الرحمة في زمن الرقمنة: كيف نحفظ إنسانيتنا في عالمٍ افتراضي؟
2 ديسمبر، 2025
الإسلام وبناء الحضارة

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
مقدمة
لم يشهد الإنسان في تاريخه تحولًا حضاريًا كذاك الذي يعيشه اليوم؛ فقد أصبحت الشاشات نوافذنا إلى العالم، والهواتف بواباتنا للتواصل، والمنصّات ساحاتٍ لتبادل الآراء والأفكار والمشاعر.
عالمٌ جديد تتقاطع فيه الأرواح دون لقاء، ويُسمع فيه الصوت بلا نبرة، ويُقرأ فيه الحرف بلا وجه.
ومع هذا التطور الرقمي الهائل، ظلّ هناك شيءٌ واحد ثابت لم يتغيّر: القلوب.
فالقلوب لم تصبح رقمية، ولم تتحوّل إلى صورٍ أو أيقونات أو ردود أفعال.
القلوب بقيت كما خلقها الله: تتألم، وتُرهقها الكلمات، وتشفيها الكلمات، وتحمل همًّا، وتحتاج من يواسيها.
ولهذا فإن أعظم ما يحتاج إليه هذا الزمن هو الإنسان الرحيم الذي يذكّر الناس بأن وراء كل شاشة إنسانًا له مشاعر تستحق الاحترام.
معنى الرحمة في الرسالة الإسلامية
ليست الرحمة خُلقًا عابرًا في الإسلام، ولا صفةً تأتي في الهامش؛ بل هي الهوية الكبرى لهذه الأمة المباركة.
افتتح اللهُ تعالى سور كتابه بالرحمة، وعرّف ذاته لعباده بها فقال:﴿الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾.
ثم بعث نبيه ﷺ ليكون تجسيدًا حيًّا لهذا المعنى فقال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.
وكانت رحمة النبي ﷺ شاملةً لا تعرف حدودًا؛
رحمةً بالإنسان صغيره وكبيره، ورحمةً بالحيوان والضعيف، ورحمةً بالطبيعة وكلّ ما دبّ على وجه الأرض.
★فكيف لأمةٍ طُبِعت بالرحمة أن تُعرف بقسوة الكلمة وجفاء الأسلوب؟
★وكيف نقبل أن يتحوّل الفضاء الرقمي إلى ساحة نزاع بدل أن يكون منبرًا للسلام والمحبّة؟
إن المؤمن الحقّ هو من يحمل روح الرحمة معه حيثما حلّ؛
فإذا دخل بيته أشرق بلطفه، وإذا خالط الناس أضاء بحكمته، وإذا كتب كلمةً على شاشة كانت تلك الكلمة مرآةً لأخلاقه، لا خروجًا عن هُدي نبيّه.
العالم الافتراضي… واقعٌ جديد بقلبٍ قديم
يظنّ كثيرون أن الفضاء الرقمي عالمٌ بلا أثر، وأن الكلمة المكتوبة لا تبلغ من النفس ما تبلغه الكلمة المسموعة.
لكن الحقيقة أن الكلمة الرقمية تنفذ إلى القلب بلا حواجز، وتستقرّ في النفس قبل أن تجد فرصةً للدفاع أو التأويل.
فكم من كلمةٍ ساخرة تركت جرحًا غائرًا، وكم من تعليقٍ مستخفٍّ أطفأ جذوة أمل، وكم من منشورٍ جارح دفع إنسانًا إلى العزلة، وكم من حكمٍ متسرّع صنع جرحًا لا يُرى، لكنه يظلّ ينزف في الداخل.
وقد حذّر النبي ﷺ من خطورة الكلمة فقال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يُلقي لها بالًا، تهوي به في النار سبعين خريفًا.»
وفي المقابل قال ﷺ: «الكلمة الطيبة صدقة.»
