العقل المحمدى ميزان الحكمة ومنارة الهداية
2 ديسمبر، 2025
خطب منبرية, منبر الدعاة

بقلم الدكتور : محمد أنور الأزهري الشافعي
إمام وخطيب ومدرس بالأوقاف
الحمدُ للهِ الهادي إلى سواء السبيل، واسعِ العطاءِ جميلِ الصفات، مُنزّلِ الكتاب، ومُرسلِ خيرِ من مشى على التراب. نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صاحبُ العقلِ الأكمل، واللبِّ الأتم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد…
فيا أيُّها الناس، إنّ العقولَ منازل، والأنفسَ مدارج، وما طَهُر عقلٌ كعقل محمد، وما سما فكرٌ كسناء فكره، وما أشرقت شمسُ بصيرةٍ كضياءِ بصيرته.
عقلٌ لو عُرِض على الجبال لخشعت، ولو قيس بالدهور لرجحت، جمَع الله له كمالَ النظر، وحكمةَ التدبير، ورجاحةَ الرأي، وصفاءَ الهداية.
إنّ رسول الله ﷺ لم يكن نبيًّا فقط، بل كان معلّمَ عقول، يُهذّب التفكير ويقوّم الرأي ويُعيد ترتيب المفاهيم.
كان عقلًا يزن الأمور بميزان الوحي، لكنه يفتح باب الاجتهاد، يفرّق بين الثابت والمتغيّر، بين ما يأتي من السماء وما يُترك للاجتهاد.
قال عليّ رضي الله عنه: “كان رسول الله ﷺ أبعد الناس همة، وأوقرهم رأيًا.”
وكان الصحابة كلما أشكلت عليهم مسألة قالوا: “انظروا ماذا يقول رسول الله”، لأنه لا يتكلم بطيش، ولا يفصل بعجلة، ولا يحكم لهوى.
1. عقلٌ يُحسن إدارة الخلاف
في صلح الحديبية، حين ضاقت صدور الصحابة، نظر إليهم النبي ﷺ بعقلٍ واسع الأفق، وقال: “إني رسول الله ولن يضيّعني الله.”
أدار الخلاف بصدرٍ رحب، وصبرٍ عظيم، ورؤيةٍ نافذة، حتى ظهر أن ما كرهه الصحابة يومها كان فتحًا مبينًا.
2. عقلٌ يربّي على السؤال والفهم
كان يقول للصحابة: “أتدرون ما الغيبة؟” “أتدرون من المفلس؟”
ليعلّمهم أن الفهم قبل الحكم، وأن التفكير قبل التنفيذ.
3. عقلٌ يوازن بين الدين والدنيا
دخل عليه ثلاثة شبّان فشددوا على أنفسهم، فقال ﷺ: “أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.”
هذه ليست جملة عابرة، بل درس للعقل: الدين ليس غلوًّا، ولا تطرفًا، ولا انغلاقًا، الدين ميزانٌ يزن الحياة بالقسط.
4. عقلٌ يبني ولا يهدم
دخل أعرابي المسجد فبال… فقام الصحابة ليمنعوه، فقال ﷺ:
“دعوه… لا تُزرِمُوه.” ثم علّمه.
وخرج الأعرابي يقول: “اللهم ارحمني ومحمّدًا، ولا ترحم معنا أحدًا!”، عقلٌ يُعامل الجاهل كجاهل، والضعيف كضعيف، ولا يحاكم الناس بنيّات لا يعلمها إلا الله.
كيف نصبح من أصحاب “العقول المحمدية”؟
الهدوء قبل الحكم :
كان ﷺ إذا غضب سكت… وإذا تكلم بيّن… وإذا حكم عدل.
علّم نفسك قراءة المآلات
ليس كلّ ما يراه الناس شرًا هو شر، وليس كلّ ما يراه الناس خيرًا هو خير، صلح الحديبية خير مثال.
اجمع بين العلم والإيمان
العقل بلا إيمان آلة صمّاء، والإيمان بلا عقل حماسٌ أعمى.
لا تجعل عدوّك خصمًا دائمًا
النبي ﷺ استطاع أن يحوّل أعداء الأمس إلى قادة الإسلام اليوم.
اعمل بالمعروف على قدر علمك، ولا تتكلف ما لا تُحسن
“كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.”
يا أيها المؤمنون…
إننا لا نحتاج اليوم إلى عقول حافظة فقط، بل إلى عقول محمدية: عقول تفهم، وتدبّر، وترى بنور الوحي، وتتحرك بالحكمة، وتزن الأمور بميزان الرحمة والعدل.
اللهم ارزقنا عقولًا راشدة، وقلوبًا عامرة، وبصائر منوّرة، واتباعًا صادقًا لسيّد العاقلين محمد ﷺ.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.