وجاءكم النذير
2 ديسمبر، 2025
منبر الدعاة

بقلم الدكتور: إسلام عوض مدير تحرير بجريدة الأهرام المصرية
إنَّ حياةَ الإنسانِ على هذه الأرضِ مكتوبةٌ بأجلٍ معلومٍ لا تتغير ولا تتقدم ولا تتأخر، وعمره سرٌ إلهيٌ لا يعلمُه سواه سبحانَه، لكنَّ سعادةَ المرءِ وشقاءَه لا تتحدَّدُ بطولِ الأجلِ وحسب، بل بمزيجٍ من طولِ العُمرِ وحُسنِ العملِ.
فالنعمَةُ العُظمى أن يمتدَّ بكَ العُمرُ لتزدادَ قُربًا وطاعةً، وأما الشقاءُ الحقيقيُ فهو أن يتطاولَ بك العُمرُ لتتزايدَ معه الرغبةُ والاندفاعُ نحو الشهواتِ، والانغِماسُ في المعاصي دونَ التفاتةٍ لدارِ القرار.
لقد وضعَ اللهُ تعالى بين أيدينا آيةً ونذيرًا، حيثُ يقولُ في كتابِه العزيز:
(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)، وكأنَّ هذا التساؤلَ الإلهيَ يقطعُ حبلَ الأعذارِ ويُوقِظُ الغافلَ.
إنَّ الفهمَ العميقَ لهذه الآيةِ الكريمةِ يقتضي أنَّها ليست موجَّهةً حصريًا لمن بلغ الستين عامًا فحسب، بل هي نداءٌ لكلِّ نفسٍ مُكلَّفةٍ أدركتْ معالمَ الحياةِ واستطاعت أن تميز الحق من الباطلِ.
فكلُّ من تجاوز مرحلةَ الطفولةِ والجهلِ، وبدأ في العشرينياتِ أو الثلاثينياتِ أو الأربعينياتِ أو الخمسينياتِ إلخ..، فقد نالَ القدرَ الكافيَ من التعميرِ الذي “يتذكَّرُ فيه مَن تذكَّر”.
ففي هذه السنواتِ، تتكاملُ القُدرةُ العقليةُ ويتمُّ البُلوغُ، وتتجلَّى آياتُ اللهِ في الكَونِ والحياةِ، فلا عُذرَ بعد ذلك لأحدٍ في الغفلةِ والتسويفِ.
فالموتُ يأتي بغتة وليس له سنٌ معيَّنةٌ، ولا يحُولُ بينه وبين العبدِ لا صِغَرُ سنٍ ولا صِحَّةٌ جيدة، بل قد يباغِتُ الشابَّ في ريعانِ شَبابه، كما يباغِتُ الشيخَ الهَرِمَ.
وعلى كلِّ مَن مَدَّ الله له في العُمرِ أن يأخذَ حذرَه ويُبادِرَ بالتوبةِ والعملِ الصالحِ قبل فواتِ الأوان، وحتى لا يندم وقت لا ينفع ندم ولا مال وبنون.
ويأتي التفسيرُ النبويُ الشريفُ ليُوضِّحَ هذه المهلةَ الإلهيةَ التي تلي فترة “التذكر”، فقد روى الإمامُ البخاريُ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَعْذَرَ اللَّهُ إلى امْرِئٍ أخَّرَ أجَلَهُ، حتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً).
ففي هذا الحديثِ الشريفِ، نجدُ مفهومَ “الإعذارِ” بوضوحٍ تام، وهو بمعنى قَطعِ العُذرِ. فإذا مدَّ اللهُ لعبدِه في عُمرِه حتى وصلَ به إلى سِنِّ الستين، فقد أزالَ عنهُ حُجَّةَ الجهلِ أو قِصَرِ الوقتِ في ارتكابِ الذنوبِ، وجعلَه في مَنزلةِ مَن جاءه النذيرُ وهو الشيبُ وضعفُ القوى، وهي نُذُرُ الموتِ والرحيلِ الوشيك.
إنَّ بلوغَ الستينَ ليسَ مُجرَّدَ رقمٍ في سِجلِّ الحياةِ، بل هو علامةٌ فارقةٌ ومظنَّةٌ لانقضاءِ الأجلِ ، وبدايةُ الاستعدادِ الأخيرِ للقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
في هذا المنحدر العمريِّ، يجبُ على المرءِ أن يستيقظَ ويُنيبَ إلى ربِّه، فلا ينبغي له حينئذٍ إلا أن يُبادِرَ بالاستغفارِ الصادقِ ولزومِ الطاعاتِ والإقبالِ بكلِّ جوارحِه على الآخرةِ.
فالعاقلُ حقًا ليسَ مَن استمتعَ بشهواتِه حتى النهايةِ، بل هو الذي يُدرِكُ قِيمةَ ما تبقَّى من العُمرِ، فيجِدُ ويجتهدُ ليُرضيَ اللهَ سبحانَه، ويزرعُ الخيرَ بالعمل الصالح يجدهُ زادًا في طريقِه، فلا ينبغي له أن يُلهيَهُ الأملُ في حياةٍ طويلةٍ مُستمرَّةٍ عن العملِ الصالحِ الجادِّ، حتى لا يباغِتَه الموتُ وهو غافلٌ.
فالشيخوخةُ هي الصوتُ الخفيضُ الذي يُعلنُ اقترابَ موعدِ الرحيلِ عن دارِ الفناءِ، ويُلزِمُ مَن بلَغَها بالاستعدادِ التامِّ للِقاءِ ربِّه.. اللهم ارزقنا حسن الخاتمة.