فبين كلمةٍ تُسقط، وكلمةٍ تُنقذ، وبين جرحٍ تُحدثه عبارة، ورحـمةٍ تُحييها أخرى،
يبقى الاختيار لنا: هل نكتب نارًا تُؤذي، أم صدقةً تُنير الطريق؟
الأخلاق الرقمية… فقهُ حضور المسلم على منصّات التواصل
أضحت الساحة الرقمية ميدانًا يحتاج إلى فقهٍ تربوي راسخ يوجّه خُطى المسلم فيها، ويحفظ له نقاء الكلمة وطهارة القصد. ومن أبرز معالم هذا الفقه:
★فقه النيّة في الكتابة: فالكلمة أمانة، والكتابة عبادة إذا صَحَّت النيّة، فلْيكن قصدك دائمًا: نشرَ علم، أو إصلاحَ قلب، أو تطييبَ خاطر، أو تخفيفَ همٍّ أثقل روحًا.
★فقه التثبّت:قال تعالى: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾.
وفي عصر تتكاثر فيه الإشاعات، يصبح التثبّت فريضةً وعبادةً تُصان بها العقول من التضليل والنفوس من الفتنة.
★فقه الستر: وستْر العيوب اليوم لا يكون بإخفائها فقط، بل بعدم تداولها ونشرها أو التعليق عليها؛ فالمسلم ساترٌ لا فاضح، مُصلِحٌ لا مُشهِّر.
★فقه الرحمة عند الاختلاف: فالاختلاف سنّة ماضية، لكن الأخلاق هي الفيصل.
يقول الإمام مالك: «رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب.»
فما أحوجنا لهذا الأدب في ساحات تعجّ بالاختلاف وقليلٍ من اللطف.
★فقه الصمت: فليس كل معلومٍ يُقال، ولا كل مقولٍ يُنشَر.
وأحيانًا يكون الصمت صدقةً تُهديها، وتركُ التعليق رحمةً تقدّمها، وكفّ الأذى أبلغ من ألف كلمة.
وبهذا الفقه يظل حضور المسلم رقميًا امتدادًا لأخلاقه الإيمانية، ونورًا يُضيء لا نارًا تُحرق.
التربية الرقمية… مسؤولية الآباء والمربين والدعاة
لم تعد مسؤولية التربية قاصرةً على الأب في بيته، ولا على المعلّم في فصله، ولا على الداعية في محرابه؛ بل غدا الجميع شركاء في صياغة النفوس عبر كلمة تُكتب، وصوتٍ يُسمع، وتواصلٍ يتجاوز الجدران.
ومن الواجب أن نغرس في أبنائنا أن الشاشة ليست ساحةً لتفريغ الضغوط أو الانتقام النفسي، وأن اختلاف الآراء لا يبيح جفاء الأسلوب، وأن مزحةً تُضحك البعض قد تُبكي آخرين، وأن الله يطّلع على ما نخطّه بأصابعنا كما يطّلع على ما ننطق به بألسنتنا.
وأن قيمة الإنسان لا تُقاس بعدد المتابعين، بل بعدد القلوب التي يحييها، والأرواح التي يداويها، والآثار الطيبة التي يتركها أينما حلّ.
كيف نكون أصوات رحمة في عالمٍ يعجّ بالضجيج؟
أن نكتب بقلوبٍ لا بأصابع، وأن نزن الكلمة بميزان الرحمة قبل أن نرسلها.
أن ننشر الخير كما تُنشر الأخبار، فنُصْلِح ولا نُفسد، ونُهدي ولا نُؤذي.
أن نمسح على جراح الناس برسالةٍ هادئة، فربما كان حرفك بلسمًا لروحٍ متعبة، أن نتذكّر أن كل حساب خلفه إنسان،
وربّما كان هذا الإنسان في أمسّ الحاجة إلى كلمة لطيفة.
خاتمة
لقد تغيّر شكل الحياة، وتطوّرت وسائل التواصل، وتبدّلت الأساليب، لكن جوهر الإنسان لم يتبدّل،ما زال القلب قلبًا،
وما زالت الكلمة يمكن أن تُحيي أو تُميت، وما زالت الرحمة هي أجمل ما يُهدى للناس.
وفي زمنٍ افتراضيٍّ تحكمه السرعة، نحتاج إلى إنسان حقيقيٍّ يحكمه القلب.
فكن أنت هذا الإنسان،كن صوت الرحمة في عهد الرقمنة،
وكن نورًا لطيفًا يخفّف، لا ظلامًا يزيد الألم.