وفهم متوازن للواقع، وإيمان بأن بناء الإنسان لا يكون بإلغاء موروثه، ولا بإقصاء عقله، وإنما بتمكينه من أدوات الفهم، والتحليل، والتمييز.

وأرى أن تطبيق هذه التوصيات يتطلب أولًا إعادة النظر في الطريقة التي نُدرّس بها الدين والتفكير في مؤسساتنا التعليمية. فيمكن مثلًا أن نبدأ بإدراج قصص مثل قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام في مناهج التفكير الناقد، لنُعلّم الطلاب أن الحوار مع الذات والآخر، والبحث عن الحقيقة، ليس خروجًا عن التدين، بل جزءًا من جوهر الإيمان. ويمكن أيضًا أن نُعيد تقديم علم الحديث -بعيدًا عن صورته التقليدية- كنموذج مبكر للتحقق من صحة الأخبار، وإخضاع الروايات للفحص والمساءلة، وهي مهارة أصبحنا في أمسّ الحاجة إليها في زمان الشائعات و”الإدعاء المعرفي” السريع.

ثم يأتي دور الخطاب الديني الذي لا بد له أن يخلع عباءة الوعظ التقليدي، ويتسع صدره لمقام السؤال. فالداعية الذي يرى في السؤال تهديدًا لإيمانه إنما يحبس الدين في صورة جامدة، بينما هو في حقيقته حركة نحو الحق. إن تدريب الدعاة والمعلمين على الحوارات النقدية لا يعني معاداتهم للدين، بل يجعلهم حراسًا على معناه، في مواجهة من يُريدون استخدامه كأداة لتخويف العقول أو تدجينها. وينبغي كذلك ألا نتردد في إعادة قراءة تراثنا بعيون نقدية منصفة؛ فنُميز بين “نص الوحي” و”اجتهاد البشر”، بين المقدس وما هو قابل للنقاش. وهذا التمييز لا ينقص من قيمة تراثنا، بل يعيده إلى مكانه الطبيعي: مرجعًا يُستلهم منه، لا صنمًا يُعبد.

وهنا أصل إلى لب هذه الرؤية: إنني لا أدعو إلى “ثورة” على الماضي، ولا إلى “قطيعة” مع التراث، وإنما إلى تحرير العلاقة بين العقل والإيمان من ثنائية الصراع، وإلى بناء وعي جديد يكون فيه العقل شريكًا للقلب، لا خصمًا له. وعندما يشتغل العقل في ظل الإيمان، يصبح الإيمان حرًا، ممتدًا، ومُلهِمًا؛ وكذلك، حين يتحرك الإيمان داخل فضاء العقل، يصبح العقل حيًا، عادلًا، ومتواضعًا.

إن ما أؤكد عليه هنا هو أن هذه التوصيات لا ترمي إلى إعادة إنتاج خطاب متعالي أو فرض رؤية مغلقة، بل تهدف إلى بناء وعي منفتح، يوازن بين الأصالة والتجديد، بين الإيمان والعقل، وبين التسليم للنص والقدرة على التأمل والسؤال، بل تسعى بصدق إلى تكوين جيل لا يخاف من السؤال، لأنه يعرف أن الحقيقة لا تهرب من الضوء، جيل لا يتشبث بالعقيدة خوفًا، بل يعانقها حبًا وبصيرة، جيل لا يقلد لأنه وُلد في بيئة معينة، بل يتفكر لأنه إنسان مُكرّم، جيل لا ينغلق على الماضي، ولا ينفصل عنه، بل يتصل به ليتجاوزه نحو أفق أرحب. وبهذا أجد أن هدفي الرئيس هو إعادة الاعتبار للإنسان وقدرته على أن يربط بين الإيمان والعقل، بين ثقافته وتراثه، وبين ذاته والعالم من حوله. وأنا لا أدّعي امتلاك الحقيقة، ولكني أرجو أن يكون هذا الجهد خطوة صغيرة على طريق طويل، تُسهم في بناء وعي نقدي راشد، يُنير طريق الإنسان دون أن يطفئ شعلة الإيمان في قلبه، ويحرّر عقله دون أن يفصله عن جذوره. فالحقيقة، كل الحقيقة، لا تتجلى إلا حين يجتمع العقل والقلب، ويتصافى الداخل والخارج، وتلتقي الأرض بالسماء في إنسانٍ يعرف أن السؤال ليس عدوًا للإيمان، ولا الإيمان خصمًا للعقل، بل هما جناحان لروحٍ لا تطير إلا بهما معًا. وهنا، أضع النقطة بعد سطر مفتوح، لأن البحث لا ينتهي، ولا ينبغي له أن ينتهي، مادام الإنسان في رحلة اكتشاف ذاته، وربه، وعقله.