المقال السادس والعشرون من سلسلة (الاعجاز الطبى في القرآن والسنة)
اعداد الاستاذ الدكتور/ عبد الحميد محمد صديق استشارى الجراحة العامة
فإذا علمنا هذه الحقيقة وأضفنا إليها أن الدفقة الواحدة من منى الرجل تحمل ما بين مائتي مليون وألف مليون نطفة حيوان منوى، وأن الحد الأدنى للإخصاب يحتاج إلى كثافة لا تقل عن عشرين مليون نطفة في كل مليلتر من المني الذى يتكون من تلك النطف ومن سائل يشترك في إفرازه كل من الغدتين التناسليتين وعدد من الغدد الأخرى. وإذا علمنا أن من بين تلك البلايين من نطف الرجل التي تتحرك في اتجاه البويضة من أجل إخصابها لا يصل أكثر من خمسمائة نطفة وأن هذه النطف يتحلل أغلبها من أجل المساعدة على ترقيق جزء من جدار البويضة لتمكن نطفة واحدة منها مختارة بواسطة الإرادة الإلهية من الولوج إلى داخل البويضة من أجل إخصابها وتكوين النطفة الأمشاج.
وإذا علمنا أن الرجل يمكن أن يبقى نشيطاً جنسياً من لحظة بلوغه إلى لحظة مماته وأن هذه الفترة تمتد لأكثر من خمسين سنة في المتوسط فإن عدد النطف المنتجة من رجل واحد طيلة حياته تقدر بملايين الملايين لا ينجح منها في إتمام عملية الإخصاب إلا آحاد قليلة وقد لا يفلح أي منها في ذلك أبداً ، ولذلك قال تعالى: ” للهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يشاء الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكَرَانًا وإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ علِيمٌ قَدِيرٌ “. الشورى : ٤٩ – ٥٠ .
وبالإضافة إلى هذه القيود العديدة التي هي كلها من صنع الخالق العظيم وبين إصبعين من أصابعه فإن هناك قيودا أشد في الجانب الآخر فبينما للأنثى وهى جنين في بطن إمها ما بين أربعمائة ألف وستة ملايين بويضة فى مراحل تكوينها الأولى، فإنها إذا وصلت إلى مرحلة البلوغ لا يبقى في غدتيها التناسليتين سوى بضع عشرات الآلاف إلى ثلاثين ألف بويضة. تنمو منها بويضة واحدة كل شهر طوال فترة خصوبة المرأة المقدرة بحوالي عشرين إلى ثلاث وثلاثين سنة في المتوسط.
وعلى ذلك فإن مجموع البويضات التي يفرزها جسم المرأة البالغة لا يزيد على الأربعمائة ٤٠٠ يهلك جزءٌ كبيرٌ منها قبل الزواج، وفى غير فترات الحمل بعد الزواج.
فإذا أراد الله عز وجل أن يخلق الجنين حسب برنامج خلق بنى آدم والذي وضع في صلب أبينا آدم عليه السلام لحظة خلقه، اختارت يد القدرة الإلهية بويضة محددة من البويضات الناضجة ومكنتها من الخروج من خدرها في الزمان والمكان المحددين لملاقاة نطفة محددة من رجل معين كان الله تعالى قد اختاره لها، وذلك من أجل إخصابها وتخلق جنين محدد منهما، بصفات وراثية محددة في علم الخالق العظيم، سواء قدرت له الحياة أو لم تقدر فإذا لم يكن الله تعالى قد أراد لهذا الجنين أن يخلق فإن البويضة لا توفق إلى لقاء النطفة فتموت لأن عمرها محدد بأربع وعشرين ساعة فقط، وخصوبتها محددة بنصف عمرها أي باثنتي عشرة ساعة فقط.
وتذكر الدراسات الطبية أنه في مقابل كل نطفة انثوية بويضة تفرزها الزوجة، فإن الزوج يفرز بليون نطفة ذكرية حيوان منوى على الأقل وتصطفى القدرة الإلهية المبدعة من هذا الكم الهائل من النطف نطفة مؤنثة محددة، بصفات وراثية معينة لتلتقي بنطفة مذكرة محددة بصفات وراثية خاصة في زمان ومكان محددين ليتخلق في رحم الأم جنين بصفات وراثية معينة قدر الله تعالى له أن يكون منذ الأزل.
ومن الثابت أن البويضة قد تلقح ولا تخصب، وقد تخصب ولكن لسبب ما لا تستمر إلى مراحل التخلق التالية. فليست كل بويضة مخصبة مؤهلة للوصول إلى طور الجنين الكامل خاصة أن الإحصائيات الطبية تشير إلى أن ۷۸ % من كل حمل يجهض ويتم إسقاطه، وأن نحو ٥٠ % يفشل ويسقط قبل أن تدرك الأم أنها حملت بالفعل.
وفي ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ” اذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً فقال يا رب، مخلقة أو غير مخلقة، فإذا قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً ” أخرجه الإمام ابن أبي حاتم .
ومن صور الاصطفاء الإلهي للجنين تحديد جنسه: فاذا كانت النطفة المحددة التي اختارها الله تعالى بإخصاب بويضة محددة تحمل شارة التذكير Y جاء الجنين ذكراً بإذن الله وإن كانت تحمل شارة التأنيث X جاء الجنين أنثى بإذن الله ولذلك قال تعالى: ” وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذكر والأنثى * مِن نُّطْفَة إذا تمنى ” . النجم: ٤٥ – ٤٦ .
ومن أروع صورها الاصطفاء للجنين البشري وهو في بطن أمه هو ذلك الاصطفاء من مخزون الصفات الوراثية لكل من الأب وأسلافه والأم وأسلافها.
حتى يأتي الجنين حسب تقدير الله تعالى في عالم الذر في صلب أبينا آدم عليه السلام وذلك لأن عدد المورثات البنائية فى الشفرة الوراثية للإنسان يتراوح بين ثلاثين ألف وخمسة وثلاثين ألف مورثة وقد عرف من هذه الموروثات من يتحكم في تشكل الجنين.
ولذلك سميت مورثات التكوين والبناء ، ومنها ما يتحكم في تسوية أعضاء الجنين حتى يصل إلى شكله الكامل، ولذلك سميت باسم مورثات التنظيم والتسوية وما يتحكم فى الشكل والصورة وما يتحكم في كل من لون البشرة والشعر والعينين وفى طول القامة وقصرها، وغير ذلك من الصفات وهذه المورثات الجينات وغيرها .. وهى من خلق واختيار الله تعالى هي التي تتحكم في تحديد كل صفات الجنين التي تميزه عن غيره من المخلوقين ولذا قال تعالى: ” هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ” آل عمران : ٦.
وبالإضافة إلى هذه العمليات التصويرية لأجنة الناس في أرحام أمهاتهم فإن هذه الآية الكريمة تشير كذلك إلى طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في أن النطفة الأمشاج ـ البويضة المخصبة ـ هي كيان لا يتعدى قطره خمس المليمتر ۲۰۰ ميكرون ، تتحول إلى الحميل الكامل في فترة تتراوح بين ١٨٠ يوماً وهى أقل مدة الحمل و ٢٦٦ يوماً ، وهي أطول مدة للحمل ليصل طوله إلى نصف متر تقريباً.
وليحوى جسده ملايين الخلايا المتخصصة التي تنتظمها أنسجة متخصصة فى أعضاء وأجهزة محددة تعمل في توافق تام من أجل هذا المخلوق الجديد وذلك عبر مراحل محددة وصفها القرآن الكريم في عشرات الآيات من العلقة إلى المضغة المخلقة وغير المخلقة إلى خلق العظام. ثم كسوتها باللحم والعضلات والجلد ثم إنشائه خلقاً آخر. فسبحان الله الخالق البارئ المصور الذى أنزل في قرآنه الكريم منذ ألف وأربعمائة سنة حقائق معجزة أثبتها العلم الحديث بدقة متناهية !!